تنفرد حركة "
حماس" عن حركات الإسلام السياسي بخصوصية العمل
في نطاق نظام استعماري استيطاني، لكنها لا تختلف في ظروف نشأتها وسياقات تطورها عن
جماعات "الإسلام السياسي"، وممثلها الأبرز جماعة "الإخوان
المسلمين"، التي دخلت في أطوار تاريخية من التحولات في سياق التغيّرات
السياسية والاجتماعية والثقافية. وقد تعاقبت على حركة حماس أطوار تاريخية قولبت
خلالها من أيديولوجيتها وممارساتها، وتحولت تدريجيا من جماعة إحيائية إلى حركة
سياسية فمنظمة مقاومة جهادية.
وقد طورت "حماس" معجمها الدلالي الديني والأيديولوجي
بالمزاوجة بين الديني والقومي من خلال عمليات اجتهادية تأويلية واقعية مجسدة تستند
إلى تقاليد خطابية تاريخية إسلامية راسخة، في إطار سيسيولوجيا تحولات من
الاستمرارية والتحول. وقد كان واضحا خلال العقود الثلاثة الماضية دخول الحركة في
ديناميكية "التسييس" التي تستند إلى مفهوم "المصلحة" التي
تنشأ بفعل إكراهات الواقع وموازين القوى، والتي قادت إلى سلسلة من المواقف
والخيارات والممارسات أفضت ببطء إلى تراجع النزعة الأيديولوجية الدينية وتنامي
النزعة الوطنية وفق نهج محسوب من البراغماتية السياسية.
يبدو أن الخوف من عودة حركات الإسلام السياسي كفاعل في المجال
السياسي العربي منطقي عقب عملية "طوفان الأقصى" المباغتة في السابع من
تشرين الأول/ أكتوبر 2023 والتي شنتها كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري
لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، داخل المعسكرات والمستوطنات
الإسرائيلية في غلاف قطاع غزة المحتل، فقد برهنت "حماس" على قدرة
الإسلام السياسي على المخاطرة والمغامرة في ظل انسداد أفق الحل السياسي العادل،
وأن الاستقرار المبني على جبروت القهر وغطرسة القوة مجرد وهم لا يحقق الأمن، ولا يتمتع
بالشرعية والمشروعية.
الخوف من عودة حركات الإسلام السياسي كفاعل في المجال السياسي العربي منطقي عقب عملية "طوفان الأقصى" المباغتة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 والتي شنتها كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، داخل المعسكرات والمستوطنات الإسرائيلية في غلاف قطاع غزة المحتل، فقد برهنت "حماس" على قدرة الإسلام السياسي على المخاطرة والمغامرة في ظل انسداد أفق الحل السياسي العادل
فقد عصفت عملية "طوفان الأقصى" الناجحة والمذهلة بركائز
الأمن القومي الإسرائيلي وعقيدة الردع الاستعمارية، واهتزت أركان النظام الدولي
المبني على الهيمنة الأمريكية، وأصبح النظام العربي ما بعد استعماري في حالة شك
وفقدان الثقة بمستقبله، وسرعان ما صدرت تحذيرات عالمية واسعة من خطر صعود حركات
الإسلام السياسي في المنطقة، والترهيب من موجة جهادية عالمية جديدة تهدد الاستقرار
العالمي والإقليمي.
إن حالة الرعب التي دبت في أوصال النظام
الاستبدادي المبني على القهر
من موجة ثانية لحركات الإسلام السياسي؛ تقوم على الخشية من تشكّل نموذج جديد على
شاكلة "حماس"، فلا جدال في أن حركة "حماس" ترتبط تاريخيا وأيديولوجيا
بحركات الإسلام السياسي، لكنها تختلف عن الحركات الإسلامية الأخرى بخصوصية العمل
في نطاق حكم استعماري. وقد تطورت "حماس" من حركة إحيائية دعوية إصلاحية
إلى حركة مقاومة إسلامية عسكرية، وهي تجمع بين العمل الديني الإصلاحي الدعوي
والاشتغال السياسي والمدني والعسكري.
