بعد مرور 139 يوما على حرب الدمار الشامل والإبادة الجماعية، التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على أهالي قطاع
غزة، بلغ عدد الشهداء 30 ألفا والجرحى 70 ألفا، وجرى تدمير حوالي 60% من المباني والمنازل، وزاد عدد المهجرين عن 1.7 مليون شخص، معظمهم في مدينة رفح ومحيطها. وهدمت قوات «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» 390 مدرسة، و183 مسجدا وثلاث كنائس، إضافة إلى تدمير الغالبية الساحقة من المستشفيات والمرافق الصحية، والتسبب بأضرار جسيمة للشوارع وشبكات المياه والصرف الصحي.
وإذ تواصل إسرائيل حربها الإجرامية على غزة وترتكب الفظائع على مدار الساعة، أفشلت الولايات المتحدة في مجلس الأمن وللمرة الثالثة مشروع قرار وقف إطلاق النار، باستعمال «حق النقض – الفيتو». ولم تجد المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة حرجا من الادعاء بأن وقف النار سيعرقل «الجهود المبذولة لتحرير الأسرى»، وكأن هذا أهم من المذابح اليومية التي يزيد ضحاياها عن عدد الأسرى مئات الأضعاف.
ويبدو أن قضية الأسرى هي شماعة الفيتو الأمريكي، والأصل أن الولايات المتحدة تشارك إسرائيل في غاياتها العسكرية، والخلاف بينهما ليس حول
الحرب، بل عما بعدها.
قابلت إسرائيل الفيتو الأمريكي بارتياح مضاعف، لأنه أفشل قرارا أمميا بوقف إطلاق النار، ولأنه جاء ليؤكد أن الإدارة الأمريكية تقف إلى جانب إسرائيل وحربها، بالرغم من الخلافات والتباينات في المواقف، التي طفت على السطح السياسي مؤخرا، لكن من الواضح أنها لم تتغلغل إلى عمق الروابط الاستراتيجية ولم تؤثر فيها. ويشكل الفيتو الأمريكي ضوءا أخضر لمواصلة الحرب، ويقطع الشك باليقين بأن إدارة بايدن لا تريد أن توقف إسرائيل عند حدها ولا تسعى للجم عدوانها. وهكذا تجد إسرائيل نفسها مرتاحة لأنها لا تواجه ضغطا أمريكيا، وأمريكا مرتاحة أيضا لأنها لا تحس بضغط عربي عليها لتتحرك لوقف الحرب.
قد يظن البعض أن الحرب ستتوقف نتيجة لتفاعلات جوانية في داخل المجتمع الإسرائيلي، ولكن لا دليل على تطور كهذا في مواقف الجمهور أو النخب في الدولة الصهيونية. فقد دل آخر استطلاع للرأي، أجراه معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، أن 61% من الإسرائيليين يدعمون مواصلة الحرب حتى تقويض حركة حماس، حتى لو أدى ذلك إلى عدم إعادة المحتجزين، وأجاب 29% أنهم يعارضون ذلك وقال 10% أن لا رأي لهم في الموضوع.
هذه النتيجة، التي ظهرت في استطلاعات أخرى أيضا، هي تأكيد على أن هستيريا الحرب ما زالت تعصف في المجتمع الإسرائيلي، الذي يفضل الحرب على حياة المحتجزين. ويبدو أن نتنياهو يعرف ماذا يريد الجمهور، ويعمل على استرضائه وإشباع رغبته في الانتقام، أملا باستعادة ما خسر من دعم شعبي. وعلى هذه الخلفية جاء تصريح وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بأن قضية المحتجزين «ليست القضية الأهم».
تكرار الحديث عن توسيع التطبيع والادعاء بأنه سيوقف الحرب، يثير الشبهات
آراء الشارع الإسرائيلي ليست القول الفصل في القرار السياسي والأمني، لكنْ لها تأثير كبير على القيادات الإسرائيلية، التي تتعلق مكانتها ومستقبلها بمدى رضى الجمهور عنها. ومن النتائج اللافتة في الاستطلاع، أن 24% تدعم احتلالا دائما لقطاع غزة ونفس النسبة تؤيد الاستيطان فيه، وفقط 5% تقبل بتسليم غزة إلى السلطة
الفلسطينية، بينما يرى %39 من المستطلعين أن الحل هو أن يكون القطاع خاضعا لسيطرة قوات دولية.
وتدل هذه النتائج على أن الجمهور الإسرائيلي لا يرفض حماس فحسب، بل ومعها السلطة الفلسطينية وبأنه يقبل بشعار نتنياهو «لا حمستان ولا فتحستان». وهي تدل كذلك على أن هناك كتلة كبيرة داعمة للاستيطان ولاحتلال دائم لغزة، ما سيعزز اندفاع قوى وازنة في اليمين إلى تبني هذا الموقف جهارة والعمل على تجسيده على الأرض.
لقد غاب عن الاستطلاع، وعن كل الاستطلاعات الأخرى، توجيه أسئلة حول المعاناة والدمار في غزة، وهذا جزء من المسكوت عنه في تشكل الوعي الجمعي الإسرائيلي، حيث يسود التجاهل شبه الكامل لفظائع قتل عشرات الآلاف وتدمير المنازل والمرافق الحيوية. ويجري ذلك في ظل التحريض والتشويه وتنمية الأحقاد العنصرية وتمجيد الانتقام وخيانة النخب الثقافية لواجبها «الأخلاقي» وكذلك خيانة الإعلام لأصول المهنة. هستيريا الحرب الإسرائيلية ليست نتاجا لما يقال ويشاهد فحسب، بل وبنفس الدرجة لما لا يقال ولا يشاهد.
