بداية وقبل الدخول في صلب الموضوع، أود الإشارة إلى أن هذا المنشور
يحمل في طياته دعوة للتأمل والنقاش، فهو موجه بالدرجة الأولى للإثراء، للتفكير
العميق والتبادل البناء.
الحمقى وفاقدو البصيرة، من عبيد السلطة وذبابها وزبائنها، حيث ننتظر
منهم كما من التعاليق السيئة، سيكون التجاهل أحسن رد عليهم.
إن القضية
الفلسطينية بالنسبة لي، هي أولا قضية سياسية، إنسانية
وقضية أخلاقية، قضية يختبر فيها كل واحد منا ضميره وإنسانيته، ويختار
موقفه، إما
أن يكون إنسانا حقيقيا ملتزما بالقيم والأخلاق، وإما يفقد ضميره وإنسانيته.
القضية الفلسطينية هي قضية شعب يناضل منذ أكثر من نصف قرن، من أجل
التحرر والانعتاق من أحد أبشع وأقسى أنواع الاستعمار عبر التاريخ.
القضية الفلسطينية هي قضية حق تقرير مصير شعب أعزل، لا يمكن تصور
حلها إلا من خلال ضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، مع عودة كل
اللاجئين، في إطار الاحترام التام للقانون الدولي.
القضية الفلسطنية هي اختبار لكل المنظومة القانونية والمؤسساتية
الدولية فيما يخص متابعة ومحاسبة كل مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم
الإبادة والتطهير العرقي التي يتعرض لها يوميا الشعب الفلسطيني.
القضية الفلسطينية هي مسألة سيادة شعب على أرضه ولا يمكن لأي طرف من
الأطراف سواء الدولية أو الإقليمية، الفرض على الشعب الفلسطيني ممثلين له، فالشعب
الفلسطيني هو الوحيد الذي يقرر من يمثله، وذلك عندما تتوفر شروط قيام الدولة
الفلسطينية، ويتوفر جو الحرية الذي سيسمح للشعب الفلسطيني باختيار ممثليه بكل حرية.
لذا ومن هذا المنطلق لا يجب أن تكون هذه القضية، ولا يجب أن نسمح أن
تكون محل حسابات سياسوية ضيقة، ولا علامة أو سجلا تجاريا، تحقق به أنظمة فاسدة
ومستبدة مكاسب سياسية على حساب حقوق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
وانطلاقا من هذا الواجب الأخلاقي، أردت أن أطرح للنقاش، ما تروج له
هذه الأيام أجهزة بروباغندا النظام في
الجزائر، وما يسوق ذبابه وزبائنه عبر وسائط
التواصل الاجتماعي بين عموم الشعب، عن تحد جزائري هائل لأكبر قوة في العالم
(الولايات المتحدة)، وعن إنجاز دبلوماسي كبير، من خلال تقديم مشروع قرار في مجلس
الأمن يدعو إلى وقف إطلاق نار فوري في غزة لدواع إنسانية.
فماذا نعرف عن حقيقة هذا الإنجاز الدبلوماسي الوهمي؟
والذي يروج له نظام بائس ومنته في الداخل، أملا في رفع رصيده من
شعبية يفتقدها تماما بين الجماهير، وتعويضا عن فقدان كامل للشرعية الدستورية،
وقطيعة نهائية مع الشعب.
يجب أن نعلم أولا، أن مشروع القرار الذي قدمته الجزائر للتصويت يوم
الثلاثاء 20/02/2024 هو مشروع قرار معدل، وقد عدل ثلاث مرات، وهو يختلف عن المشروع
الأصلي الذي قدم للتشاور بتاريخ 01/02/2024.
طبعا الكثير منا وعموم الشعب في غالبه لا يعلم هذه التفاصيل، لكن كما
يقول المثل (الشيطان يكمن في التفاصيل).
بالنظر إلى مشروع القرار الذي صاغته الجزائر في بداية فيفري وعرضته
*للتشاور* على دول الأعضاء في مجلس الأمن، ومشروع القرار المعدل والذي عرض
*للتصويت* وعارضته أمريكا بحق الفيتو، فإننا نلاحظ *اختلافا* *جذريا* بين
المشروعين من حيث المضمون وسقف المطالب.
المشروع الأصلي كان سقف مطالبه ـ عاليا ـ ولا يحتوي على أي تنازل
للكيان الإجرامي الصهيوني، فقد تضمن طلب وقف فوري للنار ورفض التهجير القسري، ومطالبة
كل الأطراف بالالتزام بالقانون الدولي، والسماح بالدخول السريع لكل *المساعدات*
الإنسانية عبر كل المنافذ دون عوائق، كما تضمن طلب إعطاء صيغة إلزامية لقرار
محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، هكذا صيغ القرار في بدايته، إدانة لإسرائيل والتزاما بحقوق الشعب الفلسطيني.
فما الذي تغير في مشروع القرار المعدل، الذي قدم *للتصويت* باسم
الجزائر هذا الثلاثاء؟
بقراءة متأنية لمشروع القرار المعدل فسنلاحظ أنه تضمن الإضافات
التالية:
1 ـ شجب جميع الهجمات ضد المدنيين والأهداف المدنية وجميع أعمال العنف.
2 ـ إطلاق سراح فوري وغير مشروط لجميع
الرهائن، وضمان وصول مساعدات طبية لهم.
3 ـ توحيد قطاع غزة مع الضفة الغربية تحت حكم السلطة الفلسطينية.