فقد تأسست الحركة عام 1987، إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى، كفرع
فلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين، وهي حركة مقاومة وطنية إسلامية سياسية جهادية
تحصر نطاق عملها العسكري بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين، وتؤمن بنهج
إصلاحي تدريجي في تطبيق المبادئ الإسلامية والحكم، ولذلك تمتعت "حماس"
بحكم صلاتها التاريخية والأيديولوجية بالإخوان المسلمين؛ بالدعم والتأييد من كافة
حركات الإسلام السياسي المنبثقة من الإخوان، وتعرضت لانتقادات حادة من السلفية
المدخلية، واقتصرت الجهادية العالمية على تأييد حماس فيما يتعلق بنهجها القتالي
الجهادي والمقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي، بينما تعرضت الحركة للنقد والهجوم
بسبب سلوكها السياسي المتعلق بالحكم، والمشاركة السياسية والديمقراطية، وتعرضت لحملة
تشكيك واسعة بنهجها وعقيدتها من الجهادية العالمية عندما شاركت في عام 2006 بانتخابات
المجلس التشريعي الفلسطيني وفازت فيها، ثم مضت لتشكل حكومة وحدة وطنية مع فتح، وهوجمت
عقب الصدام مع حركة فتح عام 2007 والسيطرة على قطاع غزة؛ بسبب عدم تطبيق الشريعة.
يتأسس الخوف من ظهور نمط جديد من حركات الإسلام السياسي من الخشية من
نجاح حركة "حماس" في فرض نفسها وعدم القدرة على هزيمتها وتجاوزها في أي
حل مستقبلي للقضية الفلسطينية، وهو ما يؤذن بتدشين نموذج إرشادي جديد وملهم لحركات
الإسلام السياسي التي فشلت في خلق جاذبية كافية لإحداث اختراق في النظام
الاستبدادي العربي الما بعد استعماري.
فالنموذج الجديد الذي تقدمه "حماس" يجمع بين التقاليد
الخطابية الإسلامية والتأويلات الواقعية المجسدة، إذ لم تتخل حماس عن هويتها
الدينية الإسلامية وإنما أعادت تعريفها هويتها نتيجة تطور
نظرتها العالمية المتغيرة، ولم تستبدل معجمها الديني الإسلامي وحقلها الدلالي،
وإنما أضافت إليه مفردات من المعجم القومي الحداثي، لتوسع مجال الخطاب إلى مجال
تداولي أشمل، وهو ما فشلت فيه حركات الإسلام السياسي.
النموذج الجديد الذي تقدمه "حماس" يجمع بين التقاليد الخطابية الإسلامية والتأويلات الواقعية المجسدة، إذ لم تتخل حماس عن هويتها الدينية الإسلامية وإنما أعادت تعريفها هويتها نتيجة تطور نظرتها العالمية المتغيرة، ولم تستبدل معجمها الديني الإسلامي وحقلها الدلالي، وإنما أضافت إليه مفردات من المعجم القومي الحداثي، لتوسع مجال الخطاب إلى مجال تداولي أشمل، وهو ما فشلت فيه حركات الإسلام السياسي
فقد حافظت "حماس" على استخدام مصطلحات إسلامية، كالجهاد
إلى جانب مصطلحات حداثية كالمقاومة، إذ يقتصر مفهوم الجهاد التداولي على الأمة
الإسلامية، بينما يتمتع مصطلح المقاومة بدلالة شاملة وعالمية. وتُعتبر المقاومة
مشروعة من حيث القانون الدولي في الحرب ضد الاستعمار والاحتلال، وبذلك فإن تبني
خطاب المقاومة سمح لحركة حماس بأن تصبح أكثر شمولا لمختلف التوجهات الدينية
والسياسية داخل الساحة السياسية الفلسطينية دون التضحية بمصطلح الجهاد، الأمر الذي
سمح بتوفير مجال أكبر للتعبئة الشعبية، وسهل جهود الحركة لنشر رؤية عالمية أكثر
شمولا، فمن خلال الحفاظ على التقاليد الخطابية الإسلامية وإعادة تأويلها وتفسيرها.
