كل دولة ربما يُقرأ تاريخها من زاوية معينة، وكل مؤرخ
يقرأ الحدث، أو فقرات الأحداث، في الدول المعني بدراستها من لحاظ معين. بعضهم يقرؤها
من زاوية سياسية، وآخر يقرؤها من زاوية اجتماعية، وثالث يقرؤها من زاوية اقتصادية،
ورابع يقرؤها من لحاظ جيوبولوتيكي، وشريحة نخبوية تقرؤها من زاويتين أو أكثر، أو
الزوايا المجتمعة. ولعل ما يميز دولة عن دولة في هذه القراءة، هي غلبة هذه الزاوية
على الزوايا الأخرى، فإن كانت الدولة المعنية بالدراسة ذات ظهور ونشأة وحضور دولي
اقتصادي فستُقرأ بالتأكيد من هذه الزاوية، ولذا كثيرا ما تغلب على قراءة التاريخ
الإسلامي القراءة من اللحاظ العسكري، نظرا لكثرة الفتوحات العسكرية، وانتشار
الإسلام بشكل سريع نتيجة هذه الفتوحات.
قدمت هذه المقدمة لندرك الزاوية التي يمكن أن تكون
مدخلا، نلج منها لدرس تاريخ عائلة آل
الأسد التي امتطت البعث كوسيلة وأداة للوصول
إلى الحكم، ثم الحكم تحت لافتته، ما دامت أقلية طائفية بحاجة إلى يافطة تحكم من
خلالها، لتقنع الجمهور والشعوب العربية والإسلامية بشرعية هذا الحكم، ولذا كان
استخدام أشرف قضية للعرب والمسلمين كرافعة لظهورهم على ساحة الحكم، وهي القضية
الفلسطينية..
لحاظ جديد ومدخل نوعي يمكن أن يضاف لدراسة التاريخ،
وهو أن تتم قراءة حكم عائلة آل الأسد عبر البعث وهو لحاظ
المجازر المرتكبة بحق
السوريين وغيرهم.. نقول هذا ونحن نعيش أجواء مجزرة العصر، حماة الفداء، التي وقعت
في الثاني من شباط/ فبراير 1982 واستمرت لـ27 يوما وراح ضحيتها 40 ألفا من
المدنيين الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، عبر استخدام كل ما تملكه العصابة
الطائفية المجرمة من أسلحة فتاكة، وعبقرية إجرام، فكان القتل والإجرام، والإعدامات
الجماعية، فضلا عن مسلكيات لا تخطر على قلب بشر هي الحاضر الأول والأخير، فبقرت
بطون الحوامل، وقتلت الرضع، وحرقت الجثث وفجرت البيوت والمساجد والكنائس، وسط صمت
عالمي مطبق، لكن كشف عن أهوالها لاحقا من نجا من هذه المجزرة، إلى جانب بعض
الروايات التي وثقت تلك الأيام المرعبة من تاريخ
سوريا.
ولا يزال المؤرخون والشهود عيان مدعوين لتوثيق هذه الأيام
السبعة والعشرين التي هزت سوريا والضمير العالمي، وحتى صديقي سابقا الصحافي روبرت
فيسك الذي دخل المدينة بعد وقوع المجزرة لم يوثقها، وإنما تحدث لِماما في كتابه
المهم " الحرب
الكبرى تحت ذريعة الحضارة" والمكون من ثلاثة مجلدات، وربما أحجم عن ذلك لقربه
من النظام، كي لا يفقد علاقاته وقربه منه، وربما ما يفسر ذلك لاحقا علاقته مع مدير
المخابرات الجوية جميل الحسن، ونقله لاستجوابات بعض المعتقلين لديه في الفرع
المرعب على أنها حقيقة ووقائع، فقطعت اتصالي به يومها على الرغم من تكراره الاتصال
الهاتفي، قبل أن يرحل عن عالمنا.
اليوم أقرأ رواية "السوريون الأعداء" للقاضي
فواز حداد، ابن حماة والذي راحت عائلته الكبرى كلها، لكن نجا ابن أخيه الذي أتت به
سيدة حموية إلى دمشق حيث يعمل القاضي، وسلمته إياه، لكن مع كل جلسة قراءة لهذه
الرواية أجمع كل ما أملك من قوة وشجاعة لأطالع أهوال ما فعله المجرمون القتلة
بأبناء شعبنا في حماة الفداء.
