ثمة حاجة اليوم إلى وضع الحراك الاحتجاجي
التعليمي المغربي في منصة
التشريح البحثي، وذلك لثلاث أسباب رئيسة، أولها، أنه امتد لحوالي ثلاثة أشهر دون
أن يجد حله، وبدأت الأسر تستشعر شبح سنة بيضاء على الأبواب. وثانيها، أن هيئات
احتجاجية غير مؤسسية هي التي هيمنت بشكل كامل على المؤسسات التعليمية، وأضحت
النقابات عاجزة تماما عن القيام بدور الوساطة رغم وضعها المؤسسي كنقابات أكثر
تمثيلية، والثالث، أن الحكومة، ورغم عدد
من الاتفاقات المتتالية لم تنجح في أن تخاطب فئة الأساتذة، مع ما بينهم من فرز
فئوي ومصلحي ظاهر.
البعض استهوته في هذه الظاهرة، ظاهرة تفكك الوساطة التقليدية بين
الدولة والمجتمع، فالنقابات مثلها في ذلك مثل الأحزاب، أضحت غير قادرة تماما على
تمثيل المجتمع، وأضحت الدولة نفسها غير واثقة من قدرة النقابات على القيام بشيء،
بل هذه النقابات نفسها، وحتى لا تفقد مشروعيتها أضحت تنتظر قرار التنسيقيات
التعليمية، حتى تحذو حذوها، وتبقى قريبا من جزء من جمهورها.
لكن في التقدير، ظاهرة تفكك
الوساطة التقليدية ليست إلا وجها جديدا من المعادلة، ففي نهاية المطاف، فإن
الاستعاضة عن النقابة يتطلب ضرورة وجود هيئة بديلة يتم الثقة فيها، والالتفاف حول
أطروحتها ومواقفها وملفها المطلبي، وإذ ذاك، فنحن بإزاء نوع جديد من الوساطة التي
تفرض الحكومة التفاعل معها، بحكم أن إدارة الحوار حسب منطق أي حكومة يتم في إطار
مؤسساتي، وأن التنازل عن هذا الشرط سيولد سلسلة من المشكلات التي لا يمكن أن
تنتهي، فاليوم يتم الحوار مع تنسيقية، وفي الغد يمكن أن تنشأ تنسيقية أخرى تنقض
الأولى، وهكذا، سيصير من المتعذر الثقة في التمثيلية وسيصير أيضا من الممتنع الوثوق بإمكان التوصل إلى حل نهائي
للمشكلة.
ولذلك، فالمهم في تقديري ليس توصيف الظاهرة الجديدة، ولا مقارنتها
بالأدوار التي كانت تقوم بها الوساطة التقليدية، وإنما الأهم من ذلك كله، هو تفسير
حيثيات تشكلها، وطبيعتها السوسيولوجية، وتحليل أسباب قوتها، وأيضا التركيز على بعض
نقاط ضعفها مع استشراف مآلاتها.
التنسيقيات التعليمية كحركات احتجاجية
ثمة تفسيرات كثيرة تحاول مقاربة حيثيات تشكل هذه الحركات الاحتجاجية،
نذكر منها ما يلي:
1 ـ التفسير السوسيولوجي الفئوي: ويرى هذا التفسير أن نشأة هذه
التنسيقيات ارتبطت بمطالب فئوية، كان في الغالب ما يتم التغطية عليها ضمن
الاهتمامات الشاملة للعمل النقابي، فالمركزية النقابية كانت في العادة تدخل بملف
مطلبي عام، يحاول ما أمكن دمج مطالب كل الفئات المنضوية، لكنها في إدارة الحوار،
كانت دائما تخرج باتفاقات، تؤمن مصالح بعض الفئات دون أخرى، مما دفع الفئات الأكثر
تضررا إلى أن تتجمع في شكل تنسيقيات، بقصد الضغط على النقابات من أجل أن تحمل
مطالبها على محمل الجد، وكانت النقابات لاعتبارات انتخابية، تضطر لإعطاء قدر أكبر
من الاهتمام لمطالب هذه الفئات. وضمن التفسير نفسه، ثمة رؤية أخرى، ترى أن الرهان
على سياسة الدولة في ضرب المركزيات النقابية، كانت تعتمد أساسا المقاربة الفئوية،
وأنه لما بدأت بعض الفئات الضاغطة تحقق مطلبها بالحوار المباشر أو غير المباشر مع
السلطة، تناسلت هذه الحركات الاحتجاجية المسماة بالتنسيقيات التعليمية.