وبقي الدين راسخا في تكوينها وهويتها، فلا تزال المصطلحات الدينية سائدة، وفي نفس
الوقت لم تتحول حماس إلى حركة علمانية قومية، إذ يستمر الدين في تشكيل حماس كحركة
إسلامية، وتعمل المقاومة على توسيع مجال التداول والتلقي إلى فضاءات خارج قواعدها
الدينية والوطنية الأساسي.
في زمن الاستقرار في ظل الهيمنة الأحادية الأمريكية بعد هجمات 11 أيلول/
سبتمبر 2001 أصبحت عولمة "الإسلاموفوبيا" صناعة إمبريالية غربية رائجة،
وبعد الانقلاب على ثورات الربيع الغربي أعيد تشكيل النظام العربي باستبعاد أي شكل
من عملية "تسيس الإسلام"، والانتقال إلى إدماج المستعمرة الصهيونية في
المنطقة، حيث استثمرت المستعمرة الاستيطانية اليهودية في حالة الرهاب المصطنع من
الإسلام وكراهية المسلمين وربطهم بالعنف والبربرية والإرهاب؛ في تشبيه عملية "حماس"
في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر بهجمات "القاعدة" في الحادي عشر من أيلول/
سبتمبر، وتمت مقارنة حركة "حماس" بتنظيم "داعش"، باعتباره
التجلي المطلق للإرهاب الإسلامي.
وقد جاءت عملية "طوفان الأقصى" في لحظة تاريخية شهدت تراجع
دور الحركات الإسلامية على اختلاف أوجهها وتوجهاتها، منذ الانقلاب على انتفاضات
"الربيع العربي"، وفي حقبة تاريخية تماهى فيها الخطاب السلطوي الرسمي
العربي مع المقاربة الصهيونية الإسرائيلية والإمبريالية الغربية، وتناسى أسباب
العنف الإسرائيلي في غزة الذي حوله الاحتلال إلى معتقل وسحن كبير.
فقد تجاهل الجميع الخلفية التاريخية والسياقية للمشروع الاستعماري
الإسرائيلي الذي يستند إلى الاحتلال والإخضاع والإبادة والمحو والتطهير، كما تناسى
المجتمع الدولي حقيقة شرعية المقاومة الفلسطينية المناهضة للاستعمار وكحركة تحرر
وطني، الأمر الذي جعل من تكرار إسرائيل لجرائمها في غزة شيئا ممكنا، بل واجبا يقوم
على حق الدفاع عن النفس، بينما حشرت حركات المقاومة في خانة "الإرهاب"،
حيث أصبح الوهم القائل بأن القضية الفلسطينية يمكن محوها أو نسيانها حقيقة مقبولة
لدى المستوطنين الإسرائيليين وحلفائهم الدوليين، وتنامى الاعتقاد بأن المقاومة
الفلسطينية باتت قضية منسية ومهجورة، وأن إسرائيل قادرة على الحفاظ على وجودها غير
القانوني إلى أجل غير مسمى لأنها صاحبة اليد العسكرية العليا.
وقد عززت مسارات التطبيع مع الدول العربية السلطوية في جعل الاحتلال
حقيقة دائمة وحالة طبيعية، حيث تماهت الخطابات الإمبريالية الغربية والاستعمارية
الصهيونية والاستبدادية العربية مع أسطورة "الإرهاب الإسلامي"، وخرافة
الإسلام السياسي كمهدد للاستقرار.
