شكلت
مكتبة الجامع العمري "الكبير" في مدينة
غزة مرتكزا مهما
في حفظ الذاكرة
التاريخية للشعب
الفلسطيني، والوعاء الحاضن للذاكرة الفلسطينية
الغزيّة الثقافية الشاملة التي أصبحت جزءا من النضال الفلسطيني، وذلك من خلال
احتضانها لشتى أنواع المعرفة والعلوم قبل تدميرها من قبل طائرات الاحتلال.
مارست هذه المكتبة التي تقع في الجانب الغربي من المسجد بعد مدخل من
البوابة الغربية؛ نشاطًا ثقافيًا وفكريا تمثل ذلك بكثرة روادها من مختلف شرائح
المجتمع العربي والفلسطيني قبل تعرضها للقصف من قبل طائرات الاحتلال في حرب
الإبادة على غزة ضمن تدمير المسجد نفسه وذلك في محاولة لمحو هذه الذاكرة واعدام
الشواهد من كتب ومراجع التي تؤكد على حق الشعب الفلسطيني بأرضه.
وقال المؤرخ الدكتور عبد اللطيف أبو هاشم مدير المخطوطات والآثار
بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية وصاحب عدة مؤلفات حول معالم غزة
التاريخية ومساجدها: "إن المكتبة كانت توفر الكثير من المخطوطات والكتب والصحف
والمجلات والنشرات المتنوعة فيها والنادر والتي يصعب تعويضها".
عبد اللطيف أبو هاشم مدير المخطوطات والآثار بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية
وأضاف أبو هاشم لـ
"عربي 21": "عملت مكتبة الجامع
العمري في غزة بوصفها مؤسسة ثقافية عامة مفتوحة لكافة شرائح المجتمع، لأنها تؤدي
دورًا اجتماعيًا مهمًا في نشر الثقافة وتشجيع القراءة، وذلك من خلال دورها المؤثر
في فلسطين عامة وفي مدينة غزة خاصة، ومن هنا نستنتج أهمية الحركة الثقافية في
مدينة غزة التي نشأت وازدهرت في ظل وجود هذه المكتبة".
واعتبر المكتبة من أهم المؤسسات الثقافية التي تساعد على تثقيف الفرد
والمجتمع وتنميته وتوعيتهم.
وقال: "إنّ مكتبة الجامع العمري هي الوعاء الحاضن للذاكرة
الفلسطينية الغزيّة الثقافية الشاملة فهي تعتبر منارةً للمعرفة في مختلف تجلياتها
ومصادرها، حيث إنّ محتويات مكتبة الجامع العمري من الكتب التي كانت تعطي جميع
المعارف والفنون السائدة ومن الفلسفة والطب والفقه واللغة، والفلك والرياضيات
والطبيعيات والتاريخ والجغرافيا وغيرها".
وأعرب أبو هاشم عن حزنه وألمه لتدمير المسجد العمري ومكتبته بهذه
الطريقة الإجرامية، مشيرا إلى أن هذه المرة الثانية في التاريخ التي يقصف فيها
المسجد العمري، مؤكدا أن قسما كبيرا منه تم تدميره إبان الحرب العالمية الأولى إثر
القصف البريطاني عليه؛ وتركز الدمار في الجانب الشرقي منه وأعيد بناؤه على يد
المجلس الإسلامي الأعلى عام 1345هـ.
واعتبر المؤرخ الفلسطيني أن مكتبة المسجد من أهم دور الكتب
والمخطوطات في فلسطين، وتضاهي بذلك مكتبة المسجد الأقصى، ومكتبة أحمد باشا الجزار،
وغيرها من المكتبات ودور الكتب التي احتوت على ذخائر ونفائس التراث.
وأشار إلى أنه كان يوجد فيها عشرون ألف مجلد في مختلف العلوم
والفنون، إلا أنها تعرضت للسرقة والعبث والاستهتار بكنوز الأجداد حيث ظلت عامرة
حتى مجيء الحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام ثم تفرقت تلك الكتب القيمة من
مخطوطة ومطبوعة ونالت مكاتب القاهرة وباريس وبرلين منها قسطاً وافراً وحظاً عظيماً.
وأكد المؤرخ الفلسطيني أن هذه المكتبة تحتوي على 187 مخطوطة ما بين
مصنف كبير ورسالة صغيرة، ويعود تاريخ نسخ أقدم مخطوط إلى سنة 920هـ.
