لا تستهدف هذه السطور مناقشة اللغو الذي أطلقه رئيس حكومة
الاحتلال بنيامين نتنياهو، وصُنّف تحت مسمى لا يقلّ تذكيراً بالهراء المجاني، أي «خطة ما بعد الحرب»؛ ولا تسعى إلى أيّ طراز من التفنيد أو المساجلة أو التدقيق، فلا خير في مسعى كهذا أياً كان الجهد المبذول في سبيله.
الهدف هنا هو ردّ هذه المبادرة الزائفة إلى ماضي نتنياهو الطافح بنظائر مماثلة من حيث التزييف والتسويف والخداع والمخادعة؛ ليس مع الطرف الفلسطيني وحده، بل أساساً (وربما جوهرياً) مع الطرف الأمريكي: الراعي والصديق والحليف وصانع شتى أدوات المساندة، من القاذفة المقاتلة إلى القبب الحديدية من دون إغفال فزاعات العداء للسامية.
هدف تالٍ، في المقابل، هو استعادة بعض خرافات ما كان يُسمى «المفاوضات» بين الفلسطينيين والاحتلال تحت رعاية أمريكية، وكانت تعلن التطلع إلى «ترتيبات الحلول النهائية» التي توجّب أن تفضي إلى «حل» الدولتين» بوصفه أمّ الأباطيل.
وكان الراحل صائب عريقات، من موقع كبير المفاوضين الفلسطينيين، قد أطلق في سنة 2009 تصريحاً استهلالياً ذهب (على عكس ما قصد عريقات) مذهب المثل على عقم جولات التفاوض تلك: «لسنا في حاجة إلى إعادة اختراع العجلة. الوقت الآن ليس للمفاوضات، بل للقرارات».
وبالفعل، لم يكن المفاوض الفلسطيني يطلب القمر من الإسرائيليين، بل البتّ في القضايا العالقة واتخاذ القرارات بشأنها. التجربة الفعلية، من جانبها، برهنت أنّ إعادة اختراع أيّ ابتكار إعجازي في تاريخ الإنسانية مثل العجلة، أو اشتراط نزول القمر إلى «المقاطعة» مقرّ السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله؛ لن يكونا أصعب كثيراً من تنازل دولة الاحتلال عن مواقفها بصدد تلك القضايا العالقة إياها، فما بالك باتخاذ قرارات ــ من أي نوع، في الواقع، حتى على مستوى اللفظ والرمز ــ تتمتع بإوالية تنفيذ… من أيّ نوع، هنا أيضاً!
إعادة اختراع العجلة أسهل من زحزحة دولة الاحتلال قيد أنملة في مسائل التعريف الإسرائيلي للأمن وتفسير مفهوم المستوطنة وقراءة حق العودة بأية لغة
ومن الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، إلى خَلَفه بيل كلنتون، ثمّ جورج بوش الابن، وخَلفه باراك أوباما، وصولاً إلى دونالد ترامب وخَلَفه جو بايدن، كي يضع المرء جانباً ريشارد نكسون وجيمي كارتر ورونالد ريغان؛ ثمّ من واشنطن إلى كامب دافيد، ومدريد، وأوسلو، وواي بلانتيشن، وشرم الشيخ، وطابا، وأنابوليس، والعقبة… ظلّ القمر، أو إعادة اختراع العجلة، أسهل منالاً من زحزحة دولة الاحتلال قيد أنملة في مسائل التعريف الإسرائيلي للأمن، وتفسير مفهوم المستوطنة، وقراءة حقّ العودة بأية لغة، وتوظيف أية جغرافيا لتحديد مدينة القدس بوصفها «عاصمة إسرائيل الأبدية والموحدة»؛ أو، في طائفة أخرى من المسائل «الشائكة» اعتبار الجدار العنصري العازل بمثابة حدود لدولة الاحتلال، وإعادة إحياء فكرة الكونفدرالية الفلسطينية ــ الأردنية.
وفي كلّ مرّة كانت عبقرية ما، تتفتق على الجانب الفلسطيني، آتية من مفاوض أريب هنا، أو خطيب لوذعي هناك، لتبرير الخطوة الأحدث في درب انحناء السلطة، وعودتها صاغرة إلى طاولة مفاوضات لا تستأنف إلا عروض مسرح العبث. وكان يحدث دائماً، إذْ هكذا تطلّب الإخراج، أن تتوفر تغطية أمريكية ـ عربية، وأحياناً دولية محفلية يختلط فيها الحابل بالنابل (كما في مؤتمر أنابوليس، خريف 2007، حين ارتأى بشار الأسد أنّ فضيلة «الممانعة» لا تمنع هرولة نظامه إلى ذلك المؤتمر، والمشاركة في أشغال الهفت والتهافت).
وهكذا فإنّ القرارات حول تسيير العجلة ظلت مرجأة حتى إشعار آخر طويل، ليس على الجانب الإسرائيلي وحده في واقع الأمر، فهذا أمر بات مكروراً معاداً، بل عند الراعي الأمريكي ذاته. ذلك لأنّ سيد البيت الأبيض، جمهورياً كان أم ديمقراطياً، لا يهمّ بإطلاق «مؤتمر تاريخي» داعياً الفريقين إلى اغتنام «فرصة تاريخية» حتى تعاجله دورة انتخابات لتجديد الكونغرس (الذي يصغي معظم أعضائه إلى رجالات الـ AIPAC، مجموعة الضغط اليهودية الأقوى في أمريكا، أكثر بكثير من إصغائهم إلى رجال البيت الأبيض؛ أو يدنو موعد انطلاق حملته الانتخابية الشخصية لتجديد رئاسته إذا كان في الولاية الأولى، أو لإنقاذ مرشّح حزبه من هزيمة نكراء إذا كان في ختام ولايته الثانية.