بعد الانقلاب على انتفاضات "الربيع العربي" تشكّلت تصورات
دولية وإقليمية جديدة حول دور الحركات الإسلامية في تحقيق الاستقرار، فقد تبدلت
النظرة التقليدية التي طالما ربطت عدم الاستقرار الداخلي بالأنظمة الاستبدادية
وغياب الديمقراطية، وهشاشة الاستقرار الإقليمي بسبب الصراع العربي الإسرائيلي
ووجود الاحتلال، وتحولت المقاربة الدولية والإقليمية للنظر إلى جماعات الإسلام
السياسي باعتبارها أحد أهم عوامل عدم الاستقرار.
فنظرية الاستقرار في ظل الهيمنة الأمريكية باتت ترتكز إلى دعم
الأنظمة السلطوية، ولم تعد قضية الديمقراطية ومسألة حقوق الإنسان جوهرية في
السياسات الدولية والإقليمية، وأصبحت شأنا ثانويا داخليا من متطلبات السيادة
الوطنية، وتحولت مدارك النظر إلى القضية الفلسطينية من مسألة استعمار واحتلال
وعدالة سياسية إلى مشكلة إنسانية، وتبدلت النظرة إلى إسرائيل من دولة استعمارية
عنصرية توسعية مهددة للاستقرار إلى شريك في صناعة الاستقرار الإقليمي.
وهكذا أسدل الستار على نظريات إدماج
الإسلاميين في الحكم، وضرورة
اشتمال الاعتدال في السلطة، وانتهت مقولات الاعتدال وجدار الوقاية، وغدت الحركات
الإسلامية تتقلب بين تعريفها بين كونها حزاما ناقلا للتطرف والعنف، أو اعتبارها حركات
عنيفة إرهابية، وتبلورت عقيدة دولية جديدة حول ماهية الاستقرار ومكوناته في نظام
سلطوي في الشرق الأوسط، وأصبح وجود اسرائيل مشروط بوجود أنظمة استبدادية عربية
تقمع الإرادة الحرة للشعوب، وغدت الوظيفة المقدسة للاستبدادية العربية العمل كحاجز
حماية بين إسرائيل والشعوب العربية.
العلاقة بين "عملية السلام" والديمقراطية في المنطقة العربية حسب الرؤية الأمريكية والإسرائيلية باتت توصف بالعلاقة المعقدة، وهو ما يفرض التضحية بالديمقراطية وحقوق الإنسان لجلب السلام والاستقرار الإقليمي في ظل الهيمنة العالمية الأمريكية. واختفت النظرة إلى الكيان الإسرائيلي كعدو مهدد للاستقرار، وباتت إسرائيل بمنزلة الصديق، بعد أن أصبحت المستعمرة الصهيونية الإسرائيلية صلة الوصل بين الأنظمة الاستبدادية والإمبريالية الأمريكية
فالعلاقة بين "عملية السلام" والديمقراطية في المنطقة
العربية حسب الرؤية الأمريكية والإسرائيلية باتت توصف بالعلاقة المعقدة، وهو ما
يفرض التضحية بالديمقراطية وحقوق الإنسان لجلب السلام والاستقرار الإقليمي في ظل
الهيمنة العالمية الأمريكية. واختفت النظرة إلى الكيان الإسرائيلي كعدو مهدد
للاستقرار، وباتت إسرائيل بمنزلة الصديق، بعد أن أصبحت المستعمرة الصهيونية
الإسرائيلية صلة الوصل بين الأنظمة الاستبدادية والإمبريالية الأمريكية.
