في
الوقت الذي تواصل فيه الأنظمة العربية سُباتها السياسي وتواصل أغلب النخب سباتها
"الدوغمائي"، يبدو أن أمواج "الطوفان" قد بلغت أماكن وأطيافا
لم يكن أحد يتوقع أن تصل إليها خارج المجال العربي-الإسلامي.
ففي
وسائل التواصل الاجتماعي، عبّر الكثير من المواطنين والمواطنات عن ذلك الإحساس
العفوي بوجود تحولات جذرية في مستوى الوعي الجمعي الغربي، سواء في علاقته
بالمقاومة أو في علاقته بالإسلام. وهو إحساس تؤكده عمليات سبر الآراء الشاهدة على
وجود "انقلاب" كبير في مستوى الدعم الشعبي للسياسات الحكومية المتصهينة،
وكذلك في مستوى الثقة في السردية "الإسرائيلية" وتنامي ظاهرة التأييد
للسردية
الفلسطينية والانفتاح على الدين الإسلامي. ولعلّ أفضل من يعكس هذه
التحولات هو ذلك المواطن الأمريكي المسيحي "الأبيض"؛ عندما قال بأن
الحرب على
غزة هي فرصة لتحرير الولايات المتحدة نفسها من التزييف الإعلامي ومن
اللوبيات "الصهيونية" ومن إهدار "المال العام" (أي أموال
دافعي الضرائب) خدمةً لمصالح الكيان.
لقد
تحدثنا في مقالنا السابق عن "
الاستبدال العظيم" باعتباره سُنّة كونية
مدارها عدم ارتهان المشروع الإلهي لأي شخص طبيعي أو اعتباري يرفض قصديا الانحياز
للحق (أي يرفض الجهاد بالنفس والمال وما يجري مجرى المال من مظاهر النصرة بالكلمة
أو المقاطعة وغيرهما في عصرنا الحالي). وقد ذكرنا أن الاستبدال بدأ عندما انهدم
السياج الطائفي الفاصل بين جناحي الأمة بتوحّدهما -أو بالتقائهما الموضوعي- في
مطلب تحرير "أولى القبلتين" ومن ورائها كل فلسطين.
إحساس تؤكده عمليات سبر الآراء الشاهدة على وجود "انقلاب" كبير في مستوى الدعم الشعبي للسياسات الحكومية المتصهينة، وكذلك في مستوى الثقة في السردية "الإسرائيلية" وتنامي ظاهرة التأييد للسردية الفلسطينية والانفتاح على الدين الإسلامي
ولذلك،
فإننا نذهب إلى أنّ طوفان الأقصى ليس بداية الاستبدال ولكنه لحظة عولمته، أي لحظة
تداعي واقع السبات الدوغمائي وما يحكمه من سرديات، بما فيها تلك التي تدعي
التحرر
منها أو تكتسب شرعيتها من ادعاءاتها الخطابية بمقاومتها. فإذا كان الشيطان يسكن في
التفاصيل (كما يقول المثل) أو كان اللا عقل يسكن في المنظومات الأكثر عقلانية، فإن
أسوأ أنواع الدوغمائية وأخطرها تسكن في الدعاوى المناهضة لها سواء في ذلك التي
تدعي مطابقة الشرع واحتكار مقصود الشارع، وتلك التي تدعي مطابقة مقتضيات النظر
العقلي المجرد أو خدمة الإنسان بما هو إنسان دون أي مضاف اجتماعي ديني أو عرقي.
إنّ
تداعي ما أسميناه بواقع "السبات الدوغمائي" يعني موضوعيا أزمة سرديتين
أساسيتين تتناقضان ظاهريا وتتعامدان وظيفيا في خدمة واقع الاستبداد والتخلف
والتبعية، والترويج لمشروع صهينة الفضاء العربي-الإسلامي.
أما
السردية الأولى فهي السردية الطائفية التي ترى أن الشيعة هم العدو الوجودي للفرقة
الناجية (أي أهل السنة والجماعة) لأنهم "أشد كفرا من اليهود والنصارى".
ولا شك في أن طوفان الأقصى قد أثبت أن من يقف وراء "تطييف" الوعي
الإسلامي (أي السعودية الوهابية) هو أول من خذل المقاومة "السُّنّية"
وحرّض عليها ووالى أعداءها. كما أثبت "الطوفان" أن تصنيف السعودية
للإخوان وإيران قبل الكيان الصهيوني في سلم "تهديدات الأمن القومي" لم
يكن قرارا "سياديا" محضا؛ بقدر ما كان خدمةً للكيان الصهيوني في صراعه
ضد محور المقاومة (السني-الشيعي). وهي خدمة أكدها الموقف السعودي (ومن ورائه محور
التطبيع أو محور الثورات المضادة) من حرب الإبادة الجماعية التي يقوم بها الكيان
في غزة.
