بخطابه يوم الثلاثاء الماضي 2 أبريل نيسان 2024 في مقر البرلمان
المصري (الجديد) في العاصمة الإدارية (الجديدة) التي لا تجمل اسما حتى الآن، وإن
كان الإسم في بطن الشاعر، اعتبر السيسي ذلك تدشينا رسميا لجمهوريته (الجديدة) التي
لطالما بشر بها منذ العام 2015، والتي لطالما وضعت القنوات التلفزيونية التابعة
للسلطة شعارها على شاشتها.
مفهوم الجمهورية الجديدة يشير إلى تغير جذري في شكل الدولة أو شكل
نظام الحكم، وهو مفهوم مستورد أساسا من فرنسا التي تقلبت بين عدة أشكال للحكم،
وكان أبرزها هو الانتقال عام 1958 من النظام البرلماني الكامل إلى النظام شبه
الرئاسي الذي لا يزال ساريا حتى اليوم فيما يسمى الجمهورية الخامسة، فهل حدث تغيير
جذري في شكل الدولة المصرية أو نظام حكمها يمكن أن يستحق مسمى الجمهورية الجديدة؟
الحقيقة أن مصر تغيرت فعلا، ولكن إلى الأسوأ، وهذا الأسوأ ليس جديدا
بالكلية بل هو وصل لمسيرة حكم عسكري منذ العام 1952 لم ينقطع سوى لمدة عام واحد
(من منتصف 2012 ـ منتصف 2013 وهي فترة حكم الرئيس المدني الدكتور محمد مرسي)، لكن
أصحاب الجمهورية الجديدة يقصدون معاني أخرى عبر عنها السيسي ورجاله بصياغات
متنوعة، فمصر في نظره لم تكن دولة حقيقية بل كانت "حاجة وقالوا له خد دي ..
بتعبيره"، ومصر كانت شبه دولة بتعبير آخر له، وبالتالي فهو الذي حولها إلى
دولة!!، وكأن الدولة المصرية لم تنشأ إلا مع استلام السيسي لحكمها عقب انقلابه
المشئوم!!.
ما هي إذن ملامح الجمهورية الجديدة التي يتغنى بها السيسي وإعلامه؟
هي أساسا مجموعة من الإنشاءات الضخمة التي لا تخطئها عين، والتي كلفت الدولة
مليارات الدولارات، وأغرقتها في مليارات الديون، دونما دراسة جدوى، ودونما احتياج عاجل لها، لقد استدان النظام 125 مليار
دولار من الخارج بعد 2013 ليرفع إجمالي الديون الخارجية إلى 168 مليار دولار
(بخلاف ما يعادل 250 مليار دولار ديون داخلية) من أجل هذه الإنشاءات التي استهدف
بها تأسيس جمهورية جديدة، وتكلفت عاصمتها الإدارية الجديدة وحدها الخمسين مليار
دولار، وهي بذلك العاصمة القاصمة، بمعنى أنها قصمت ظهر الاقتصاد المصري، وأدخلته
في دوامه الديون الأجنبية المسمومة التي لا تستطيع الدولة سدادها إلا عبر ديون
جديدة كما هو الوضع الآن.
لنتعرف إذن على الملامح الأخرى لهذه الجمهورية الجديدة بخلاف
المشروعات العقارية الضخمة، والقصور الرئاسية، وأعلى برج في أفريقيا، وأعلى سارية
علم في العالم، وأكبر مسجد، واكبر كنيسة، وأكبر قاعة برلمان، فهناك أيضا القطار
الكهربائي، وهناك المونوريل، وهناك تفريعة قناة السويس التي تم تضخيم اسمها إلى
قناة السويس الجديدة رغم أنها مجرد تفريعة سبقتها عدة تفريعات في عهدي السادات
ومبارك، وقد ابتلعت هذه التفريعة 8 مليارات دولار.
من أبرز ملامح الجمهورية الجديدة استرداد حكم الفرد المطلق، بطريقة
أكثر صرامة مما كان في عهود الحكام العسكريين السابقين، فنحن الآن أمام حاكم يطلب
علنا من شعبه أن لا يسمع كلام أحد غيره، وأنه طبيب الفلاسفة، والأهم من كل ذلك أنه
اختيار إلهي، مستشهدا بآيات قرآنية ترسخ هذا المعنى " رب قد أتيتني من
الملك..."" تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء"، لقد كان
واضحا مدى استهتاره بالانتخابات والصناديق في كل دوراته الانتخابية، فلم يقدم في
أي منها برنامجا انتخابيا مثل أي مرشح، ولم يقدم حتى الآن إقرار الذمة المالية وهو
أحد شروط الترشح وتولي السلطة، ولم يقم أي مؤتمر انتخابي أو يخوض حوارا بشأن ترشحه
مثل باقي المرشحين، وحين عقدت إحدى القنوات التلفزيونية حلقة نقاشية بين المرشحين
في الانتخابات الرئاسية الأخيرة فإنه لم يحضرها بل استنكف حتى عن إرسال مدير حملته
الانتخابية مكتفيا بأحد موظفي الحملة في مواجهة 3 مرشحين هم 3 رؤساء أحزاب أخرى!!.