قبل عملية "طوفان الأقصى" تبدلت المنطقة وتحولت إلى واحة
استبدادية في ظل الهيمنة الأمريكية، وظهر مشروع إعادة بناء الشرق الأوسط عقب
اكتمال إعادة بناء الاستبدادية العربية، بعد الانقلاب على انتفاضات "الربيع
العربي" التي جاءت بالإسلاميين إلى السلطة، وبرزت تصورات جديدة حول مهددات
الاستقرار في نظام سلطوي في المنطقة تحت الهيمنة الأمريكية، إذ لم يعد يُنظر إلى
الاستبداد كتهديد وعقبة تحول دون الاستقرار، بل أصبح مطلبا ضروريا للاستقرار، ولم يعد
يشار إلى وجود الاستعمار الإسرائيلي كمهدد للاستقرار، وتبدلت تعريفات الصديق
والعدو، فاختزلت مهددات الاستقرار بوجود الإسلام السياسي على اختلاف توجهاته
السياسية؛ الديمقراطية السلمية والجهادية الثورية، وتبلورت رؤية تقوم على تصفية
القضية الفلسطينية وإدماج المستوطنة الاستعمارية الإسرائيلية في نسيج المنطقة، من
خلال تأسيس تحالف بين الإمبريالية الأمريكية والاستبدادية العربية والاستعمارية
الإسرائيلية تحت ذريعة مواجهة خطر مشترك اتمثل بالحركات الإسلامية؛ التي تقوم أيديولوجيتها
الدينية السياسية على مناهضة الإمبريالية والاستبدادية والاستعمارية، وأصبحت
الأنظمة الاستبدادية العربية متماهية مع الرؤية الإمبريالية الأمريكية والمستعمرة
الصهيونية في بناء التصورات الأساسية حول المنطقة، وأصبحت تتبنى السردية الأمريكية
الإسرائيلية حول تعريف الاستقرار وماهية الصديق والعدو.
وبلغت الكراهية والعدوانية تجاه الحركات الإسلامية في المنطقة أوجها
بعد الانقلاب على "الربيع العربي"، وهو ما تجلى في بناء استراتيجية تقوم
على التخلص من الإسلاميين محليا، وتسليم قيادة المنطقة إقليميا للمستعمرة
الاستيطانية اليهودية، ومحو وإزالة وتصفية القضية الفلسطينية، من خلال نسج تحالفات
مع الأنظمة العربية الاستبدادية والإمبريالية الأمريكية والمستعمرة الصهيونية،
أسفرت عن توقيع اتفاقات السلام "الإبراهيمية"، وبناء تحالفات عسكرية
مشتركة، من خلال استراتيجية أمريكية غربية طموحة تسعى إلى إدماج المستعمرة
الاستيطانية اليهودية في نسيج المنطقة العربية الإسلامية، تحت ذريعة مواجهة خطر
مشترك تمّ اختزاله بمقولة "الإرهاب" الإسلامي، والذي بات يكافئ مصطلح
"الإسلام السياسي" وحركاته المقاومة بنسختيه السنية والشيعية، وممثليه
في المنطقة، المنظمات السنية المنبثقة عن أيديولوجية الإخوان المسلمين المسندة من
تركيا، والحركات السياسية والمقاومة الشيعية المنبثقة عن أيديولوجية ولاية الفقيه
المسندة من إيران.
شكل الخوف من انتصار حركة "حماس" التي تتوافر على صلة نسب تاريخي
وأيديولوجي مع حركات الإسلام السياسي؛ قلقا بالغا للولايات المتحدة الأمريكية
ومعظم دول الاتحاد الأوروبي والأنظمة الاستبدادية العربية، وأصبح القضاء على حركة
حماس وتفكيك حكمها في غزة مطلبا وهدفا أمريكيا وأوروبيا وإسرائيليا وعربيا مشتركا.
فقد اعتبر انتصار حماس محرضا على انبعاث جديد للحركات السياسية والجهادية
الإسلامية، يعيد إلى الأذهان ما حدث من انتفاضات ثورية عربية إبان حقبة
"الربيع العربي" عام 2011، والتي تعرضت من قوى الثورة المضادة إلى مزيج
من القمع والاستئصال والاحتواء والترويض.