نشرت القناة 12 الإسرائيلية مضامين رسالة وجهها، الوزير في «كابينيت الحرب المصغر» ورئيس الأركان الأسبق، الجنرال (احتياط) جادي آيزنكوت إلى أعضاء الكابينيت، حملت تحذيرات وانتقادات حادة لكيفية إدارة الحرب، في ظل غياب رؤية وقرارات استراتيجية، ومطالبة باتخاذ سلسلة من القرارات «الحاسمة والضرورية» تضبط الاتجاهات وصولا إلى أهداف عسكرية وسياسية محددة.
تكمن أهمية هذه الرسالة بمضمونها وبهوية كاتبها، فمن الواضح أنها تعبر إلى حد كبير عن مواقف وتوجهات قيادة الجيش، التي يعتبر آيزنكوت الأقرب إليها من بين الوزراء، وهو «وزير عسكري»، إذا صح التعبير. كما أنه عضو في «كابينيت الحرب»، ما يعني أنه شريك في الدائرة الأولى لاتخاذ القرار وعلى دراية تامة بكافة أسرار الحرب.
إضافة لذلك يتمتع آيزنكوت بتقدير عال في الرأي العام وفي أوساط النخب الإسرائيلية بسبب رصيده الأمني وشخصيته «المتواضعة»، وزاد التعاطف معه بعد أن قُتل ابنه، الشهر الماضي، خلال اجتياح غزة، وهو يحصد شعبية في الاستطلاعات لا تقل عن شريكه في «معسكر الدولة»، بيني غانتس، وقد يتفوق عليه.
أيزنكوت هو مؤلف كتاب «استراتيجية الجيش الإسرائيلي»، الذي يعتبر أحد أهم مرجعيات عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي، وهو يدأب منذ بداية الحرب على تسطير تقرير أسبوعي يحوي تقييما عسكريا واستراتيجيا عن التطورات وعن مآلاتها. التقرير الذي جرى تسريبه يخص الأسبوع الماضي، ويبدو أن هدف التسريب هو «دفش» آيزنكوت وغانتس إلى خارج الحكومة، لاعتبارات منافسة حزبية من أطراف تريد أن تحل مكانهما.
أولا، الحكومة تركز على الإنجازات التكتيكية عوضا عن السعي لتحقيق الأهداف الاستراتيجية.
ثانيا، الحكومة لم تتخذ قرارات مهمة منذ ثلاثة أشهر، وعدم الحسم يصعب الوصول إلى الأهداف.
ثالثا، الحرب لم تصل إلى إتمام أي من غاياتها. وما تحقق جزئيا هو: القضاء على حماس وقدراتها العسكرية، واستعادة المحتجزين، وإعادة الأمن إلى غلاف غزة. وما لم يتحقق بالمرة هو: تعزيز الأمن الشخصي والمناعة القومية، والوصول إلى وضع لا يشكل القطاع فيه تهديدا لإسرائيل.
رابعا، دعوة للحسم واتخاذ قرارات هامة منها: الانتقال فورا إلى المرحلة الثالثة (إعادة انتشار ومداهمات)، واتمام صفقة تبادل قبل شهر رمضان المبارك، منع التصعيد في الضفة الغربية خلال رمضان، مناقشة مفهوم «النصر المطلق» بجدية وتوضيحه عملياتيا.
تكشف رسالة آيزنكوت عن بعض أوجه النقاش بين متخذي القرار الأمني – السياسي في إسرائيل، وهم اليوم خمسة: رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وزير الأمن يوآف غالانت، الوزير بيني غانتس، الوزير جادي آيزنكوت ورئيس الأركان هرتصي هليفي. ولكن، بالرغم من الخلافات الكثيرة في هذه الخماسية، فهم يجمعون على مواصلة الحرب وصولا إلى تحقيق هدفها الأول وهو تقويض القدرات العسكرية والسلطوية لحركة حماس.
ويدل سلوكهم وتصريحاتهم على أنهم راضون تماما عن «إنجازات» جيشهم في القتل والدمار، وما يقلقهم هو التلكؤ في تحقيق الأهداف العسكرية. العدوان متواصل إلى حين تحقيق «الأهداف»، وليس هناك أي مؤشر بأن المجتمع السياسي الإسرائيلي قابل لاتخاذ قرار بوقف دائم للحرب في الأشهر المقبلة.
حمّى الحرب في المجتمع الإسرائيلي في أوجها، وهي لا تسبب هلوسات عسكرية فحسب، بل تقذف ألسنة اللهيب لتحرق الأخضر واليابس، وتفتك بالأطفال والنساء والرجال والشيوخ بأرقام تفوق الخيال. فهل هناك من يبرّد هذه الحمّى الفتاكة؟ الجواب أن بعض الأطراف قادرة على ذلك إن أرادت، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، ولكنها لن تتحرك فعلا إن لم تتعرض للضغط العربي.
المطلوب ضغط فعلي ووعيد بالابتعاد عن أمريكا، لا وعدا بالتطبيع مع إسرائيل والالتصاق أكثر بالعم سام. تكرار الحديث عن توسيع التطبيع والادعاء بأنه سيوقف الحرب، يثير الشبهات، وهو بمثابة صب الزيت على نيران الحرب الإسرائيلية، وهل هناك حاجة للقول بأن زيوت التطبيع لا تطفئ نارا؟