يمكن تحليل القرار الصادر عن محكمة العدل الدولية من زوايا مختلفة،
ويمكن الإسهاب في حشد الأدلة التي تؤكد أن هذا القرار ليس بمقدوره وقف معاناة
الشعب
الفلسطيني المتواصلة منذ أزيد من 76 سنة، وليس بمقدوره، هنا والآن، أن يوقف
العدوان الوحشي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني في
غزة، ولكن إذا نظرنا إلى هذا
القرار انطلاقا من رؤية تاريخية تنظر إلى النضال الفلسطيني باعتباره نضالا وطنيا
تحرريا معقدا وطويلا أمام
احتلال عنصري استيطاني مدعوم من قوى كبرى، وهو النضال
الذي يفرض على الفلسطينيين ـ ومن ورائهم الأمة العربية والإسلامية كما هو مفترض ـ
معركة متعددة الأبعاد ومتعددة الواجهات، فإلى جانب المعركة الميدانية التي تخوضها
المقاومة الباسلة، فإن الواجهة السياسية والإعلامية والقانونية، بهذا المنظور
التكاملي، لا تقل أهمية عن المعركة القانونية داخل الأجهزة القضائية المختصة.
قرار تاريخي يمثل انتصارا معنويا للشعب الفلسطيني..
انطلاقا من هذا المنظور، يمكن اعتبار القرار الصادر عن محكمة العدل
الدولية يوم الجمعة 26 يناير بمثابة قرار
تاريخي يمثل انتصارا معنويا كبيرا للشعب الفلسطيني في معركته ضد الاحتلال ويحشر
دولة الكيان الصهيوني تدريجيا في زاوية الدول المارقة بعد قبول محكمة العدل
الدولية النظر في القضية المرفوعة إليها من طرف دولة جنوب إفريقيا ورفض الطلب
الإسرائيلي بعدم النظر في الدعوى، وهو ما يعني ان المحكمة أمام شبهة وجود جريمة
إبادة جماعية وهناك توفر لعناصر جريمة الابادة الجماعية، وهو ما يمنح للمحكمة
صلاحية الحكم بإجراءات طارئة في قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل، قبل إصدار
الحكم النهائي.
لقد انطلق قرار المحكمة من استعراض أهم هذه العناصر التي تشكل مبررات
موضوعية لاتخاذ الإجراءات الطارئة، ومنها على الخصوص: استمرار الخسائر في الأرواح
في غزة وإدراك المحكمة لحجم المأساة الإنسانية في غزة وأخذها بالاعتبار البيانات
الأممية بأن غزة تحولت إلى مكان لليأس والموت، وهنا لابد من الإشارة إلى أهمية
البلاغات والتصريحات الصادرة عن الأمين العام للأمم المتحدة التي كان لها دور هام
في تسليط الضوء على الجانب الإنساني لهذه
الحرب العدوانية على غزة، كما أخذت
المحكمة بعين الاعتبار بيان الأونروا عن تردي الأوضاع الإنسانية وإحباط السكان في
قطاع غزة، وتمت الإشارة إلى البيان الصادر عن فيليب لازاريني، المفوض العام
للأونروا في 17 كانون الثاني / يناير
2024، وفي هذا السياق يمكن أن نفهم الحملة الإعلامية الممنهجة التي تقودها دولة
الاحتلال الصهيوني وحلفاؤها ضد الأونروا وتتهمها بالتواطؤ بل وصلت إلى درجة الكذب
بادعاء أن سبعة من موظفي الأونروا شاركوا في هجمات 7 أكتوبر.
يمكن اعتبار القرار الصادر عن محكمة العدل الدولية يوم الجمعة 26 يناير بمثابة قرار تاريخي يمثل انتصارا معنويا كبيرا للشعب الفلسطيني في معركته ضد الاحتلال ويحشر دولة الكيان الصهيوني تدريجيا في زاوية الدول المارقة بعد قبول محكمة العدل الدولية النظر في القضية المرفوعة إليها من طرف دولة جنوب إفريقيا ورفض الطلب الإسرائيلي بعدم النظر في الدعوى
ومن المهم جدا أن المحكمة أخذت بالاعتبار تصريحات المسؤولين
الإسرائيليين التي تجرد سكان غزة من إنسانيتهم، ومنها تصريحات وزير الدفاع الذي
وصف الفلسطينيين بالحيوانات البشرية وقرر التعامل معهم على هذا الأساس وفرض حصار
شامل على غزة ومنعهم من أسباب الحياة من ماء ودواء وكهرباء ووقود، وهي تصريحات
موثقة تنضاف إلى تصريحات وزير آخر طالب باستخدام القنبلة النووية على سكان غزة
وغيرها من التصريحات الموثقة التي تؤكد توفر شرط النية في الإبادة الجماعية
لمجموعة محمية من طرف القانون الدولي وهي المجموعة الفلسطينية كما أكدت على ذلك
المحكمة استنادا إلى اتفاقية منع الإبادة الجماعية، كما أقرت المحكمة بحق
الفلسطينيين في الحماية من أعمال الإبادة الجماعية، معتبرة أن الحقوق التي سعت
جنوب إفريقيا إلى الحصول عليها منطقية.
انطلاقا من هذه الاعتبارات القوية أكدت المحكمة ولايتها القضائية
للبت في دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، كما أعلنت رفضها قبول طلب إسرائيل برد
الدعوى مؤكدة صلاحية المحكمة بإصدار إجراءات طارئة في قضية الإبادة الجماعية ضد
إسرائيل، ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن المحكمة ذكرت بقدرة كل الدول الأطراف
على محاسبة الدول الأطراف الأخرى في حال ارتكاب الأخيرة انتهاكات ما، وهو ما يفتح
المجال أمام إمكانية رفع دعاوى جديدة ضد الدول المساندة لدولة الاحتلال في حرب
الإبادة المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني.
