أكد المؤرخ الإسرائيلي البروفيسور
إيلان بابيه أن إسرائيل ليست مجرد دولة.. إسرائيل مشروع استعماري استيطاني. وقال
مؤخرا في تصريح لقناة "الجزيرة بالإنجليزية "أعتقد أننا نشهد بداية
النهاية لهذا المشروع".
واعتبر بابيه أن هذا المشروع يقوم على
ثلاث ركائز، أحدها مادي، كما قال، وأنه "عندما نستخدم مؤشرًا ينظر إلى
استدامة الدولة وفقًا للقدرة المادية، فإن إسرائيل تعمل بشكل جيد، ولكن ذلك يتم
بشكل رئيسي بفضل الولايات المتحدة، ولذلك هذا هو الشرط الذي يمكن أن يتغير".
أما الركيزة الثانية وفق بابيه
"فهي التماسك الاجتماعي للمجتمع الاستيطاني". وشدد على أن "هذا
التماسك لم يعد موجودا، وأن هناك نوع من الوهم البصري بسبب هجوم حماس في 7 من
أكتوبر الماضي، الذي خلف شعورا بالوحدة. لكن ذلك لن يغطي على تشرذم المجتمع الذي
رأيناه حتى حلول شهر أكتوبر 2023. وأنه يبدو أن هذا التماسك الاجتماعي، المبني على
كراهية العرب أو
الفلسطينيين، وليس عوامل أخرى مشتركة، ليس مستداما تماما".
أما "الركيزة الثالثة والأهم من
أي شيء آخر بالطبع"ـ وفق المؤرخ ـ فهي الشرعية. ويلفت إلى أن إسرائيل تتمتع
"بشرعية الحكومات الغربية أو حكومات الشمال العالمي. وبالتالي، هناك شعور
بأنه لا يزال من الممكن أن يكون المشروع "مستدامًا بسبب هذا الدعم من النخب
(الحاكمة). لكن بابيه يشدد على أن إسرائيل "فقدت دعم المجتمعات المدنية.
ولهذا السبب ربما تكون الدولة الوحيدة في العالم التي تضغط من أجل وجودها، ليس من
أجل سياساتها، وليس من أجل أدائها الاقتصادي الأفضل، ولكن من أجل مبررها الأخلاقي،
وهي تخسر تلك المعركة".
وأكد البروفيسور بابيه أن ذلك بالنسبة
له مجرد تحذير، وصرح أنه "عندما تصل مشاريع مثل
الاستعمار الاستيطاني إلى مرحلتها الأخيرة، فلسوء الحظ، يمكن أن يأخذ الأمر فترة
طويلة جدًا، وأن ذلك لا يحدث في يوم واحد أو يومين. والمشكلة بالطبع هي أنها تصبح
أكثر وحشية وقسوة".
كلام بابيه له ما له من دلالة، سواء
كمؤرخ عارف ومطلع أو على المستوى الشخصي كإسرائيلي، من عائلة يهودية فرت إلى
فلسطين من الاضطهاد النازي في ألمانيا في ثلاثينات القرن الماضي، وحارب حتى في
الجيش الإسرائيلي في حرب 1973، قبل أن يكتشف حقيقة المشروع الصهيوني، خلال دراسته
للتاريخ بجامعة أوكسفورد البريطانية، حيث حصل على الدكتوراه، ويتحول إلى أشد
المنتقدين للاحتلال الإسرائيلي، ويؤلف عددا من الكتب الهامة، من أبرزها
"التطهير العرقي لفلسطين"، و" بيروقراطية الشر: تاريخ
الاحتلال
الإسرائيلي"، و "فكرة إسرائيل: تاريخ السلطة والمعرفة"، و"غزة
في أزمة: تأملات في الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين" (في 2010)، بالاشتراك
مع نعوم تشومسكي.
أكد البروفيسور بابيه على المسعى الإسرائيلي لـ "محاولة فرض نسيان 15 عامًا من الحصار اللاإنساني على غزة، و56 عامًا من الاحتلال الوحشي والتطهير العرقي في غزة والضفة الغربية، و75 عاماً من عدم السماح للاجئين بالعودة إلى ديارهم".
وبرغم ما تعرض له بابيه من تهجم وشيطنة
وحتى تهديدات بالقتل في إسرائيل، واضطراره لترك جامعة حيفا (ولد فيها عام 1954)،
والانتقال للعمل في جامعة إيكستر البريطانية، استمر بابيه بقناعة والتزام لافت في
عمله الأكاديمي الموثق، وحضوره الإعلامي الفاضح لإسرائيل والصهيونية. وقد اشتهر
بابيه بمقولته المعبرة أن " أغلب الصهاينة لا يؤمنون بوجود الله لكنهم يؤمنون
أنه وعدهم أرض فلسطين"! كما أكد مرارا على ضرورة التفريق بين الصهيونية
كأيديولوجية واليهودية كدين، وأن هناك "يهودا معادون للصهيونية، بينما هناك
صهاينة غير يهود، مثل الصهاينة المسيحيين، وحتى هناك صهاينة عرب" (وهو أكثر
من محق في ذلك).
وقد زاد التهجم على البروفيسور بابيه
بعد هجمات "حماس" في 7 أكتوبر الماضي ضد إسرائيل، واعتباره "حماس
حركة نضالية تحريرية، وليست حركة إرهابية".