ومن جهته شدد بسام حسونة، مدير الشهيد مكتب وزارة الثقافة الفلسطينية
في غزة على أهمية مكتبة المسجد العمري في تاريخ الشعب الفلسطيني وثقافته ونشر
العلم في غزة على وجه الخصوص.
الشهيد بسام حسونة مدير وزارة الثقافة في غزة
وأشار حسونة في حديثه لـ
"عربي 21" (قبل استشهاده) إلى
دورها في إحياء الحركة العلمية في مدينة غزة، مؤكدا أنها كانت تعتبر من أهم دور
الكتب والمخطوطات في فلسطين، وهي ثالث أكبر مكتبة في فلسطين بعد مكتبتي المسجد
الأقصى المبارك، ومكتبة أحمد باشا الجزار عكا، وغيرها من المكتبات ودور الكتب التي
احتوت على ذخائر ونفائس التراث.
وقال: "لقد ساهمت مكتبة الجامع العمري الكبير في ارتقاء ثقافة
أهل مدينة غزة والنهوض بمجالها العلمي داخل غزة وخارجها، التي جعلت منها المنارة
الراقية وملجأ العلماء والشيوخ والأدباء".
وأضاف: "أي احتلال على مر التاريخ كان ديدنه في تدمير المكتبات
لهدم ثقافة الأمم منذ التتار وما أحدثوه في مكتبات وثقافة وحضارة العراق، ومن بعده
الأمريكان ومرورا بما حدث في غزة من تدمير للمكتبات والمراكز الثقافية والأثرية
وعلى رأسها مكتبة المسجد العمري".
واعتبر حسونة أن الاحتلال بكل أنواعه يسعى لتدمير كل ما يمت لثقافة
أي شعب يحتله لأنه لا يفتقر إلى كنز من الحضارة والثقافة التي يمتلكها العالم
العربي والإسلامي، لذلك يسعون لتدميرها.
واستعرض ما حدث في بغداد إبان احتلال التتار لها ثم الأمريكان مطلع
القرن الجاري، مرورا بالاحتلال الإسرائيلي وما فعله في فلسطين وغزة.
وقال حسونة: "ذهب الاحتلال إلى تدمير المساجد والمكتبات ودور
النشر والتوزيع والمواقع الأثرية وكل ما يمت للحضارة العربية والإسلامية والثقافة
الفلسطينية التي ساهمت في إغناء الثقافة الإنسانية وغرست هذا الإرث الإنساني على
مدار مئات السنين من خلال العشرات من العلماء والشعراء ورجال الفكر، مثل: محمود
درويش، وسميح القاسم، وإميل حبيبي".
وترجع نشأة هذه المكتبة بحسب نريمان خلة الباحثة في التاريخ والآثار
إلى الظاهر بيبرس البندقداري الذي أقام بها المنشآت من مساجد وزوايا ومستشفيات
وبيمارستانات ومكتبات، فكانت هذه المكتبة تسمى في السابق "مكتبة الظاهر بيبرس".
نريمان خلة.. باحثة في التاريخ والآثار
واستعرضت خلة مقولة الشيخ عثمان الطباع وهو من أهم مؤرخي مدينة غزة
في مقدمة سجل المكتبة الجامع العمري الكبير: "لما كانت غزة من المدن التي لها
قيمتها التاريخية، وامتازت في سائر أدوارها بجميع خصائص المدن، ودواعي التقدم في
الحضارة والمدنية، وكانت من الناحية العلمية والأدبية أرقى منها من الناحية
الزراعية والصناعية، ولذلك وجد بها كثير من المدارس العلمية، أقدمها أو الباقي
منها مدرسة الجامع الكبير العمري".
وقالت خلة لـ
"عربي21": "نبغ من مكتبة الجامع العمري
رجال أعتد التاريخ بهم، واعتنى بتخليد تراجمهم، وأسفر عن مؤلفاتهم الجليلة
ومناقبهم الجميلة، وكان يوجد بها مكتبة عظيمة حوت من كتب العلوم الإسلامية أجلها
وأنفسها، يرجع الفضل فيها إلى ملوك الجراكسة الذين كانوا يتبارون في تشييد المعاهد
الدينية والآثار العلمية".