2 ـ التفسير السياسي: ويرى أن بعض التنظيمات الراديكالية غير الممثلة
في المركزيات النقابية، اتجهت إلى تأسيس هذه التنسيقيات، لتكون في الظاهر صدى
ديمقراطيا للقواعد، وفي الباطن، صدى لقرار هذه التنظيمات، التي تمارس الضغط
السياسي بالحراك الاحتجاجي الذي تقوم به هذه التنسيقيات.
إن الاستعاضة عن النقابة يتطلب ضرورة وجود هيئة بديلة يتم الثقة فيها، والالتفاف حول أطروحتها ومواقفها وملفها المطلبي، وإذ ذاك، فنحن بإزاء نوع جديد من الوساطة التي تفرض الحكومة التفاعل معها
3 ـ التفسير الوظيفي: ويرى هذا التفسير أن النقابة لما فشلت في
القيام بدور الوساطة، وأنتجت عددا هائلا من الاتفاقات التي لم يتم الالتزام بها،
وأضحت في محطات أخرى تتواطأ مع السلطة لأغراض شخصية أو انتخابية ضدا على مصالح
الشغيلة، بدأ التفكير في إطارات بديلة، تقوم بنفس الدور الوظيفي (الاحتجاج
والتفاوض والوساطة)، سواء من خلال التحول إلى محاور للسلطة أو من خلال لعب دور
جماعة الضغط التي توجه أداء الفاعلين الاجتماعيين المحاورين للسلطة.
4 ـ التفسير العملي: ويرى أن الطبيعة البيروقراطية للنقابات، وجدل
السياسي والنقابي، وما يفرضه من إعاقة السياسي(الحزبي) لسقوف المطالب والبرامج النضالية وإدارة التفاوض دفع
في اتجاه تشكيل هيئات تجمعها مصالح فئوية، ولا تخضع لأي تنظيم سياسي أو
نقابي، بحيث تسمح لها هذه الطبيعة، بمساحة
اكبر للمناورة سواء على مستوى رفع سقف التطلعات، أو تسطير البرامج النضالية أو
تحمل كلفتها أو تصعيد الموقف للضغط على السلطة في عملية التفاوض، فالأحزاب
والنقابات المنضوية تحتها ـ حسب تجربتها النضالية على مدى أكثر من نصف قرن- لم تكن
تستطيع رفع وتيرة النضال لأكثر من ثلاثة أيام في الأسبوع، وبشكل جد متفرق خلال
السنة، بخلاف التنسيقيات، فبفعل استقلاليتها وطابعها العملي، أضحت قادرة على خوض
إضرابات متواصلة لمدة شهور، دون أن يكلفها ذلك أي كلفة سياسية اتجاه السلطة.
في الواقع يصعب أن نحصر المحددات التفسيرية، كما يصعب أن نعطي
الفاعلية لأحدها على حسب الآخر، فكل هذه الاعتبارات متداخلة، بحيث تجتمع في إطار
مركب دينامي، يعطي لهذه الحركات الاحتجاجية خصوصيتها ويبرر إخضاعها لمزيد من
الدراسة.
في الطبيعة السوسيولوجية للتنسيقيات التعليمية
تتسم التركيبة السوسيولوجية لهذه الحركات الاحتجاجية الجديدة بكثير
من التباين، فهي إلى جانب طابعها الفئوي (أساتذة التعليم الابتدائي، وأساتذة
التعليم الإعدادي الثانوي، وأساتذة التعليم الثانوي التأهيلي، والمتصرفين
الإداريين والماليين والممونين، ومختلف التنسيقيات التي تمثل الأصناف الأخرى مثل
الإداريين والمديرين والممونين وغيرهم)، فإن كل فئة من هؤلاء تخترقها تقاسيم أخرى،
فهناك من جهة الاختلاف في الوضع الوظيفي (الأساتذة المنضوون تحت قانون الوظيفة
العمومية، وأطر الأكاديميات الذين تم توظيفهم عبر نظام التعاقد الجهوي)، وهناك الأساتذة الدكاترة، والأساتذة أصحاب الشواهد الذين ينتظم كل واحد من هؤلاء ملف خاص في الحوار مع
السلطة الوصية، وضمن كل إطار ثمة عدد من الفئات التي يتمايز بعضها عن بعض لاعتبارات مطلبية خاصة،
كما أن مطالب هيئات التدريس ليست بالضرورة متناغمة مع مطالب هيئات المتصرفين
الإداريين أو الماليين، فضلا عن هيئات المراقبة والتفتيش.