وفي مناسبة شيوع الأحاديث اليوم عن «خطة» جديدة لإطلاق المفاوضات الفلسطينية ــ الإسرائيلية، برعاية أمريكية طبعاً، ومشاركة عربية (من كوكبة اتفاقيات أبراهام، غالباً)؛ ليس عسيراً على المرء أن يستبعد أيّ أقمار يمكن أن تهبط من السماء إلى الأرض، وأية عجلات سوف تُخترع، بما يتيح ترجمة التوصيات إلى أفعال على الأرض، حتى على مسرح عبثي لا تتعالى على خشبته سوى الضوضاء والعجيج والجعجعة… دون طحن!
ولأنّ نتنياهو بدأ، ويظلّ حتى توافيه المنية، معلّق تلفزة بهلوانياً؛ فإنّ العالم لن يفتقد جرعة خطابية توراتية ترتدّ 4500 سنة إلى الوراء، نحو العماليق مثلاً؛ أو اجترار ما سبق أن اجترّه مراراً: «قبل آلاف السنين، فوق الهضاب ذاتها التي عليها يعيش الإسرائيليون والفلسطينيون اليوم، كان النبي اليهودي أشعياء، وسواه من أنبياء شعبي الآخرين، قد أبصروا رؤيا سلام دائم للإنسانية جمعاء». ما خلا، بالطبع، أنّ رؤى أشعياء كانت تُظهر ملائكة يحملون مناجل قاطعة، ليس لحصيد الأرض وعناقيد العنب، فحسب؛ وإنما لإيقاع الخراب، أسوة بجزّ الرقاب.
وشتّان بين منجل من هذا الطراز، وعجلة عريقات التي لا تدور أصلاً؛ أو بين هذه «الإنسانية جمعاء»
وبين شرق أوسط رفع نتنياهو خريطة له من سدّة الأمم المتحدة خالية تماماً من… فلسطين. وما خلا، كذلك، أنّ ما يُشاع عن توتر واحتقان وغضب وعتب، بين بايدن ونتنياهو، ليس سوى آثار جانبية للفعل الحقيقي بين الرجلين: قبلة الدبّ، ولكن من طراز فريد لا يخنق ولا حتى يحبس الأنفاس!
ولهذا تصحّ استعادة حكاية كان نتنياهو يستطيب سردها، على نحو لا يغيب عنه التخابث بالطبع، وإنْ كان السرد ينطوي في ذاته على فضيلة التفضيح المفيد.
حين قام أوباما بزيارة دولة الاحتلال من موقع المرشّح لرئاسة
الولايات المتحدة، انتحى جانباً بزعيم حزب الليكود، نتنياهو، وأسرّ له بالتالي: «أنت وأنا نشترك في الكثير. لقد بدأتُ على اليسار وانتقلتُ إلى الوسط. وأنت بدأتَ على اليمين وانتقلتَ إلى الوسط. كلانا براغماتي يرغب في إنجاز الأمور». لكنّ الرغبة شيء، والإنجاز كان شيئاً آخر مختلفاً تماماً، ولهذا لم يوفّر نتنياهو جهداً لإحراج أوباما، ولم يخفِ تعاطفه مع ميت رومني في الانتخابات الرئاسية.
ولقد بدا مضحكاً، ومدعاة شماتة صريحة من أنصار أوباما وخصوم نتنياهو، أنّ الأخير انخرط ــ منذ الصباح الباكر الذي أعقب فوز أوباما ــ في محاولات إصلاح الضرر وقَلْب الموقف رأساً على عقب: استدعاء السفير الأمريكي إلى مكتب نتنياهو، لالتقاط صورة عن عناق التهنئة الحارّة؛ وإصدار بيان عن العلاقات الإسرائيلية ــ الأمريكية، «الصلبة مثل صخرة»؛ والتعميم على قيادات الليكود بعدم التلميح، في برقيات التهنئة، إلى «خطأ» التعاطف مع رومني.
وأياً كانت الوجهة التي ستتخذها الخطة الأمريكية المزعومة للسلام فإن حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة لن تتوقف ما بقي نتنياهو حاكم دولة الاحتلال
لهذا، وأياً كانت الوجهة التي ستتخذها «الخطة» الأمريكية المزعومة للسلام الإسرائيلي ـ الفلسطيني؛ فإنّ أمثولة اختراع العجلات لن تكون على طاولة المفاوضات، والقمر لن ينزل بين المتفاوضين والوسطاء والرعاة، وحرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة لن تتوقف ما بقي نتنياهو حاكم دولة الاحتلال. وأمّا العلاقات الأمريكية ــ الإسرائيلية فإنها سوف تظلّ بقوّة الصخور، سواء استأنف بايدن الرئاسة أم آب إليها ترامب؛ ونقطة على السطر، هي خير تلخيص لمنطق معلَن مرسّخ.
القدس العربي