الإجراءات المؤقتة تدين دولة الاحتلال وتفرض التزامات فورية على
المجتمع الدولي..
بغض النظر عن إشكالية التنفيذ التي ليست مرتبطة فقط بقرارات المحكمة
ولكن بالقانون الدولي ككل، وهي إشكالية معقدة لا يتسع المقام لتحليلها، فإن أهمية
قرار المحكمة يكمن في التوثيق القضائي الدولي لجرائم الاحتلال واستقرار مجموعة من
الأفعال الجرمية داخل حكم قضائي صادر عن محكمة العدل الدولية، كما تجدر الإشارة أن
التدابير الطارئة بموجب النظام الأساسي للأمم المتحدة هي تدابير ملزمة، ومن هذا
الباب قام الأمين العام للأمم المتحدة بإحالتها على مجلس الأمن بموجب الفصل 94 من
الميثاق، وفي حال عدم الالتزام من طرف أحد الاطراف فيمكن لأحد الأطراف اللجوء
لمجلس الأمن.
ومن المعلوم أن التدابير المؤقتة لا يتم اللجوء إليها إلا إذا كانت
هناك حاجة ملحة، بمعنى أن هناك خطراً حقيقياً ووشيكاً، ينبغي إصلاحه قبل أن تصدر
المحكمة قرارها النهائي.
هنا يثور التساؤال: لماذا لم تستجب المحكمة لطلب الوقف الفوري لإطلاق
النار؟
لا يستبعد وجود ضغوطات سياسية على المحكمة، ولكن مضمون القرار من
الناحية النظرية يفيد في النهاية ضرورة وقف إطلاق النار، لذلك اعتبرت وزيرة خارجية
جنوب افريقيا بأن الإجراءات المؤقتة لا يمكن تنفيذها دون وقف إطلاق النار.
إن مجموع الإجراءات المستعجلة التي فرضتها المحكمة على دولة الاحتلال لا يمكن قراءتها إلا في ضوء اتفاقية منع الإبادة الجماعية التي تعني أن قتل أعضاء الجماعة الفلسطينية يندرج ضمن الأفعال التي تمثل إبادة جماعية
ولفهم مضمون الإجراءات المؤقتة لابد من العودة لاتفاقية منع جريمة
الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها التي عرضت للتوقيع وللتصديق أو للانضمام بقرار
الجمعية العامة في دجنبر 1948 ودخلت حيز التنفيذ في 11 يناير 1951، خصوصا وأن
المحكمة أمرت "إسرائيل" بضمان عدم ارتكاب قواتها أعمال إبادة جماعية،
طبقا لمقتضيات المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية، التي تنص على ما
يلي:
"في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة
الجماعية أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي
لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:
أ ـ قتل أعضاء من الجماعة.
ب ـ إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
ت ـ إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي
كلياً أو جزئياً.
ث ـ فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
ج ـ نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى".
ومن هذا المنطلق، طالبت المحكمة دولة الاحتلال باتخاذ إجراءات من أجل
منع ومعاقبة ووقف جميع الأفعال بما فيها القتل والتسبب بالضرر البدني، كما طالبتها
باتخاذ إجراءات فورية لتوفير الخدمات الأساسية المطلوبة في حالة الحرب للفلسطينيين
الذين يعانون من ظروف صعبة.
واقتناعا من المحكمة بأهمية الأدلة التي تدين إسرائيل بارتكاب إبادة
جماعية فإنها طالبت الدولة المتهمة باتخاذ تدابير لمنع تدمير الأدلة حول ارتكاب
إبادة جماعية، كما فرضت عليها رفع تقرير إلى المحكمة حول مدى تنفيذها لهذه
التدابير خلال شهر واحد، وهو ما يعتبر بمثابة إجراء قانوني ملزم، يجعل دولة
الاحتلال وتصرفاتها أمام المراقبة القضائية الدولية، كما أن الدول التي تدعم
إسرائيل ستتقاسم عمليا تهمة الابادة الجماعية مع دولة الاحتلال..
في المجمل..
يمكن القول بأن هذا الحكم الأولي وإن كان لا يجيب على الاتهام
الأساسي في القضية أي الإبادة الجماعية، كما أنه لم يستجب بشكل مباشر وصريح لأحد
المطالب المستعجلة التي سعت إليها جنوب إفريقيا، وهو المتعلق بالوقف الفوري للحملة
العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة، فإن مجموع الإجراءات المستعجلة التي فرضتها
المحكمة على دولة الاحتلال لا يمكن قراءتها إلا في ضوء اتفاقية منع الإبادة
الجماعية التي تعني أن قتل أعضاء الجماعة الفلسطينية يندرج ضمن الأفعال التي تمثل
إبادة جماعية، وبالتالي فإن تذكير المحكمة بالمادة الثانية يضع الحكومة
الإسرائيلية في حجر الزاوية ويمنعها ـ
نظريا ـ من قتل الفلسطينيين، المدنيين منهم على وجه الخصوص، ويجعل القوى المتحالفة
معها أمام عبئ أخلاقي وقانوني وسياسي كبير في مواجهة جزء كبير من
الرأي العام
الغربي الذي بدأ يستوعب بشكل أكثر وضوحا لأطول مأساة عانى منها شعب تحت الاحتلال،
وهي مأساة لن تنتهي بقرار محكمة العدل الدولية والجميع يعرف ذلك، لكنه يبقى قرارا
جيدا على المستوى القانوني يساهم في خلق تراكم نضالي معتبر في المعركة الطويلة
للشعب الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال، ويخلق حالة من العزلة السياسية لدولة
الاحتلال..