وفي حوار له مع قناة "الديمقراطية
الآن" الأمريكية، وردا على الاستغلال الإسرائيلي لهجمات 7 أكتوبر وخطاب
نتنياهو بالتبرير التوراتي، لحرب الإبادة الصهيونية في غزة، أكد البروفيسور بابيه
على المسعى الإسرائيلي لـ "محاولة فرض نسيان 15 عامًا من الحصار اللاإنساني
على غزة، و56 عامًا من الاحتلال الوحشي والتطهير العرقي في غزة والضفة الغربية،
و75 عاماً من عدم السماح للاجئين بالعودة إلى ديارهم".
وتحدث بابيه عن "محاولة إسرائيل
لإضفاء الطابع النازي على الفلسطينيين، وأنه أمر ليس جديداً بالمناسبة. ويستخدمه
الإسرائيليون بين الحين والآخر. فقد قارن مناحيم بيغن ياسر عرفات في مخبئه عام
1982 بهتلر في مخبئه. وأن المقصود من إضفاء الطابع النازي على الفلسطينيين، أولاً
وقبل كل شيء، هو شرعنة السياسات الإسرائيلية دون أي اعتبار للقانون الدولي أو حقوق
الإنسان، وصرف انتباهنا عن الحديث عن القضية الحقيقية هنا، وهي ليست حماس أو
أفعالها على الأرض. فليس السابع من أكتوبر، بل هو الوضع الذي ولَّد هذا النوع من
العنف. وبدلا من الحديث عن أعراض العنف، ينبغي أن نتحدث عن مصدر العنف. ولم يتغير
مصدر العنف. فلدينا الملايين من الفلسطينيين يتعرضون للقمع والحكم والسيطرة على يد
إسرائيل منذ سنوات، وهم يقاتلون بالوسائل المتوفرة لديهم. وسوف يستمر هذا الأمر،
ما لم يكن هناك بالطبع استعداد للعودة إلى طاولة المفاوضات والتساؤل عن سبب اندلاع
العنف في المقام الأول وما هي أفضل السبل لمنع دورة أخرى من العنف في المستقبل".
وقال البروفيسور بابيه إنه عندما
يستخدم الصهاينة الإسرائيليون "المحرقة، فإنهم يسيئون إلى ذكرى المحرقة، لأنه
مع كل الرعب الذي حدث في السابع من أكتوبر، فهذه ليست محرقة. وليس هناك مقارنة بين
الفلسطينيين، الذين يردون بعد سنوات من القمع والحصار، والنازيين، الذين يستهدفون
اليهود فقط لأنهم يهود. وليس هناك مقارنة. هذه اللغة بأكملها ليست هي اللغة التي
يجب استخدامها".
وفي هذا السياق ولدى سؤاله كيف له، هو
الذي ولد لأبوين يهوديين ألمانيين هربا لفلسطين من الاضطهاد الألماني النازي، في
الثلاثينيات، وقاتل عام 1973 في صفوف الجيش الإسرائيلي، أن يغير مسار حياته وموقفه
ويصل لتأليف كتاب يتحدث عن التطهير العرقي الإسرائيلي في فلسطين، ورد الفعل في
المجتمع الإسرائيلي، تجاهه وتخوينه في جامعته في حيفا؟
أكد البروفيسور بابيه أن رحلته كان
فيها العديد من المحطات المهمة، مثل قضاء بعض الوقت كطالب دراسات عليا خارج
إسرائيل؛ ووجود مشرف عربي عليه (هو البروفيسور ألبرت حوراني). وأن بحثه كمؤرخ في
الأرشيف الذي أصبح متاحًا كشف له عن أدلة تناقض بشكل كبير جداً الرواية التي نشأ
عليها، وأن كل هذا قاده إلى "لحظة اعتقدت فيها أنني أفهم ما يجري في فلسطين
التاريخية، وما حدث في فلسطين التاريخية. لقد رأيت بوضوح تام، على الأقل من وجهة
نظري، من هم الضحايا، ومن هم الضحية، ومن هو المستعمِر، ومن هو المستعمَر، ومن هو
المُطهر العرقي، ومن كان ضحايا التطهير العرقي".
وأضاف: "لأن والديَّ جاءا من
ألمانيا، ولأننا فقدنا الكثير من الناس في المحرقة، وبسبب هذا الإرث تحديدًا، شعرت
أنني لا أستطيع أن أكون غير مبالٍ بمعاناة الفلسطينيين، ولم أرغب في أن أكون جزءًا
من المجتمع. الذي سبب هذه المعاناة وأعتقد أنه مع مرور السنين وزيادة كثافة البحث،
وزيادة واتساع فهمي وعلاقتي بالفلسطينيين، أصبحت اليوم أكثر ثقة مما كنت عليه في
السنوات الأولى من مسيرتي المهنية، سواء كنت ناشطاً أو مؤرخاً محترفاً، فإنني أشعر
بسلام تام مع مواقفي الأخلاقية تجاه إسرائيل والصهيونية."
وأكد أنه "في عام 2006، أدى هذا
الموقف إلى الضغط من جامعتي لترك الجامعة (في حيفا) والاستقالة. لذلك لم يكن لدي
خيار. كان عليَّ أن أستقيل، وأغادر. لقد كنت محظوظًا جدًا بالحصول على منصب في
إحدى جامعات بريطانيا (إيكستر)، حيث قمت بتأسيس مركز الدراسات الفلسطينية".
*كاتب جزائري مقيم في لندن