في الخامس عشر من شهر شباط/ فبراير 2024
الجاري، أصدر وزير
الصحة والسكان
المصري قرارا بإلزام الأطباء بوصف الأدوية
الضرورية للمرضى، مع مراعاة أن تكون الأولوية للدواء المحلي، وألا تُوصف المستوردة
إلا في حال عدم توفر المثيل المحلي لها، وذلك أثناء مباشرة عملهم في الجهات أو
الهيئات التابعة لوزارة الصحة، أو لمديريات الشؤون الصحية في المحافظات، وعلى
الأخص منها المستشفيات والمراكز الطبية، ومراكز ووحدات الرعاية الصحية الأساسية
وصحة الأسرة، وذلك على خلفية تفاقم
أزمة نقص هذه الأدوية في الأسواق وارتفاع
أسعارها، بعدما ألقت مشكلة شح الدولار بظلالها على صناعة
الدواء في مصر، التي
تعتمد على استيراد 95 بالمئة من الخامات ؛ حيث قامت مصر بتحرير سعر عملتها المحلية
ثلاث مرات خلال الفترة من مارس 2022 حتى
يناير 2023، ما دفع الجنيه المصري للانخفاض مقابل الدولار بنحو 25 بالمئة في السوق الرسمية، وهو الأمر الذي انعكس على
معدلات التضخم في البلاد والتي بلغت مستويات قياسية خلال فترات من العام الماضي.
قرار وزير الصحة والسكان كشف حقيقة الواقع
الدوائي الصادم في مصر
وجاء قرار وزير الصحة ليؤكد على وجود أزمة
حقيقية طاحنة أدت إلى نقص الدواء واختفاء العديد من الأصناف، إلا أنه ومن ناحية
أخرى فقد أحدث القرار ردود فعل كثيرة توضح
عدم واقعيته؛ حيث أنه ألقى بالمسؤولية على الأطباء بالمغالطة للواقع؛ حيث أن جميع
التوريدات الدوائية وسلاسل الإمداد الطبي للمنشآت الصحية الحكومية تقع على عاتق الهيئة المصرية للشراء الموحد
والإمداد والتموين الطبي وإدارة التكنولوجيا الطبية، وليس للأطباء أي دور في
تحديد نوعية ومصدر الدواء بالمنشآت الصحية؛ ويبدو أن وزارة الصحة قد استجابت لتلك
الملاحظة، وأصدرت ملحقا للقرار السابق وذلك يوم الاثنين 19 شباط/ فبراير 2024
الجاري، يشمل قراراً بحظر استيراد الأدوية التي يوجد لها مثيل من صناعة مصرية، مع
وضع أولوية لاستيراد المواد الخام اللازمة لصناعة الأدوية الأساسية.
لا بد من التركيز على تميز الأدوية عن غيرها من المواد والبضائع المستهلكة بأهميتها ومدى ضرورة الحاجة إليها، وتعتبر الصناعات الدوائية في كثير من الدول المتقدمة خيارا استراتيجيًا لا حياد عنه، ولا بد من تملك الدولة المصرية للقدرة على تعميق إنتاج الدواء وليس مجرد فكرة التوطين، وذلك هو الضمان لأمن وصحة وسلامة الأمة.
تبلغ نسبة النواقص 40 بالمئة من الأدوية
المتداولة بالسوق، و15 بالمئة من النواقص ليس لها بديل، بحسب تصريحات رئيس غرفة
صناعة الدواء، وذلك بسبب صعوبة تدبير البنوك الدولار، لاستيراد المادة الخام
اللازمة للعملية الإنتاجية وهو ما ساهم في تفاقم أزمة نواقص الأدوية المتواجدة
بالسوق دائما، حيث أن قطاع إنتاج الدواء مختلف عن باقي القطاعات الصناعية التي
تتمتع بفرصة تدبير العملة من السوق الموازية، للمحافظة على الإنتاج واستمرار
المنتج بالسوق، في حين أن توفير مصانع
الأدوية للدولار من السوق الموازية أمر غير وارد لأنه يكبدها خسائر مالية فادحة
خاصة أن الأسعار محددة مسبقا من قبل لجنة تسعير الدواء على سعر الدولار الرسمي في
البنوك، فضلا عن أنه أمر غير مسموح به قانونا.
أسباب أزمة الدواء تتمادى بصورة تراكمية دون
وجود استراتيجية حقيقية للمواجهة والحل
وفي الواقع إن أزمة شح الدولار لم تكن إلا الثقب الذي أظهر عورات المنظومة
الدوائية ككل، وهو المحطة الأحدث منذ تم تحرير مدار لأسعار العملة المصرية في شهر
نوفمبر عام 2016، في مسار محطات كبرى للمتدهورات المزمنة في الأوضاع الوطنية
للدواء، والتي تراكمت على مدى عقود؛ ويرجع ذلك إلى عدد من الأسباب تشمل:
أولا ـ فشل السياسات الدوائية القومية والتي
تنقسم بدورها إلى مجالين، مجال توفير
الدواء المستورد بكميات وبأسعار مناسبة، ومجال صناعة الدواء محليا، حيث تستحوذ الشركات الخاصة والأجنبية متعددة
الجنسيات على أكثر من 96% من سوق الدواء المصري، إضافة إلى تضارب السياسات الحكومية والأخطاء في
الإدارة عبر الحكومات المتعاقبة، فكانت النتيجة ما يجري حاليا من الفوضى الدوائية.
ثانيا ـ اعتماد صناعة الدواء المصرية على
الاستيراد بنسبة 95% فإن هذا يعني تحريك أسعار الدواء صعوداً حسب السوق العالمي
وقوة العملة المصرية.