في الجمهورية الجديدة لا مكان للدستور، فالحاكم هو الدستور، والدستور
المكتوب الذي جرى عليه استفتاء الشعب هو مجرد كلام "مكتوب بحسن نية، والدول
لا تبنى بحسن النوايا !!" ـ حسب تعبير السيسي ـ ولذلك فهو دستور خاضع للتعديل
حسب الطلب، تم تعديله في 2029 لتمديد فترة
الرئاسة بالمخالفة لنص حاكم في الدستور
نفسه يمنع ذلك، وتجري الآن مشاورات لإدخال تعديلات جديدة عليه تنزع ما تبقى من روح
ثورة يناير فيه، وتفتح الباب لمدد جديدة للسيسي الذي يفترض أنه يقضي الآن دورته
الأخيرة في الحكم.
يمكن القول أننا أمام جمهورية الخوف، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الحاكم، وهكذا جمهورية لا تصنع ازدهارا ولا استقرارا طبيعيا ومستداما، فالأهم لديها هو الحفاظ على استقرار الحكم حتى لو تم التفريط في أجزاء من الدولة، أو سيادتها أو مكانتها الإقليمية والدولية، أو إغراقها في سيل من الديون التي تعجز عن سدادها أجيال مقبلة..
في الجمهورية الجديدة لا مجال لحرية التعبير ولا التداول السلمي
للسلطة، ولا للقضاء العادل، ولا لحرية الإعلام، ولا للحريات الأكاديمية، ولا
للحريات النقابية، ولا للحريات الطلابية، ولا لحرية الإبداع، باختصار لا مجال لأي
نوع من الحرية، سوى حرية أن تعيش مواطنا كسيرا، تلهث طوال يومك لتوفير الحد الأدنى
من الحياة لأسرتك، أما الاهتمام بالعمل العام فهو جريمة يعاقب مرتكبها بالسجن أو
الفصل أو الطرد من الوطن، نذكر هنا أنه تم اعتقال العديد من النشطاء السياسيين
الذين شاركوا في مظاهرة أمام نقابة الصحفيين رفضا للعدوان الإسرائيلي في اليوم
التالي مباشرة لخطاب تنصيب السيسي لفترة ثالثة والذي تحدث فيه عن "دعم حالة
الانفتاح السياسي !!" لينضموا إلى ستين ألفا لا تزال تعج بهم السجون التي جرى
بناء المزيد منها خلال السنوات العشر الماضية لتستوعب النزلاء الجدد.
في الجمهورية الجديدة لا مجال لتعليم حقيقي، "فماذا يفيد
التعليم في وطن ضايع؟" كما قال السيسي، ولأنه لا أولوية للتعليم فإن الإنفاق
عليه من فضل ما تجود به الموازنة، وليس النسبة التي خصصها الدستور( 7% للتعليم
العام والعالي والبحث العلمي)، في مقابل تخصيص ميزانيات أكبر للتعليم العسكري،
واهتمام خاص بحضور حفلات تخرج طلابها، وقل مثل ذلك على الصحة.
في الجمهورية الجديدة جرى تأميم العمل الأهلي، فكل الجمعيات الأهلية
والخيرية تم ضمها قسرا لما يسمى التحالف الوطني للعمل الأهلي، والذي هو مؤسسة
"جديدة" من مؤسسات الجمهورية "الجديدة" بديلا للاتحاد العام
للجمعيات الأهلية الذي كان المظلة الجامعة للعمل الأهلي خلال العقود الماضية، وفي
الجمهورية الجديدة بدأ هذا التحالف الوطني نشاطه قبل أن يصدر له قانون رسمي!!، كما
تم إنشاء جمعيات خيرية جديدة تابعة للأجهزة الأمنية وتسويقها إعلاميا عبر قنوات
الدولة الجديدة أيضا، لتصبح بديلا للجمعيات الخيرية العتيقة.
وبمناسبة الحديث عن الإعلام فإن الدولة الجديدة أصبحت تمتلك إعلاما
خاصا بها، ممثلا في مجموعة من القنوات والصحف والمواقع الإلكترونية التي تم
تأسيسها من خلال شركات تابعة للمخابرات( تحتكر تقريبا الإنتاج الفني أيضا)، أو من
خلال انتزاعها من أصحابها من رجال الأعمال، وأصبحت هذه القنوات تدار من خلال ضابط
ممسك بجهاز موبايل ماركة"سامسونج" يرسل من خلاله التوجيهات والمضامين
المطلوب تسويقها، ورغم الإبقاء على الإعلام القديم حتى الآن ممثلا في الإذاعة
والتلفزيون الرسمي (20 قناة تلفزيونية عامة وعشر شبكات إذاعية) بالإضافة إلى المؤسسات
الصحفية القومية الثمانية بصحفها ومجلاتها، إلا أن الدولة الجديدة لن تتمسك طويلا
بهذا الإعلام القديم وستتركه يذبل ويموت من تلقاء نفسه، حتى لو استغرق ذلك بعض
الوقت.
باختصار يمكن القول أننا أمام جمهورية الخوف، حيث لا صوت يعلو فوق
صوت الحاكم، وهكذا جمهورية لا تصنع ازدهارا ولا استقرارا طبيعيا ومستداما، فالأهم
لديها هو الحفاظ على استقرار الحكم حتى لو تم التفريط في أجزاء من الدولة، أو
سيادتها أو مكانتها الإقليمية والدولية، أو إغراقها في سيل من الديون التي تعجز عن
سدادها أجيال مقبلة..