ولم تبتعد مواقف الأنظمة السلطوية العربية في جوهرها عن الرؤية
الأمريكية والإسرائيلية بوجوب هزيمة حركة "حماس" والتخلص من حكمها في
قطاع غزة، والتوافق على أن انتصار "حماس" يشكل تهديدا للأمن والسلم
العالمي، فقد قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 14 تشرين ثاني/
نوفمبر 2023، في مقابلة مع شبكة "فوكس نيوز" الأمريكية، إنه إذا لم تهزم
إسرائيل حماس، فإن "أوروبا ستكون التالية، ثم أنتم أيضا (الأمريكيون)". وأضاف
نتنياهو حسب ما نقلت صحيفة "يديعوت أحرونوت" والقناة "12"
الإسرائيلية: "نحن بحاجة إلى النصر ليس من أجلنا فقط، ولكن من أجل الشرق
الأوسط بأكمله، ومن أجل جيراننا العرب، وحتى من أجل سكان غزة الذين وقعوا في قبضة
هذا الطغيان المظلم، الذي لم يجلب لهم إلا سفك الدماء والفقر والبؤس".
يبدو أن خوف وقلق القادة السلطويين العرب من انتصار حركة
"حماس" مضاعف، فهو ينشط الذاكرة السلطوية باستدعاء أحداث "الربيع
العربي" والخشية من حدوث موجة ثانية من الانتفاضات الشعبية تهدد الحكم
الاستبدادي والاستقرار الهش القائم على القمع. فبعد مرور أكثر من خمسة أشهر على
حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة وسقوط نحو 32 ألف شهيد وأكثر من 73 ألف جريح،
وتدمير البنية التحتية للقطاع، لا نجد أي ضغوطات رسمية عربية حقيقية على كيان
الاحتلال لوقف الإبادة، بل تمنع دول عربية عديدة المظاهرات والاحتجاجات الشعبية
المناصرة للقضية الفلسطينية، وتعتقل الناشطين، وهو ما يعبر عن رغبة واضحة لدى
المستبدين العرب بهزيمة "حماس".
ففي فترة مبكرة من الحرب على غزة، قال الدبلوماسي الأمريكي السابق
دينيس روس، الذي يشغل حاليا منصب مستشار في معهد واشنطن، وكان من مهندسي ما وصفت بعمليات
السلام أثناء حكم كل من جورج بوش الأب وبيل كلينتون، في 29 أكتوبر/ تشرين الأول
2023، إن دعم الحرب على غزة حتى القضاء على حركة المقاومة الإسلامية (حماس)؛ رغبة
قادة عرب وليس فقط إسرائيل والولايات المتحدة. فحسب روس، "إسرائيل ليست
الوحيدة التي تعتقد أن عليها هزيمة حماس"، مضيفا: "خلال الأسبوعين
الماضيين، عندما تحدثت مع مسؤولين عرب في أنحاء مختلفة من المنطقة أعرفهم منذ فترة
طويلة، قال لي كل واحد منهم إنه لا بد من تدمير حماس في غزة"، ونقل عنهم أنه
"إذا اعتبرت حماس منتصرة، فإن ذلك سيضفي الشرعية على أيديولوجية الرفض التي
تتبناها الجماعة، ويعطي نفوذا وزخما لإيران والمتعاونين معها، ويضع حكوماتهم في
موقف دفاعي".
خلال السنوات التي أعقبت الانقلاب على انتفاضات "الربيع
العربي" التي أظهرت قوة ونفوذ حركات الإسلام السياسي التي ترى في الإسلام دينا
وسياسة، تعاملت الأنظمة الاستبدادية العربية بقسوة مع نمط الإسلاميين المسيسين
باستخدام القوة العسكرية أو العنف القانوني أو بمزيج بين المقاربتين، ولجأت
الأنظمة الاستبدادية المحافظة إلى مزيح من الاحتواء والإخضاع. وساد الاعتقاد لدى
معظم الخبراء والباحثين بنهاية رؤى الإسلام السياسي وبروز نمط جديد من التدين،
يستند إلى ظهور تغيرات في الممارسة الدينية من التعبئة السياسية من أجل الخلاص
المجتمعي، إلى تحول الإسلام إلى نهج غير مُسيس وشيوع نمط من التدين يقوم على سعي
شخصي فرداني روحاني، حيث فُسر تراجع الإسلام السياسي بسبب رفض المجتمعات لأطروحات
ونهج الإسلام السياسي بعد الإخفاق في إيحاد حلول للمشاكل السياسية والاقتصادية
والاجتماعية، دون الالتفات إلى أن انحسار الإسلاميين جاء بسبب الانقلابات العسكرية
المسلحة واستخدام العنف المادي والقانوني، وتشكيل تحالفات عسكرية دولية واسعة
للقضاء على المنظمات الجهادية العالمية.
