المشكلة
ما أتحدث به اليوم، يمثل مشكلة أمة
ممزقة تتقاذفها الأهواء والأنانية، وليست خلافاتها بسبب رأي أو اجتهاد أو طائفية
مزعومة أو أية رابطة هابطة مما سبق ذكره أو لم يذكر؛ كالعرقية التي يُلتجأ إليها
بغياب أو تشوه الرابطة العليا لأمتنا، والتي هي رابطة جامعة للتعدد والتنوع وإنتاج
الإيجابية من هذا التعدد والتنوع، وليس كما نرى الآن التطاحن والتشاحن بل مداراة
أعداء الأمة بضرب الأمة بعضها ببعض، واختراق قدسية معتقدها الأساس وتغليب الروابط
الهابطة.
هذا ليس سببه التنوع؛ فالأمة أمة
حية تتنوع فيها الرؤى مذ ظهرت، لكن جُعل التنوع سببا لتدهور الأمة وإذلالها بواسطة
قادتها طاعة لإرادة أعدائها، غير مستفيدين من التاريخ الذي يعيشون سلبياته
ويستحضرونها ولا يستفيدون من مواعظه وأحداثه، فما أشبهنا اليوم بعصر دويلات المدن
وعشية سقوط الأندلس التي انتهت بسقوط غرناطة!
المشكلة الحقيقية هي لغة الفهم
لأعداء الأمة الذين اتضحت هويتهم كحكومات حتى لشعوبهم التي تتظاهر اليوم ضد
أفعالهم وقراراتهم، ووقوف من له ضمير أمام الإبادة الجماعية. وتميزت خطوط وهويات
ومرامٍ في معركة طوفان الأقصى بين غزة والكيان، لكننا من شرق الأمة وغربها لم ندرك
لغة من يغزوها، بل أضحينا نعين الغازي باسم طائفية أو باسم قومية، فتسول لنا أطماعنا
والأنا الإبليسية ما نفعله كقادة لهذه الأمة وحكومات؛ غالبا يتعرض الشعب
بسلوكياتها إلى طغيان وأذى كبير، يضعه كل يوم أمام اختبار الإيمان بالعقيدة والوجود
في الحياة.
لغة الولايات المتحدة:
الولايات المتحدة تمثل نموذجَ
الدولة الحديثة وفي مراحل متقدمة، لها سياقاتها في كل شيء، حتى في المغامرة
وحدودها، حتى في علاج الطبيب لمريضه وفي أي حركة للمجتمع؛ بالمختصر نمط حياة قريب
من نمط حياة الغرب عموما لكنه أكثر علمية، لهذا فهو مجتمع مترابط ليس بالمواطنة
المعروفة والعلاقات المجتمعية العائلية التي نعرفها في الشرق، بل بسيادة القانون
والحفاظ على نمط الحياة.
كمثال للفهم: بايدن أو أي رئيس ليس
الحاكم بأمره كما هو عندنا، وإن نسبت القرارات إليه، لكن لديه هامشا من الإنجاز
والاجتهاد وتنفيد وعوده أمام ناخبيه، ومثال ذلك التزامه أمام اللوبي الصهيوني.
فالتطبيع رسالته ورسالة الجمهوري ترامب ورسالة أوباما وكلهم لا يختلفون إلا
بالوسيلة، فأوباما مثلا يعتمد على إضعاف المنطقة العربية وإثارة المخاوف من إيران
التي تتماشى مع هذا الأمر باتفاق للمصالح، بيد أنها تتوقع تحقيقها والحقيقة أنها
لن تحقق أي شيء ولن تحقق أبعد مما هو مسموح لها؛ فقوى الغرب ضاربة جدا وتطورها
المدني في آليات الحرب كجبل الجليد.
ونلاحظ اليوم أن هنالك إبقاء على
حالة اللا غالب ولا مغلوب، وأن بايدن غير سعيد بطوفان الأقصى؛ لأنه أعاقه عن تحقيق
درجات إضافية لإعادة انتخابه بتحقيق أكبر تطبيع مع السعودية وربما في مرحلة لاحقة إيران.