لم تكن
مجزرة حماة الأولى في تاريخ هذه العصابة
المجرمة، فبعد أقل من عام تقريبا على وصول البعث النبتة الخبيثة المزروعة في جسد
هذه الأمة، وحاضرتها الشام، فقد بدأ مجازره الأولى في مساجد سوريا، وكأنه يعرف
أنها مقتله: المسجد الأموي في دمشق، والمواجهة يومها مع العالم الرباني عبد الرحمن
حبنكة الميداني، وأتباعه، ومسجد السلطان، عام 1964، حيث اقتحمت الدبابات المسجدين،
وكان لحكمة الشيخين الميداني ومحمد الحامد رحمهما الله دورا في إخماد شهية
البعثيين المبكرة لدماء السوريين.
في أواسط السبعينيات توجه جيش البعث إلى لبنان من أجل
سدّ ثغرة يراها مهمة، حيث يتنفس الأحرار السوريون الهاربون من بطش البعث حرية
التحرك ضد الأنظمة المستبدة في سوريا، فكان أن حاصر جيش البعث المخيمات الفلسطينية
ومقرات القوى الوطنية اللبنانية، وأجهض كل تطلعاتها، فكانت سلسلة مجازره في لبنان
من تل الزعتر والبداوي والكرنتينا ثم مجزرة صبرا وشاتيلا التي قادها حليفه إيلي
حبيقة بدعم من الأسد وشارون، وقد لاحظ الكل كيف كان حبيقة مقربا من حافظ الأسد
وفرضه على الحكومة اللبنانية.
ولا زلنا نستذكر حلفاءه من منظمة أمل في حصار المخيمات
الفلسطينية وإرغام المحاصَرين على أكل لحوم القطط والكلاب، بعد نفاد الطعام من
عندهم، فماتوا من الجوع والعطش، وسط صمت عربي واسلامي وعالمي مطبق، تماما كما جرى
للسوريين من قبل ومن بعد. فقد جابه النظام المجرم انتفاضة السوريين في الثمانينيات
بالمجازر، من مجزرة تدمر التي قتل فيها أكثر من ألف سجين، ثم المجازر شبه
الأسبوعية في تدمر على مدى سنوات والتي قدرها السجناء بأكثر من 25 ألف سجين من
خيرة أبناء سوريا، وتنقلت يومها مجازر النظام في كل محافظات سوريا، لكن القسط
الأكبر في جسر الشغور وحلب، حيث لا ينسى أهالي حلب مجزرة المشارقة في يوم العيد
والتي راح ضحيتها عشرات الشهداء.
لا يمكن قراءة تاريخ سوريا لنصف قرن دون التركيز الأكبر على هذه المجازر ومعها تورط قوى داخلية وإقليمية ودولية فيها، فالمدخل الأول لفهم تاريخ سوريا خلال نصف القرن الماضي يكون من خلال هذه المجازر التي كانت على امتداد التاريخ والجغرافيا السوريتين
وحين تسلم بشار الأسد وديعة أبيه، كان القتل والإجرام
على مدار الساعة، إذ قد لا يخلو أسبوع في سوريا منذ اندلاع
الثورة عام 2011 وحتى
اليوم دون مجزرة بحق الشعب السوري، والتي راح ضحية مجموعها أكثر من مليون شهيد،
فضلا عن نصف مليون معتقل، وأكثر من 14 مليون مشرد. وتتنوع بين مجازر بالطيران
وقذائف الهاون والقصف والصواريخ وخراطيم الألغام البحرية، والبراميل المتفجرة التي
وصل عدد ما تم إلقاؤه منها على الشعب السوري أكثر من 82 ألف برميل بحسب دراسة
بريطانية موثقة، فضلا عن استخدام الكيماوي 217 مرة بحسب دراسة بريطانية مستقلة
أيضا، دون أن يرف جفن العالم كله. وحين فشل نظام الأسد في هزيمة إرادة السوريين
استدعى عصابات منفلته طائفية، ودولتين؛ إقليمية هي إيران وعالمية هي روسيا لإخماد
ثورة السوريين، ولم تخجل الدولتان من الإعلان عن مكنونات صدورها، بأن الحرب عقدية
ضد أهل السنة والجماعة، وهو ما أعلنه لافروف، وقادة طائفيون في طهران والعراق
ولبنان.
على هذه الخلفية السريعة لتاريخ المجازر التي ميّزت
حقبة سطو البعثيين والأسديين على السلطة، لا يمكن قراءة تاريخ سوريا لنصف قرن دون
التركيز الأكبر على هذه المجازر ومعها تورط قوى داخلية وإقليمية ودولية فيها،
فالمدخل الأول لفهم تاريخ سوريا خلال نصف القرن الماضي يكون من خلال هذه المجازر
التي كانت على امتداد التاريخ والجغرافيا السوريتين.