ثمة مبالغة وتهويل معتادة في التخويف من عودة الإسلام السياسي بعد
"طوفان الأقصى"، لكن الإسلام السياسي هو سياقي وليس جوهراني، ويمكن أن
يستثمر ويستفيد من نجاح وصمود حركة "حماس" في غزة ومواجهة الاحتلال
الإسرائيلي. فالطرق التي يتطور من خلالها الإسلام السياسي تستند إلى تحول السياقات
بتعاظم الاختلال البنيوي للأنظمة الاستبدادية العربية التي ثبت فشلها في معالجة
المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسوء الإدارة في الحكم، والاستبداد
والفساد، ولذلك تحاول الحكومات الاستبدادية في الشرق الأوسط تثبيط وقمع أي صحوة
وانبعاث للإسلاميين. فمعظم الحكام المستبدين العرب يرون في الإحياء الإسلامي خطرا
وتهديدا لحكمهم، بقدر ما يرى فيه الغرب خطرا وتهديدا للهيمنة والسيطرة على
المنطقة، وهو ما يراه الاحتلال الإسرائيلي.
ثمة مبالغة وتهويل معتادة في التخويف من عودة الإسلام السياسي بعد "طوفان الأقصى"، لكن الإسلام السياسي هو سياقي وليس جوهراني، ويمكن أن يستثمر ويستفيد من نجاح وصمود حركة "حماس" في غزة ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي. فالطرق التي يتطور من خلالها الإسلام السياسي تستند إلى تحول السياقات بتعاظم الاختلال البنيوي للأنظمة الاستبدادية العربية التي ثبت فشلها في معالجة المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسوء الإدارة في الحكم، والاستبداد والفساد
فالأنظمة الاستبدادية العربية لا تشاطر الغرب وإسرائيل في كراهية "حماس"
وحركات الإسلام السياسي فحسب، بل تقوم بمساندة ما تهدف إليه إسرائيل والغرب من
تدمير لحركة "حماس" على المستويين الفكري الأيديولوجي والتنظيمي الهيكلي.
وتقع اعتراضات الاستبدادية العربية على الاحتلال الإسرائيلي في مجال الوسائل
والتكتيكات العسكرية المتبعة، إذ لم تقم أي من البلدان العربية التي طبعت علاقاتها
مع إسرائيل مؤخرا بقطع هذه العلاقات، ولم يطالب أي منها الولايات المتحدة بإخلاء
قواعدها في المنطقة، بل حظرت معظم دول الخليج الاحتجاجات والخطب التي تتضامن مع
الفلسطينيين، وقامت عدة دول عربية بحملة اعتقالات بحق النشطاء المتضامنين مع الحق
والمقاومة الفلسطينية.
إن الخوف من عودة الإسلام السياسي بعد "طوفان الأقصى"،
ومنع انبعاثه والقضاء على "حماس"، هدف مشترك للأنظمة الاستبدادية
العربية والإمبريالية الغربية والاستعمارية الصهيونية، فظهور كينونة مسلمة مقاومة
يخل بالنظام العالمي الموجود، ليس من حيث الأمن أو الثقافة فقط، بل كذلك من حيث
الفلسفة، وإن ظهور كثير من الأفعال السياسية باسم الإسلام يمكن وصفها بطريقة مفيدة
باعتباره الإسلام السياسي.
