لا شك أن لألمانيا الاتحادية خصوصية كبيرة في التعامل مع
دولة الاحتلال
الإسرائيلي بعدما سامت اليهود سوء العذاب في الحقبة النازية، وهنا لا
أتطرق إلى صحة الحدث التاريخي من حيث أرقام الضحايا وإشكالية الرواية، أو إلى مصداقية
المؤرخ المتغلب في الحرب العالمية الثانية ودور الصهيونية العالمية في نسج خيوط الدولة
الوليدة، فهذا بحث تاريخي لا يجرؤ في طياته قلم على تحمل تبعات صريره.
كما أن ألمانيا جعلت من دولة الاحتلال الإسرائيلي وبقائها
متفوقة عسكريا وأمنيا مسألة أمنٍ قومي ألماني، وذلك على لسان المستشارة السابقة أنجيلا
ميركل، ويمكن للمراقب للشأن الألماني تتبع الانحياز الألماني الصارخ لدولة الاحتلال
على كل الأصعدة، مقارنة بما كانت عليه ألمانيا في عهد إعادة البناء الأول بعد الحرب
العالمية الثانية، مرورا بمستشاريها السابقين ولا سيما الراحل هيلموت شميت، وهو السياسي
المخضرم والمرجعية السياسية حتى وفاته في عام 2015، والذي انتقد موقف ميركل على أنه
تجنٍّ على الهوية الوطنية للدولة الألمانية. وكذلك أيضا دور ألمانيا في دعم
الفلسطينيين
وبناء مؤسسات فلسطينية ودورها في تمويل دعائم دولة فلسطينية، لا سيما تمويل بناء مطار
غزة الدولي وتشغيله، وهو الذي دمّره الاحتلال تدميرا شبه كامل في أثناء انتفاضة الأقصى.
ألمانيا التي تتباهى -وحُقّ لها ذلك التباهي- بديمقراطيتها
وليبراليتها ورصانة قانونها الأساسي في حماية الحريات والأقليات، تتباهى أيضا بدعمها
لـ"واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، كما يحلو لهم تسمية دولة
الفصل العنصري الإسرائيلية، في دول الغرب المجحفة تجاه الحقوق الفلسطينية المقررة أمميا،
وهي ذاتها التي انتقدت حكومة الاحتلال اليمينية قبيل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر
الماضي، وندّدت بتصريحات وزراء فيها، وأبقت على نغمة أوروبية معهودة في مسألة حل الدولتين
والمفاوضات ورفض الاستيطان.. إلخ..
من كل ما سبق ذكره، تأتي أهمية مراقبة ألمانيا السياسية
وكذا الشعبية في التعامل مع حرب
الإبادة الجماعية في غزة وجرائم الاحتلال الإسرائيلي
في فلسطين، من خلال محاور عدة يرى المتابع فيها اختلال موازينَ نُصبت وقوانينَ نُصَّت
وأدبيات نُقشت ومواقفَ عهدناها دأبت على تكرارها دول الغرب، لا سيما ألمانيا الاتحادية.
أهمية مراقبة ألمانيا السياسية وكذا الشعبية في التعامل مع حرب الإبادة الجماعية في غزة وجرائم الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، من خلال محاور عدة يرى المتابع فيها اختلال موازينَ نُصبت وقوانينَ نُصَّت وأدبيات نُقشت ومواقفَ عهدناها دأبت على تكرارها دول الغرب، لا سيما ألمانيا الاتحادية
إن ألمانيا قبل السابع من أكتوبر ليست كتلك التي بعدها
مباشرة وخلال الأيام المئة الأولى من الحرب، وقطعا ليست هي ألمانيا التي تغيرت في تعاملها
مع القضية الفلسطينية بشكل عام وحرب الإبادة الجماعية في غزة بشكل خاص خلال المئة الثانية
للحرب..
ونذكر هنا محاور التغيير بشكل مفصل، واختصارا للأمثلة على
كثرتها:
المحور الأول: مشاهير ألمانيا في الميزان
كسر حاجز الخوف عند شخصيات عامة وساسة ألمان وإعلاميين
في توصيف الحرب القائمة على أنها حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي.. وهنا نذكر مثالا لا
حصرا، الممثل الكوميدي الألماني المخضرم ديدي هالرفوردن والممثل الألماني من أصل تركي
كايا يانار، الذي يُعدّ الأشهر بين فئة الشباب وأحد أيقوناتها، ومثلهم كُتّاب وسياسيون
وإعلاميون كثر..