4 ـ الالتزام بحل الدولتين.
إن القارئ الحصيف سينتبه بدون *شك* للفرق الشاسع بين القرارين، ولحجم
التنازل الكبير الذي قدمه النظام الجزائري، على حساب المبادئ والحقوق الفلسطينية.
في النص المعدل نلاحظ إدانة لجميع أعمال العنف والهجمات ضد المدنيين
دون تفريق بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، وكأنها إدانة خفية لهجوم 7 أكتوبر
واعتباره إرهابا، كما أن المطالبة بإطلاق سراح ما سمي برهائن دون شروط هو إدانة
أخرى لما قامت به المقاومة وتخلّ عن
الآلاف من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، أما توحيد غزة مع
*الضفة* في إطار حكم السلطة الفلسطينية، فهو يعني الرضوخ لما تطالب به إسرائيل
وعرابتها الولايات المتحدة الأمريكية.
إذ أن القراءة المتأنية لمشروع القرار الذي قدمه النظام الجزائري
للتصويت، تبين أنه تضمن إدانة خفية للمقاومة الفلسطينية واعتبارها إرهابا وتخليا عن آلاف الفلسطينيين في سجون الاحتلال.
أعتقد جازما أن مسار حل القضية الفلسطينية، لن يختلف عن مسار الثورة الجزائرية ومحطاتها الخالدة، فهي التي يمكن أن تقدم دروسا وعبرا لاستشراف المستقبل، وهي التي يمكن أن تكون نموذجا ملهما للكفاح وطريق تحرير فلسطين، من خلال تبني المبادئ والقيم التي قامت عليها، والتي تجسدها مقولة الشهيد عبان رمضان (الجزائر لن تكون تابعة لا لباريس ولا لموسكو ولا لواشنطن ولا للقاهرة، نحن أمة متميزة لا شرقية ولا غربية، الجزائر جزائرية).
والسؤال الذي يجب أن يطرح هنا، لماذا قدم النظام الجزائري مشروع القرار المعدل هذا وفيه هذا التنازل الذليل عن الحد الأدنى من مبادئ العدالة
وعن حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال؟
ولماذا لم يثبت على نص مشروع القرار الأصلي وهو يعلم، كما تعلم كل
البعثات الدبلوماسية أن أي قرار يتضمن وقف إطلاق *النار* في غزة سيتعرض للفيتو
الأمريكي؟
إن أهداف السلطة في هذه المعركة الدون كيشوتية داخل مجلس الأمن، هي
أولا من أجل تسويق أوهام سياسية للرأي العام الوطني الداخلي، والترويج لأكذوبة
الجزائر الجديدة والقوة الضاربة، بين المخدوعين من أنصارها والجشعين من زبائنها، خاصة ونحن مقبلون على انتخابات رئاسية، لعلها تجني بعضا من الشعبية تعوضها
عن فقدان الشرعية، وثانيا يبعث النظام من خلال مشروع هذا القرار وهو يعلم جيدا
أنه لن يمر، رسالة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، تنفي عنه شبهة مساندة
المقاومة الفلسطينية وتبين استعداده
للخضوع للإملاءات الغربية.
وسؤال آخر يطرح في هذا السياق، كيف نفسر أنه من بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن والتي تملك حق الفيتو، ثلاث دول هي حليفة لإسرائيل
ومساندة عسكريا وسياسيا لحربها الإجرامية في غزة، الولايات المتحدة الأمريكية
وبريطانيا وفرنسا، فإذا كانت الولايات المتحدة عارضت مشروع القرار بحق الفيتو وامتنعت بريطانيا عن التصويت فلماذا يا ترى ساندت فرنسا النظام الجزائري وصوتت
لصالحه؟
حلل وناقش
في الختام، أعتقد جازما أن مسار حل القضية الفلسطينية، لن يختلف عن
مسار الثورة الجزائرية ومحطاتها الخالدة، فهي التي يمكن أن تقدم دروسا وعبرا
لاستشراف المستقبل، وهي التي يمكن أن تكون نموذجا ملهما للكفاح وطريق تحرير
فلسطين، من خلال تبني المبادئ والقيم التي قامت عليها، والتي تجسدها مقولة الشهيد
عبان رمضان (الجزائر لن تكون تابعة لا لباريس ولا لموسكو ولا لواشنطن ولا للقاهرة،
نحن أمة متميزة لا شرقية ولا غربية، الجزائر جزائرية).
كما لا أنسى في هذا المقام، التذكير بالمواقف الشجاعة والصريحة للدول
الحرة تجاه العدوان الإسرائيلي، لا سيما بوليفيا وكولومبيا والبرازيل وجنوب
إفريقيا.
يقول الشاعر الفلسطيني سميح القاسم:
"تقدموا تقدموا
كل سماء فوقكم جهنم
وكل أرض تحتكم جهنم
تقدموا يموت منا الطفل والشيخ ولا يستسلم
وتسقط الأم على أبنائها القتلى ولا تستسلم "
أما الشاعر توفيق زياد فيقول: "هنا باقون
كأننا عشرون مستحيل
في اللد والرملة والجليل
هنا.. على صدوركم باقون كالجدار
وفي حلوقكم
كقطعة الزجاج، كالصبار
وفي عيونكم
زوبعة من نار
هنا.. على صدوركم، باقون كالجدار ".
رحمة الله على كل شهداء فلسطين