وأضافت أن "الملك الظاهر بيبرس الذي يسميه المؤرخ الألماني
(جرن) أي الملك الدرويش أقام من المساجد والزوايا والبيمارستانات والمستشفيات
والمكتبات في فلسطين، وبلاد الشام ومصر والحجاز ما لم يقمه ملك آخر، وكذلك زوجته
(تاج بخت) ابنة ملك خراسان من العجم، فإنها أنشأت دور علم عديدة حتى في مدينة غزة،
فنالها من برها وبر زوجها الملك الظاهر ما نالها.
وأكدت خلة أن زوجة الملك الظاهر بيبرس أنشأت بجوار المسجد العمري
الكبير مكتبة، وأمدها بمدرسة ومستشفى ومنتزه، وكانت المكتبة تحتوي على "نيف
وعشرين ألف كتاب" في مختلف العلوم والفنون، وكانت ذات غرف أربع وإيوانين
للمطالعة، بينهما حديقة صغيرة، وكان للمكتبة نظام فريد، وكانت تسمى مكتبة الظاهر،
إلا أن "السلطان قلاوون" زعم أن وجودها قرب المسجد يعكر على المصلين
فهدمها، وبنى مكاناً لها قرب زاوية أبي العزم وابن مروان.
وأشارت إلى أنه تم نقل المكتبة، وأطلق عليها اسم "مدرسة المنصور
قلاوون ومكتبته"، وظلت هذه المكتبة معمورة إلى أن انتهى ملك الملك المنصور
قلاوون، وولده الملك الناصر محمد، والملك الأشرف خليل وبن أخيه، وباقي أخلافه، حتى
ولي الملك العادل قايتباي، فأراد أن ينتقم للملك الظاهر من قلاوون في آثاره،
ومخلفاته لكن رجال بطانته منعوه، وأشاروا عليه بإنشاء مؤسسات أخرى باسمه أي باسم
الملك الظاهر بيبرس.
وقالت خلة: "إن السلطان قايتباي ترحل في فسيح ملكه ووسيع أرضه،
وأول ما نزل مدينة غزة وحاكمها يومئذ ماهان بن عيسى بن ماهان، كردي الأصل من
سلالة السلطان صلاح الدين الأيوبي، وأطلعه ماهان على أعمال سلفه السلطان قلاوون في
آثار الملك الظاهر بيبرس، وأشار عليه بإعادة المكتبة بقرب المسجد الكبير العمري
كما كانت إذ إن ذلك أولى وأنسب، فأعادها ونقل الكتب إلى المكان المعروف اليوم
بالمدرسة الحسينية، ثم الغصينية، ثم أمر السلطان قايتباي ببناء مكتبة أخرى في
المسجد نفسه، وأنشأ عدة غرف وأواوين قرب باب قلاوون الشمالي، وهو الباب المعروف
(بباب التينة)، وجهزها بمصاحف وكتب".
وأضافت: "ممن درس بتلك المكتبة شيوخ أفاضل من آل السقا والحسني
وشعشاعة والنخال والغصين، في حين تبلغ عدد المخطوطات الإجمالي في المكتبة 288
مخطوطا منها 210 ما بين مخطوط كبير وصغير الحجم، و78 من مجموعات الأوراق المتفرقة
(الكناشات) و(الدشت)".
وأشارت إلى أنه من أهم مجموعاتها المخطوط هي المجموعة التي قدمها
الشيخ أبو المواهب علي الدجاني، مفتي مدينة يافا سابقًا، مثل: ديوان ابن زقاعة
الغزي، إضافة الى مخطوطات هامة ونادرة مثل فتاوى العلامة الكبير التمرتاشي الغزي،
وفتاوى شيخ الإسلام حسن بن عبد اللطيف الحسيني، والعديد من مخطوطات كتبت بأيدي
علماء غزيين ومنهم: الشيخ مصطفى الطباع، والشيخ محمد سكيك الغزي، والشيخ محي الدين
الملاح.
وأكدت أن المكتبة ظلت عامرة حتى تشرين أول/ أكتوبر الماضي حيث أغلقت
أبوابها بعد الحرب التي تعرضت لها غزة ودمرت بعد ثلاثة أشهر من الحرب بعد قصفها
بالطائرات هي والمسجد وتدميرهما بالكامل.