هذه التركيبة السوسيولوجية الفئوية البالغة التعقيد، تعزز من جهة
الطبيعة المصلحية لهذه الحركة، وتبرر نزوعها البراغماتي، وتطلع كل فئة على حاجة
إلى تحقيق أكبر قدر من المطالب، وهو ما يفسر في كثير من الأحيان التباين حتى في
خوض المعارك النضالية بين هذه الفئات، ويفسر إلى درجة كبيرة زخمها وذلك حين يكون
المطلب الموحد لفئاتها دافعا نحو خوض نضالات قوية تحقق منسوب مشاركة يتعدى 95 في
المائة.
ينبغي أن نسجل أيضا أن البناء التنظيمي لهذه التنسيقيات، يتسم بطابع
الهرمية المرنة، فهي تنطلق من تنظيم قاعدي، يعتمد بالأساس النواة الصغرى (المؤسسة)
كمنطلق لبناء الحركية النضالية، حيث يختار الأساتذة من يمثلهم، ويعقدون معه لقاءات
دورية لنقل رؤية كل مؤسسة على حدة إلى هيئة التنسيق الإقليمي، وهكذا يحضر ممثل
هيئة التنسيق الإقليمي في المجلس الوطني، ليتم صياغة الخطوط العامة للحركة
النضالية القادمة، وتعتمدها الهيئة المركزية.
تتميز الهيئة القاعدية التي تتخذ المؤسسة نواه للانطلاق بكونها
مفتوحة على كل الأساتذة، ودائمة الانعقاد،
صباحا ومساء داخل المؤسسة، وليلا عبر مجموعات في وسائل التواصل الاجتماعي، وبين
هذه المجموعات تشبيك واسع داخل الإقليم، بحيث يتم تناقل كل الأخبار والوثائق
والبيانات التي تخص هيئات التنسيق داخل هذه المجموعة، بحيث تشكل هذه المضامين
المكتوبة والصوتية والمرئية عناصر التعبئة الفعالة التي تضمن قدرا كبيرا من تأمين
الاستمرارية النضالي، ويتم تبني مقاربة
"الوصم" في حق غير المضربين، بنحو واسع داخل هذه المجموعات، إذ يوصفون
بأوصاف قدحية، تدفع الكثير منهم إما إلى الالتحاق بالنضال، أو العزلة الكاملة،
كما يكون من بين وظائف هذه المجموعات
التواصلية خلق مسافة كافية مع الإدارة بمختلف مكوناتها، حتى يتم تأمين الحركية
النضالية، وتعرف هذه المجموعات التواصلية مستويات عالية من الحذر مما يسمى بالذباب
الإلكتروني.
عمليا، توجد 23 تنسيقية، أقواها تنسيقية التعليم الثانوي التأهيلي،
وذلك بسبب أنها الأكثر تضررا من مرسوم النظام الأساسي، والثاني، لكونها تملك ورقة
الامتحانات الإشهادية (امتحانات الباكلوريا)
ثمة تساؤل مطروح عن حضور السياسي داخل هذه التنسيقيات، خاصة وأن
الجامعة الوطنية للتعليم (الجناح الديمقراطي) التي يهيمن عليها النهج الديمقراطي
القاعدي (تياري يساري راديكالي)، تعتبر الأكثر قربا من هذه التنسيقيات. والحال، أن
هناك فرقا كبيرا بين التحكم في هذه التنسيقيات، وبين تبني مرونة مطلبية ونضالية،
تجعل النقابة أكثر قربا من هذه التنسيقيات.
في الواقع، ثمة علاقة ما بين هذه النقابة وبين هذه التنسيقيات، لكنها
علاقة بقدر كبير من الاستقلالية، ومحكومة بمنطق رابح / رابح، فمن جهة، استعملت هذه
النقابة مفهوم المطلب المطلبي المفتوح، الذي ينفتح لتبني مطالب كل التنسيقيات
كيفما كان سقفها المطلبي والسياسي. ومن جهة ثانية، تعتبر التنسيقيات أن عدم توفرها
على صفة تمثيلية، يدفعها للاقتراب البراغماتي من النقابات التي تتبنى ملفها
المطلبي.