وقد تمّ وسم ظهور الإسلام السياسي بتطوّرين: إزاحة الغرب عن المركز،
والمحاولة المتصاعدة في شدّتها لإيقاف تلك الإزاحة عن المركز من خلال إعادة تقرير
تفوّق العرقية البيضاء والعرقية اليهودية. فالتحدي الذي يفرضه الإسلام السياسي
يمكن مقاربته من خلال النظر إليه باعتباره إطارا مفككا للاستعمارية الصهيونية
والغربية على الصعيدين الإبستمولوجي والاستراتيجي، والحركات الإسلامية تتوافر في
جوهرها على أجندة تؤسس لكينونة مناهضة لسياسات ومصالح ومشاريع الغرب الإمبريالي.
فجماعة "الإخوان المسلمين" التي تعد أهم الحركات
الاجتماعية الدينية المحافظة في العالم العربي، تنشد الحفاظ على هوية المجتمعات
الإسلامية وفك التبعية والتحرر. فحركات الإسلام السياسي نشأت كرد فعل على الاجتياح
الكولونيالي والإمبريالي للعالم الإسلامي الذي تزامن مع نشوء الحركة الصهيونية
وتأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وعلى وقع صدمة انهيار وسقوط الخلافة
الإسلامية (العثمانية).
وقد تطور الإسلام السياسي كأيديولوجيا سياسية في إطار الدولة ما بعد
الكولونيالية، وتشكُل الدولة الوطنية (العلمانية)، وبهذا أصبحت أهداف وغايات
الحركات الإسلامية مناهضة للدكتاتورية والإمبريالية والصهيونية، من أجل استعادة
"الخلافة" كرمز للهوية السياسية الدينية الإسلامية.
خلاصة القول إنّ الخوف من عودة الإسلام السياسي بعد عملية
"طوفان الأقصى" الناجحة التي نفذتها حركة "حماس" ضد الاحتلال
الإسرائيلي، تشير إلى الترابط بين أهداف الإمبريالية الغربية والاستعمارية
الصهيونية والاستبدادية العربية، فقد تضافرت الجهود الثلاثية منذ الانقلاب على
حركات الإسلام السياسي بعد انتفاضات "الربيع العربي"، على منع أي بروز
للحركات الإسلامية في المجال السياسي، عن طريق جملة من الاستراتيجيات والتكتيكات
باستخدام شتى آليات الاستئصال والقمع والاحتواء والإخضاع. فالوجه الراديكالي
للإسلام السياسي الذي تجسده الجهادية العالمية يتم التعامل معه بالاستئصال الأمني
والتدخل العسكري المباشر، ومن خلال تكوين تحالفات عالمية مع الأنظمة الاستبدادية
المحلية، والوجه الحزبي الديمقراطي المحافظ للإسلام السياسي السلمي تسلط عليه
المقاربات الإكراهية الأمنية والقانونية.
وعلى الرغم من أن "طوفان الأقصى" وتداعياته لا تزال جارية،
فإن مستقبل الإسلام السياسي لا يزال مفتوحا على كافة الاحتمالات، وإذا كانت
الأنظمة الاستبدادية تحتفظ برهاناتها بتجاوز تداعيات السابع من تشرين الأول/
أكتوبر، وتعتمد على آلتها القمعية وتحالفاتها الدولية للحد من عودة الإسلاميين،
فإن الاختلال البنيوي في تكوين الأنظمة الاستبدادية العربية السياسي والاقتصادي
والاجتماعي، وتبعيتها للغرب وفقدان استقلاليتها، وفسادها وسوء حكمها وفشلها
التنموي، هو مزيج متفجر، ساهم "طوفان الأقصى" في كشف سائر عيوبه
ونواقصه، ولا يمكن حل إشكالياته بالتخويف من عودة الإسلام السياسي، فالإسلام دين
وسياسة، وهو بالنسبة للمسلمين كينونة مقاومة مناهضة للغرب الإمبريالي والاستعمار
الصهيوني، كنقيض إبستمولوجي وتحد جيوسياسي.
twitter.com/hasanabuhanya