ثالثا ـ مشكلة الزيادات العشوائية في أسعار
الدواء منذ صدور القرار 499 لسنة 2012، وهو نظام التسعير الحالي الذي يعتمد على
نظام ما يسمى بالدول المرجعية دون مراعاة تكاليف الإنتاج ومستلزمات التشغيل والنقل
وهامش الربح وغيرها من ضوابط تسعير أي منتج.
رابعا ـ تراجع المخصصات الحكومية لدعم
الدواء سنويا منذ عام 2014، وكان آخرها تراجع ما تم إنفاقه فعليا على دعم الدواء والتأمين الصحي بنسبة 50
بالمئة في ختام ميزانية العام المالي
الماضي 22/2023.
أسعار الدواء في زيادة مستمرة وبصورة شبه
يومية وبنسب عالية من السعر الأصلي لكل صنف
خلال العام الماضي 2023 ارتفعت أسعار ألفي صنف دواء وبنسبة تبلغ 50 بالمئة من عدد الأدوية الأكثر تداولا في السوق المصري؛
حيث يوجد 17 ألف دواء مسجل في مصر، بينها 4 آلاف صنف دواء هي الأكثر تداولا، ومن
المتوقع إصدار قرار بزيادة جديدة خلال أيام، نظرا لشكاوى مصانع الأدوية بأنها باتت
تصنّع أدوية بتكلفة أعلى من أسعار البيع المحددة جبرياً، في ظل ارتفاع سعر الدولار
وارتفاع تكاليف استيراد المواد الخام ومستلزمات الإنتاج.
أحد سيناريوهات الزيادة المقترحة، يتضمن رفع
أسعار عدد 1500 صنف دواء تمثل نسبة 35 بالمئة من الأدوية الأكثر
تداولا في مصر، حسب تصريحات المسؤولين في
شعبة الدواء بالغرفة التجارية، والسيناريو
الثاني المتوقع، يتضمن رفع أسعار 450 دواءً لعلاج الأمراض المزمنة وغيرها من
الأدوية التي تستخدم بشكل يومي، بنسبة تتراوح بين 15 و20 بالمئة، بجانب تحريك
أسعار 600 دواء من المستحضرات التي تسمى "OTC"، التي تصرف دون وصفة طبية كالمسكنات وخوافض
الحرارة وأدوية نزلات البرد والحساسية، بنسبة 30 بالمئة، فضلاً عن زيادة أسعار
جميع المضادات الحيوية والأدوية المستخدمة بشكل موسمي.
حل أزمة الدواء يلزمه عدة إجراءات مرحلية
حسب استراتيجية واضحة المعالم
يجب البدء فورا بإصدار قرار من مجلس الوزراء
بالإعفاء الجمركي للخامات الدوائية ومستلزمات التشغيل وبعض الأدوية الأساسية
الموجودة بالجمارك حاليا، وذلك أسوة بالقرار الذي سبق إصداره خلال شهر فبراير 2023، وتم إعفاء شحنات قمح لشركة "سايلوفودز" المملوكة للجيش
المصري من الجمارك بسبب نقص الدولار. وهذا الإجراء العاجل لا بد منه بالنسبة للدواء، لحين التواصل مع البنوك للوقوف على موعد تطبيق الاستيراد بالعملة المحلية بين الدول الأعضاء لمجموعة البريكس بلس، إذ تعد كل من الصين والهند من أكبر الدول
المصدرة للمادة الخام في العالم، بحسب تصريحات عضو مجلس إدارة غرفة صناعة الدواء
باتحاد الصناعات لـموقع ”إيكونومي بلس” في بداية شهر شباط/ فبراير الجاري.
وبالتوازي يجب على اللجنة الوزارية المختصة
بالدواء والمشكلة في ديسمبر 2023 بقرار من رئيس الوزراء ويترأسها وزير الصحة
وعضوية رئيس هيئة الدواء المصرية ورئيس هيئة الشراء الموحد أن تقوم بدورها في
استصدار قرار جديد للتسعير حسب القواعد القياسية لتسعير أي منتج؛ وإلغاء القرار
499 لسنة 2012 والذي أدى إلى تفاقم
المشكلة.
ويجب إعادة ضخ التمويل الحكومي اللازم لدعم
الدواء بصورة فعالة ودائمة، بغض النظر عن وجود صندوق مواجهة الطوارئ الطبية والذي
يعتمد في تمويله على المساهمات والمنح والتبرعات والتي تعني فقدان الديمومة
والاستمرارية.
ومن ناحية أخرى وعلى المدى البعيد فإنه يجب
السعي ليس فقط لتوطين صناعة الدواء باستيراد الخامات؛ ولكن العمل الجاد نحو تعميق
صناعة الدواء في مصر؛ وذلك بالبدء فورا في توفير التمويل اللازم نحو دعم البحوث
الدوائية بالجامعات المصرية، وتطوير مصانع مجمع شركة النصر لصناعة الكيماويات
الدوائية، حتى يمكن تصنيع جميع الخامات الدوائية في مصر وعدم الاعتماد على
الاستيراد والخضوع لمشاكله المتعددة.
وختاما لا بد من التركيز على تميز الأدوية عن
غيرها من المواد والبضائع المستهلكة بأهميتها ومدى ضرورة الحاجة إليها، وتعتبر
الصناعات الدوائية في كثير من الدول المتقدمة خيارا استراتيجيًا لا حياد عنه،
ولا بد من تملك الدولة المصرية للقدرة على تعميق إنتاج الدواء وليس مجرد فكرة
التوطين، وذلك هو الضمان لأمن وصحة وسلامة الأمة.