ولذلك، ثمة تصور خاطئ يرى أن النهج الديمقراطي القاعدي من خلال نقابة
الجامعة الوطنية للتعليم الجناح الديمقراطي هو من يحرك الزخم الموجود في الساحة
التعليمية، فالتنسيقيات ـ لاسيما منها تنسيقية التعليم الثانوي التأهيلي ـ تتمتع بقدر
كبير من الاستقلالية، وتدير معاركها من خلال هيئاتها الهرمية، ولا ترى بأسا من
الاقتراب من أي نقابة تكون صدى لمطالبها.
في تحليل أسباب قوتها
عمليا يمكن أن نقف عند سبع نقاط قوة تميز هذه الحركات الاحتجاجية
الجديدة:
1 ـ أولها، أنها حركات حديثة لا تحمل أي رصيد نضالي سلبي، على غرار
المركزيات النقابية التي أدارت في السنوات ألخيرة الحوار مع السلطة وأبرمت معها
اتفاقات تم التنازل فيها على عدد من المطالب الأساسية لرجال التعليم كما لم تخض أي
ضغط اجتماعي لإلزام الحكومة حتى بتنزيل ما تم الاتفاق عليه في محاضر رسمية موقعة.
2 ـ ثانيها، أنها حركة نقدية، قامت أساسات على أنقاض الشرعية
المنقوصة أو المعدومة للمركزيات النقابية، حيث تجعل من مادتها التعبوية اتهام
المركزيات النقابية بالتواطؤ مع السلطة، والتفريط في مطالب رجال التعليم مقابل
منافع شخصية او تحقيق مآرب انتخابية.
3 ـ ثالثها، أنها تنسيقيات مستقلة، عن النقابات والأحزاب، وهو ما
يجعلها متحررة في سقفها المطلبي، وفي برنامجها النضالي، وأيضا في شكل إدارتها
للتفاوض المباشر أو عبر لوبي الضغط التي تمثله.
ثمة تساؤل مطروح عن حضور السياسي داخل هذه التنسيقيات، خاصة وأن الجامعة الوطنية للتعليم (الجناح الديمقراطي) التي يهيمن عليها النهج الديمقراطي القاعدي (تياري يساري راديكالي)، تعتبر الأكثر قربا من هذه التنسيقيات. والحال، أن هناك فرقا كبيرا بين التحكم في هذه التنسيقيات، وبين تبني مرونة مطلبية ونضالية، تجعل النقابة أكثر قربا من هذه التنسيقيات.
4 ـ رابعها، أنها تنسيقيات مرنة، تفتح أبوابها للجميع، بما في ذلك
المتحزبين والنقابيين المنضوين تحت نقابات أخرى، ولا تشترط أي شيء سوى الانضباط
للقرار الجماعي، وهو الطابع الذي وسع من دائرة استقطابها على حساب النقابات
القائمة.
5 ـ خامسها، أنها تتمتع ببناء هرمي ديمقراطي عفوي: إذ تبني هياكلها
بالانتخاب بدءا من النواة المؤسسية الصغرى (المؤسسة التعليمية) ثم يحصل الانتخاب
على مستوى إقليمي، ثم وطني، ويدار النقاشات عبر خلية المؤسسة، ويقوم المنسقون بنقل
آراء القاعدة إلى الهيئة الأعلى، ويتم اتخاذ القراب هذه الشاكلة.
6 ـ سادسها، أنها تتمتع بقدرات تواصلية وتعبوية هائلة بفضل مزاوجتها
بين استثمار الفضاء المؤسسي (قاعة الأساتذة في فترة الوقفات الاحتجاجية الصباحية
والمسائية)، واستثمار منصبات التواصل الاجتماعي، وبناء مجموعات تواصلية دينامية
تقوم بتعميم الأخبار والبيانات ومختلف المواد التعبوية.
7 ـ سابعها، يخص وظيفتها، فهي ليست تنظيما نقابيا، وفي الوقت ذاته،
لا تلح على مطلب التمثيلية في الحوار، بقدر ما تراهن على قوة ضغطها، وقدرتها على
قلب الطاولة في أي وقت.
