«
وائل الدحدوح.. قصة، أسطورة» هكذا خاطب أحمد الطيبي العضو العربي في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) النوّاب الإسرائيليين وهو يصرخ في وجوههم «لماذا تستهدفون الدحدوح؟!» بعد أن قتلت طائرة مسيّرة ابنه البكر حمزة، الصحافي في قناة «الجزيرة» وزميله مصطفى ثريا في نفس السيارة.
قتلوا ابنه حمزة بعد أن كانوا قتلوا قبل أسابيع زوجته وابنه الأصغر وابنته ذات الست أعوام وحفيده الرضيع في قصف للبيت الذي لجأوا إليه. حادث لم تمض عليه سوى بضعة أسابيع حتى استهدفت طائرة مسيّرة إسرائيلية الدحدوح نفسه ورفيقه المصوّر سامر أبو دقة مما أدى إلى إصابة الأول في يده واستشهاد الثاني.
ليس لدى هؤلاء النواب ما يردون به على كلمات الطيبي الغاضبة من على منبر برلمانهم وهو يقول لهم إن ما جرى استهداف مباشر ومخطط له مسبقا. هذا صحيح فمن يرسل طائرة مسيّرة لاغتيال القيادي الفلسطيني صالح العاروري في شقة محدّدة، وفي طابق بعينه وفي عمارة بعينها، في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، لا يمكن له أن يزعم أن قصف السيارة وإحراق من كان فيها هو مجرد حادث، ولهذا لجأ إلى اختلاق الأكاذيب كعادته.
وإذا كان الطيبي تساءل «لماذا تستهدفون الدحدوح؟!» فإن تقريرا في «الجزيرة» بث فور هذه الجريمة بدأه صاحبه مجدي عبد الهادي بالتساؤل «ما الذي تريده إسرائيل من الدحدوح؟!» وكأنه يريد أن يقول «ما الذي يريده نتنياهو من الدحدوح؟!» والجواب عن كلا التساؤلين واحد: إنهم يريدون قتل الأسطورة وتدمير الأيقونة التي أصبح الدحدوح يمثلها في نظر العالم كلّه وتختزل مأساة شعب بأكمله.
وجّهوا له في البداية إنذارا دمويا قاسيا باغتيال عدد من أفراد عائلته فأفرغ الله عليه صبرا كبيرا وهو يتلقف رسالة «ينتقمون منا بالأولاد». قال «معليش!!» الشهيرة، التي جابت العالم كله، والألم يعتصره ثم صلى على زوجته وفلذات أكباده وعاد إلى موقعه في تغطية ما يجري في
غزة. ماذا عساهم يفعلون الآن؟ حاولوا قتله هو نفسه فلم يصب سوى في يده، فيما تُرك صاحبه المصوّر ينزف حتى الموت مانعين طواقم الإسعاف من الوصول إليه. عاد الرجل إلى التغطية المستمرة ويده مضمدة تنتظر شفاءها المعقّد والطويل. ما العمل الآن؟ دعنا نوجعه من جديد فنغتال ابنه البكر حمزة الذي قال عنه وائل إنه «كان كُلّي وليس بضعة مني، كان نفسي وروحي».
عاد وائل من جديد، كطائر الفينيق، وفي فيديو له بدأه بتنهيدة عميقة اعتبر التعاطف الواسع معه «وسام شرف يساعده ويقوّيه على مواصلة هذا الطريق». ومع أن «الألم كبير جدا والوجع أكبر والثمن باهظ جدا جدا جدا» لكن ذلك «لن يثنينا عن مواصلة الطريق (..) لن نتردد ولو للحظة واحدة، ولن نتوقف للحظة واحدة طالما أننا على قيد الحياة، وطالما أننا قادرون على أداء هذا الواجب (..) فهي رسالة إنسانية نبيلة مقدّسة كفلتها كل المواثيق والقوانين الدولية والإنسانية» واصفا من فقدهم من أهله بأنهم «ضحّوا بالكثير وبأعز ما يملكون حتى أستمر أنا على هذا الطريق، وبالتالي كان لزاما عليّ أن أكون وفيّا بالحد الأدنى.. وأستمر».
لم يشهد التاريخ الصحافي بطوله وعرضه، شرقه وغربه، حالة كهذه من الجلد والتضحية، لن يبزّها سوى التضحية بالنفس التي تبدو مع ذلك أهون مما يحدث مع وائل، فمن يفقد حياته يذهب عند رب كريم عادل مقتدر فلا يكون في وضع يئن فيه بحمل جبال من آلام الفقد والقهر.. حتى أن أحد الوزراء التونسيين السابقين وصل إلى حد اقتراح أن يتم تغيير اسم جبل الشعانبي، أعلى نقطة في البلاد، ليصبح جبل وائل الدحدوح.
كذلك لم يشهد هذا التاريخ أن جاء ذكر اسم صحافي بعينه، والتعاطف مع معاناته، على لسان رؤساء ووزراء وسفراء في كل أرجاء العالم كما حدث مع وائل الدحدوح، ولو أن بعض ما جاء على لسان مسؤولين أمريكيين بالتحديد ينطبق عليه المثل القائل «يقتلون الإنسان ويمشون في جنازته» ذلك أن هذه الوحشية الإسرائيلية، وهذا الإسراف في القتل بلا حدود، ما كان له أن يستمر بمثل هذه العجرفة المستفزة دون السلاح الأمريكي والغطاء السياسي الذي توفّره مع أغلب الدول الغربية التي لم يعد من حقها بعد اليوم أن تفتح فمها لتتحدث عن حقوق الإنسان والقانون الدولي، ناهيك أن تقدم دروسا في ذلك لأي دولة في هذا العالم، بعد كل هذا النفاق الذي رأيناه منها جميعا.
هل يمكن لكل هذه التصريحات أن تشكّل على الأقل نوعا من الحماية لوائل شخصيا من الآن فصاعدا؟ نتمنى ذلك، ولو أن إسرائيل لا يؤمن جانبها على الإطلاق ولا عهود لها، فيما يظل المؤلم حقا هو غياب التضامن الدولي بين الصحافيين مع أن من ذهب من زملائهم في غزة عدد غير مسبوق في أي نزاع آخر، وتلك خيبة مريرة أخرى من بين خيبات غزة الكثيرة.
(القدس العربي)