المحور الثاني: تحول الزخم الإعلامي
انتقال الزخم الإعلامي المنحاز توجّها وأداء ومحتوى لدولة
الاحتلال منذ بداية الحرب، من التحدث المطلق بلسان سردية الاحتلال إلى محاولة إمساك
العصا من المنتصف تارة، والانتقاد الخجول للاحتلال تارة أخرى.. ومن الملاحظ أن هناك
محاولات للعب دور العالمية من خلال التغطية توافقا مع النسق العام للصحافة العالمية
المؤثرة، الأمريكية منها على وجه الخصوص.
المحور الثالث: الحريات بين مطرقة التاريخ وسندان الدستور
تخبُّط قانوني وحقوقي واستخدام أساليب الأنظمة الشمولية
والدول البوليسية في ملاحقة النشطاء وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات بشكل متسارع، كأن
النظام الألماني يسابق الزمن كي لا يمسك عليه ممسك من قبل قوى ضغط بعينها فيما يخص
الإرث التاريخي واتهامها بالسماح بمعاداة السامية، ضاربة عرض الحائط بكل التوصيات الحقوقية،
كتلك التي صدرت مثالا لا حصرا من منظمة العفو الدولية.
المحور الرابع: معضلة الجنائية الدولية
ألمانيا تسابق الزمن وتجيش قواعدها الإعلامية والدبلوماسية
والقانونية لتذبّ عن نفسها اتهامات الجنائية الدولية، وتستخدم لعبة المصطلحات وتشويه
سمعة الخصوم (نيكاراجوا) للمتابع خارج ألمانيا، واستغلال سطوة الخوف من الاتهام بمعاداة
السامية وخلط الأوراق بربط دعم الاحتلال بمسؤوليتها التاريخية أمام المتابع داخليا
وخارجيا.
المحور الخامس: هل استقلت ألمانيا فعلا؟!
ألمانيا انتقلت من المدافع الأول عن أوروبية أوروبا واستقلالية
اقتصادها وسياستها الداخلية والخارجية إلى تبعيتها للسياسة الأمريكية بشكل فاضح، بعيدا
عن النسق الأوروبي العام، لتصبح دولة منزوعة السيادة والإرادة، تُبتزُّ حتى من نخبتها
الصهيونية العقيدة والتوجّه.
المحور السادس: توسع التضامن وتنوع أربابه
آخر استطلاعات الرأي لمراكز ألمانية ذات مصداقية عالية، نقل عنها التلفزيون الألماني الرسمي، والتي أعربت عن عدم تأييد أكثر من 70 في المئة من الألمان لعملية الاحتلال الإسرائيلي في غزة، بل ومعارضة 87 في المئة من الألمان لسياسة التجويع التي تستخدمها دولة الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني
توسُّع رقعة التضامن بشكل غير مسبوق، وتنوُّع الوجوه والتوجهات،
وبروز تحالفات ومكونات وإنشاء أخرى جديدة، وتطوُّر أداء النشطاء وجرأة الطرح لكي تتغلّب
الساحة الألمانية على مكبِّلات الحراك التضامني من مثقلات الإرث التاريخي والقيود القانونية
المفتعلة.
وهنا نشير إلى آخر استطلاعات الرأي لمراكز ألمانية ذات
مصداقية عالية، نقل عنها التلفزيون الألماني الرسمي، والتي أعربت عن عدم تأييد أكثر
من 70 في المئة من الألمان لعملية الاحتلال الإسرائيلي في غزة، بل ومعارضة 87 في
المئة من الألمان لسياسة التجويع التي تستخدمها دولة الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني.
الجدير بالذكر أن هذه النسب كانت على النقيض تماما كَمّا ودلالة بعد السابع من أكتوبر
مباشرة، إذ إن غالبية الألمان كانت تؤيد دولة الاحتلال في حربها على غزة في استطلاع
للرأي مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.
المحور السابع: إنصاف القضاء الألماني كملجأ أخير
تفوُّق النشطاء والإطارات القانونية لها بتفعيل أوراق القضاء
العاجل، واستصدار أحكام إدارية فورية واعتمادها والبناء عليها على المدى المتوسط والبعيد،
لاختراق جُدر التحجيم والتقليل من شأن الحركة التضامنية وتعاظمها، أو إظهار نمطية الحراك
وضعفه واقتصاره على الفاعل الأجنبي أو المسلم المُدان ضمنا، وكذلك انتزاع انتصارات
قضائية للانتقال من جهة الدفاع عن الحقوق الفردية المكفولة في الدستور التأسيسي إلى
جهة الهجوم قضائيا وإعلاميا على من يسلب الأفراد والجماعات حقوقها الدستورية.