في أخطائها أو نقاط ضعفها
هذه النقاط المحسوبة على عناصر قوتها، لا تعني أنها استكملت شروط
النضج، وأضحت عصية على الاختراق أو الإضعاف، فقد اتضح من تتبع مسارها أنها وقعت في
أخطاء كبيرة، لا شك أنها ستؤثر في مسارها ومستقبلها، نذكر من ذلك:
1 ـ عدم الوضوح الاستراتيجي والتكتيكي: فهذه التنسيقيات رفع ملفا
مطلبيا مرتفع السقف، ولم تبين ممارستها التكتيكية وجود أي تصور للفرز بين مستويات
هذا الملف، وما كان منها يشكل نقاطا حمرا، وما كان منها يشكل قاعدة التفاوض بحيث
يتم الإصرار على تحقيق القدر الأكبر منها، وما كان منها في لائحة الممكن التنازل
عنه. فالممارسة أظهرت، أن لائحة المطالب كما تم إعلانها في أول شهر أكتوبر، استمرت
بنفس الطريقة، بل حتى في محطة إشراك تنسيقية التعليم الثانوي، جاء ممثلو هذه
التنسيقية ووضعوا هذا المطالب كما ولو كانت كلها غير قابلة للنقاش. ما يؤكد هذا
الخطأ، أن التنسيقيات لم تتفاعل بأي شكل من التفاعل الإيجابي أو النقدي مع
المخرجات التي كانت تصدر كل مرة من رحم الحوار الحكومي مع النقابات، فظلت
التنسيقيات ترفض هذه المخرجات، بحيث ساد قدر كبير من الغموض من موقفها، وما إذا
كان هدفها هو المشاركة في الحوار، أم أن فئة ما داخل قيادة هذه التنسيقيات، ترى أن
الهدف الرئيس (إدماج أطر الأكاديميات في الوظيفة العمومية) لم يتحقق، وبالتالي،
صارت كل المطالب التي تحقق بعضها، غير ذات قيمة.
2 ـ ضعف التواصل الجماهيري: ففي الوقت الذي حققت فيه التنسيقيات
نجاحا على مستوى التواصل الداخلي على الأقل من زاوية الأداة والوسيلة، فقد فشلت
فشلا تاما في إدارة حوار إعلامي تواصلي مع النخب ومع الأسر المعنية بتعليم
أبنائها، ففي مختلف التعبيرات الإعلامية، تصر قيادات هذه التنسيقيات على ألا شيء
تحقق، وأن النقابات تبيع وتشتري بمصالح الشغيلة التعليمية، في الوقت الذي أضحت الأسر لا تفهم على وجه
الخصوص ماذا تريد هذه التنسيقيات خاصة بعد أن تم تحسين دخل الأساتذة باتفاق 10
دجنبر، وتم الإعلان عن عدم المساس بساعات
العمل ومهام الأستاذ وإلغاء العقوبات،
فضلا عن وضعه الوظيفي السابق.
3 ـ عدم الوعي بوظائف الحركة الاحتجاجية، وهل هي حركة تروم التمثيلية
والحوار مع السلطة الوصية؟ أم هي مجرد جماعة ضغط يهمها النتائج أكثر مما يهمها من
يحاور السلطة الوصية، وقد نتج عن ذلك، أن تبلور خطاب متناقض داخل التنسيقيات،
يتحدث بعضه عن ضرورة أن يتم التحاور مع القوة الفعلية في الميدان، ويتحدث بعضه
الآخر على أن التنسيقيات لا تراهن على أن تكون محاور السلطة في هذه المطالب، بقدر
ما تراهن على أن تتحقق مطالبها ولو جاء ذلك عبر النقابات.
4 ـ عدم الوعي بحدود الخطاب الشعبوي: فإذا كان الخطاب الشعبوي مؤثرا
في لحظة التعبئة في المحطات ألأولى للنضال حين يكون المطلوب استقطاب أوسع قدر من
المشاركين في الحركة الاحتجاجية، فإن المراحل اللاحقة، التي تتكثف فيها الدينامية
التفاوضية، وتعرف صدور مخرجات كثيرة، تتطلب التخفيف من هذا الخطاب إلى ابعد حدود، والاتجاه إلى تفعيل المقاربة
التفاعلية المبنية على الحجة العقلانية، وذلك لاعتبارين اثنين، أن الفاعل الأساسي
في الحراك الاحتجاجي هم فئة الأساتذة، الذين يصعب تأمين استمراراهم في الحركية
النضالية دون تبرير موضوعي عقلاني، فضلا عن أن الاستمرار في النضال له كلفة مالية (الاقتطاع من الأجر)، والثاني لأن الأسر
المعنية بتعليم أبنائها متذمرة من هذا الإضراب، ولا يمكن للخطاب الشعبوي في مراحل
متقدمة من النضال أن يحظى بمقبولية عند هذه الفئات.