إذا
كانت السردية "الطائفية" تكتسب شرعيتها من مرجعيتها الدينية المعادية
للاختلاف داخل الأمة باعتباره ضلالا أو بدعة أو كفرا، والمعادية للعقل السياسي
الحديث باعتباره "منظومة كفرية"، فإن السردية الثانية -أي السردية
التحديثية- قد اكتسبت شرعيتها من وعودها بوضع الإنسان بما هو فرد من أفراد
الدولة-الأمة (لا باعتباره مسلما أو غير مسلم) في مركز الفعل السياسي، أي في مركز
مشروع "التحرير الوطني" وبناء مقوّمات السيادة.
ويبدو
أن "طوفان الأقصى" قد جاء ليؤكد قرب نهاية "الحداثي الأخير"،
أي ذاك الحداثي الذي يتحرك من داخل المرجعية الغربية بأشكالها الليبرالية والقومية
والماركسية لخدمة الدولة القُطْرية واقعيا، وللإيهام بمشاريع تتجاوزها نظريا (سواء
من جهة النصاب السياسي أو من جهة القيم السياسية المعيارية). فكل النخب الوظيفية في
جميع الأنظمة العربية -مهما كان شكل النظام السياسي- لا تخرج عن هذه المدارس
الغربية، ولا علاقة لها بأية أدبيات "نقدية" جذرية للتراث الغربي مثل
المدارس ما بعد الاستعمارية (دراسات التابع التي تحاول التخلص من مرجعية الغرب
و"صوته" الذي يسكن مفاهيمنا ومقارباتنا)، أو "لاهوت التحرير"
في أمريكا اللاتينية الذي أظهر إمكانية للمصالحة وللعمل المشترك بين الماركسية
والدين، وهو ما ينعكس سلبا على موقفها من "الإسلام" ومن الحركات
الإسلامية بما فيها حركات المقاومة.
بصرف
النظر عن مآلات الحرب الصهيو-صليبية الجارية على غزة، فإن هذه الحرب تمثّل فرصة تاريخية
للقيام بمراجعات جذرية تهمّ أنساق الذوات الفردية والأنساق الثقافية والدينية
والسياسية العامة. فالمقاومة (بجناحيها السني والشيعي) وبحاضنتها "الإنسانية"
التي تفيض على التصنيفات الدينية تمنح -من ألقى السمع والنظر وخلع نعلي الطائفية
وأوثان الحداثة الزائفة- مناسبةً لولادة ثانية، أي لولادة "إنسان جديد".
كل هامش تحرري يطرح على نفسه منازعة سلطة "الغرب" أو يهدّد مصالحه أو يطالب بأن يعامل بمنطق "التكافؤ" هو غزة، أي هو موضوع مؤكد للاستهداف الممنهج (إعلاميا وعسكريا) باسم الدفاع عن قيم الغرب التي ليس تحتها واقعيا إلا مصالحه المادية وما يسندها -في بنيتها العميقة- من خرافات
ولا
شك في أن هذا الإنسان لن يكون "إنسانا أعلى" بالمعنى النيتشوي الذي يحكم
الثقافة الغربية، ولن يكون أيضا "إنسانا طائفيا" بالمعنى الذي روّجت له
الوهابية وغيرها في الجهة المقابلة. إنه إنسان "النقد المزدوج" لكن
بمعنى مختلف عن استعمالات هذا التعبير في الثقافة العربية العالمة التي ابتلعت
المرجعية الغربية بروح غير نقدية جذرية، ولذلك عجزت عن أن تتقيأها (أي عجزت عن
تجاوزها جدليا)، شأنها في ذلك شأن الغزالي مع الفلسفة كما قال ابن عربي.
إن
النقد المزدوج -بالصورة المستأنفة التي نفهمه بها- لن ينجح إلا إذا انطلق من الكفر
بـ"أوثان" العقل الغربي والعقل التراثي على حد سواء. ولعل المدخل الأمثل
لذلك هو الانطلاق من اعتبار الصهيونية أعلى مراحل الإمبريالية (مراجعة المقدس
"الحداثي" الذي يُخفي جذوره اليهو-مسيحية تحت غطاء علماني وإنساني كاذب)،
واعتبار الطائفية آخرَ مراحل "الفقه السلطاني" المحرّف لروح الديانة
الخاتمة وجوهرها التحرري (مراجعة المقدس الديني الذي يستصحب روح فرعون لا روح
النبي)، واعتبارهما معا -أي الحداثة الزائفة والدين المتمذهب- العدو الوجودي
الأخطر لله والإنسان، وليس فقط لغزّة وأهلها.
فكل
هامش تحرري يطرح على نفسه منازعة سلطة "الغرب" أو يهدّد مصالحه أو يطالب
بأن يعامل بمنطق "التكافؤ" هو غزة، أي هو موضوع مؤكد للاستهداف الممنهج
(إعلاميا وعسكريا) باسم الدفاع عن قيم الغرب التي ليس تحتها واقعيا إلا مصالحه
المادية وما يسندها -في بنيتها العميقة- من خرافات "شعب الله المختار"
(أي الإنسان الغربي الأبيض المسيحي المتصهين الذي لا يكاد يرى في الوجود إنسانا
غيره ولو بلغت ادعاءاته الإنسانية عنان السماء).
twitter.com/adel_arabi21