المحور الثامن: تفريخ الأنشطة
تحوُّل الحراك من الشارع على شكل مظاهرات نمطية جرت العادة
على ترديد بعض الهتافات فيها، إلى تفريخ الأنشطة المتنوعة؛ الأكاديمية والفنية والطلابية
والإعلامية والقانونية والتعريفية والسياسية، واقتحام الذهنية الألمانية المنضبطة بل
والسلبية، والزامها بمغادرة مطارح راحتها والانتقال إلى التفاعل والبحث وإعادة التموضع.
المحور التاسع: الحراك التضامني ينافس العالمية
مواكبة الحراك في ألمانيا للحراك العالمي، بعد أن كانت
الدعوة إلى مظاهرة في بداية الحرب مخاضا مؤلما ومحبطا، وأصبحت ساحة البرلمان الألماني
ومكتب المستشارية ساحات اعتصام مفتوح، وأصبحت الجامعات منتديات لإبراز مكانة المتضامنين
عددا وثقافة وقوة في الحجة ومبارزة لشخصيات صهيونية أو حتى تلك المنتدبة من دولة الاحتلال
بشكل مباشر.
المحور العاشر: إحراج النخبة
ألمانيا الآن أمام تمحيص تاريخي تصحح فيه مسارها المسؤول عن محرقة اليهود وتتشبث بدولة القانون والحريات وتطبق دستورها الأساسي الذي يحميها من الزلل إلى مهاوي الشمولية والمُرُوق وتدافع عن مقدرات الأمة الألمانية وسيادتها وتلتزم بمواثيق الأمم المتحدة والقانون الدولي.. كل ذلك لا يتأتى بالتنكر للحقوق الفلسطينية أو بالتغطية على جرائم الاحتلال وحكومته الفاشية أو بمهادنة المجرمين فيها؛ وفوق كل ذلك لا يمكن لألمانيا أن تغسل تاريخها بدم الشعب الفلسطيني الأعزل
التئام التوجُّهات المختلفة وبروز منظماتٍ يهودية وإعلاميين
يهود ألمان متضامنين، مما أحرج النخبة الألمانية الرسمية واخترق عباءة التاريخ بثقله
ورجالاته.
وما زال أهل الخبرة والإنصاف والحقوقيون وغيرهم ممن يريد
لألمانيا أن لا تقع في ذات الخطأ التاريخي كفاعل مباشر في إبادة جماعية ضد اليهود والغجر
وأقليات أخرى وشعوب أفريقية قبل ذلك؛ يحذرون ألمانيا من أن ترتكب الجرم ذاته اليوم
بسكوتها المعيب، بل ودعمها المباشر للإبادة الجماعية في فلسطين، ولا يريدون لها أيضا
التنكّر لمبادئها وقانونها الأساسي بتكميم الأفواه ومصادرة الحريات وتضييق الخناق على
النشطاء وملاحقة المحتوى الفلسطيني وداعميه حتى من الجالية اليهودية الألمانية. فما
زالت نخبة ألمانيا ترفع شعار "لن يحدث أبدا.. يعني الآن"، ويُقصد بها لن
نسمح بتكرار جرائم الإبادة النازية، ولن نترك مجالا لحدوثها أو السماح بذلك لمثيلاتها..
لذا فألمانيا الآن أمام تمحيص تاريخي تصحح فيه مسارها المسؤول
عن محرقة اليهود وتتشبث بدولة القانون والحريات وتطبق دستورها الأساسي الذي يحميها
من الزلل إلى مهاوي الشمولية والمُرُوق وتدافع عن مقدرات الأمة الألمانية وسيادتها
وتلتزم بمواثيق الأمم المتحدة والقانون الدولي.. كل ذلك لا يتأتى بالتنكر للحقوق الفلسطينية
أو بالتغطية على جرائم الاحتلال وحكومته الفاشية أو بمهادنة المجرمين فيها؛ وفوق كل
ذلك لا يمكن لألمانيا أن تغسل تاريخها بدم الشعب الفلسطيني الأعزل ولا أن تُنصّع جبينها
بدعم محرقة صهيونية ضد أطفالنا ونسائنا وتدمير ذكرياتنا التي احتوت الهاربين والناجين
من الفاشية الأوروبية عموما والمحرقة النازية على وجه الخصوص.