5 ـ هيمنة الطابع الطوباوي على النضال، فهذه الحركة، كما تظهر
ممارستها وتعبيراتها الخطابية والتواصلية، لم تع بشكل جيد تركيبتها السوسيولوجية،
أنها تمثل مركبا من الفئات التي تتطلع إلى تحقيق مصالحها، وبدل أن تراهن في سلوكها
على الطابع العقلاني والموضوعي للنضال، بدأت تبحث عن تجذير نضالها من خلال الإحالة
على تجارب الشعوب الأخرى في النضال بما في ذلك تجربة حماس في نضالها للتحرر من
الاحتلال الصهيوني.
6 ـ ضعف الخبرة في إدارة المعارك النضالية: ففي الوقت الذي كانت
تستجمع كل القوى لممارسة الضغط وتحويله
إلى تكتيكات تفاوضية تحصل المكتسبات، وتحقق أعلى قدر من بعض المطالب، وتسد الباب
عبر التواصل الفعال والموضوعي على جملة من المناورات التي تروم تشتيتها، بقيت على
طبيعتها المحافظة، متشبثة بنفس المطالب، في الوقت الذي أضحت فيه المخرجات
المتسارعة مع النقابات تمثل تحديا وإغراء للفئة التي تخشى أن ينتهي مسار النضال من غير تحقيق شيء
يذكر ما دامت التنسيقيات تصعد إلى الجبل، ولا تتفاعل مع أي تقدم حصل ولو كان
إيجابيا.
7 ـ عدم الوعي بخبرة الدولة في الحوار وتفكيك الهيئات الاحتجاجية:
ويظهر ذلك واضحا من خلال تبني الخطاب نفسه، وعدم الوعي بالتحولات والمنعطفات التي
عرفها الملف، وكيف اضطرت الدولة في محطات متعددة إلى تغيير المنهجية وتغيير
الفاعلين وتغيير مضامين العرض الحكومي، ففي الوقت الذي حصل قدر من هذا الوعي في
المراحل الأولى من إدارة ملف الاحتجاج، بدأ هذا الوعي يغيب تماما في المراحل
الأخيرة، ويبدو أن الطابع الطوباوي الحالم، والاغترار باستمرار النسب المرتفعة
للإضراب، ساهم في تكريس هذا الاختلال الذي من المؤكد أن تداعياته ستكون مؤثرة
على هذه الحركات الاحتجاجية الجديدة.
في استشراف مستقبل هذه الحركات الاحتجاجية
في الواقع ثمة ثلاث سيناريوهات محتملة لمستقبل هذه الحركات
الاحتجاجية، أولها، أن يقع التعثر مرة أخرى في إخراج مرسوم للنظام الأساسي يلبي
الحاجيات الأساسية للشغيلة التعليمة، وفي هذه الحالة، سيزداد زخم هذه التنسيقية،
ويمكن أن ترفع من سقف تطلعها. والثاني، أن يصدر مرسوم يحظى بقبول رجال التعليم،
وتصر التنسيقيات على الاستمرار في الإضرابات، وفي هذه الحال، يمكن أن تتعزز
الخلافات الفئوية داخل التنسيقيات بما يضعف قدرة القيادة على تأمين نسب نجاح
مرتفعة للإضرابات ويفقدها جزءا أساسيا من المشروعية. والثالثة، أن تتجه التنسيقية
وبشكل عاجل إلى تعديل خطتها النضالية، بما يجعل ما تحقق مجرد خطوة أولى، وترفع
الأشكال النضالية بشكل مؤقت على أساس استعادتها في كل لحظة خاص، وأنها تملك سلاحا
فعالا يتعلق بالامتحانات الإشهادية (الباكلوريا)، إذ يمكن أن تستخدمه في مرحلة
لاحقة لتحقيق حزمة أخرى من المطالب.