فالتطبيع هو نقاط يجمعها الرئيس الأمريكي ليس اهتماما بالنتائج أو صالح المنطقة، بل
بنجاحه في مهمة ما. تنظر السعودية إلى هذا الأمر بمدى استمرار العلاقات التاريخية
والتخلص من إرث التاريخ القريب، وتنظر إيران إلى أنها تمتد اتكالا على توافق بين
المصالح التكتيكية الأمريكية والاستراتيجية الإيرانية، لكن هذا تكتيك وتلك
استراتيجية، فهنالك تخادم لكنه في التكتيك.
والتطبيع مستقبلا سيخلق جوا
تنافسيا بين المطبعين، وسوء تفاهم سيُغذّي حالة حرب لا غالب ولا مغلوب، وإنما
استنزاف للأطراف فيسقط الجميع في عبودية الكيان الصهيوني بذات الأسلوب التنافسي الآن
بين دول مطبعة؛ ممنوع الحرب بينها لأن حربها تتعارض مع استراتيجية دول عظمى، لكن الجفاء
غير ممنوع بين دول المنطقة بل هو مطلوب.
هذه اللغة التي لا تفهم من مراكز
القوى والحكام في المنطقة، لذا نرى الضحية الشعوب والعقيدة والدين والثقافة
والكينونة، بل الحياة بعبارة أكثر جمعا.
ترامب ينظر إلى الأمور بتكتيك
تقليدي تتبعه الولايات المتحدة ومتكيف جيشها معه وهو المنهج الأسبرطي، فهو يرغم
الهدف، عدوا أو صديقا لا فرق، ليس قلة احترام وإنما هذا هو المنهج وأسلوب ونمط
تعامل بالقوة، التي هي عنصر تعامل الولايات المتحدة مع الخارج في حماية الاقتصاد
والمال، ولا تجامل أحدا في سلطة الدولار، فهي تتعامل مع حلفائها على هذا الأساس وأنها
الحاكم المتحكم، وضربهم ببعضهم في توصيف دقيق لا يمتد خارج حدود ما يريد شعرة.
فالولايات المتحدة لا تخرج عن
النظام وليست دولة مغامرة كما يتصور البعض، بل دولة متجبرة وشركة مؤسساتية قادرة
على التكيف وصنع الأحداث، لا ترضى عنك باعتذارك أو بتغيير سياستك، بل تفترض أنها
أخضعتك وستنتهي من أمرك عندما يحين التوقيت، فإن كنت ضمن استراتيجيتها، فهو أمر غير
أن تكون ضمن التكتيك، فهي تمد الحبل إلى أن تنتهي مهامك عندها تنظف الساحة. دولة
قوية لكنها ضعيفة تماما أمام فقدان سيادة القانون والسيطرة الحديدية؛ عامل انهيارها
في داخلها فهل تصمد أمام فوضوية الليبرالية الحديثة كصمود النظام أمام اليسار
الأمريكي. هنا مربط الفرس والشيخوخة؛ لذا يحرص الكيان الصهيوني على استنفاد
الولايات المتحدة واستخدام هيمنتها لتحقيق هيمنته عبر
التطبيع والاستحواذ على
محيطه المفكك، قبل أن تتلاشى القوة العظمى وفق حركة التاريخ.
هل كلامي مفهوم؟
أجيب واثقا "لا"؛ لأن
عموم أهل المنطقة عرب وغير عرب، وحتى الكيان لهم جهاز معرفي تقليدي يعيش في الماضي
وقيود الأوهام بأيدولوجيات لا تؤمن بها السلطات فعلا لإنشاء دولة.
ويستديم العبث ما لم ينهض فكر إصلاحي
يقود التغيير يتعامل مع الأفهام وإعادة تنظيم مخرجات المدنية، ويعلم كيف يستخدم
أوراق القوة بدل التيه والتبديد.