قبل أيام وبعد صلاة الفجر وبعد أن قمت بتوصيل ابنتي إلى الجامعة قبل شروق
الشمس والسماء تجود بخيرها وسط أجواء باردة وغائمة توحي بالتأمل والتفكير، خلوت
بنفسي وخطر لي خاطر استوقفني على طريق العودة وثار في ذهني سؤال: ما الذي تعلمناه
من
المقاومة الصامدة والتي تؤلم الكيان الصهيوني أيّما إيلام؟ ثم أوقفت السيارة
لبضع دقائق وقمت بفتح سجل الصوت في الهاتف لأسجل بعض النقاط وأنا على الطريق
الجانبي.
ولكنني قمت بتعديل السؤال لأنني شعرت بأننا لم نتعلم بعد شيئا من المقاومة
عبر عقود، وإلا فلماذا لم يتغير شيء في واقعنا المرير؟ وقلت يجدر بنا أن يكون
السؤال هو ما الذي يجب أن نتعلمه من المقاومة، فربما ذلك أدعى للتفكير العميق
والبحث الدقيق الذي قد يفضي بنا يوما ما إلى الاستفادة من هذه المقاومة التي تدك
جيش
الاحتلال وتقض مضاجع كبار قادته العسكريين والسياسيين الذين ظنوا أن الأمر
مجرد نزهة عسكرية سريعة أو خاطفة سوف تنتهي باعتقال أو قتل كبار قادة المقاومة
وتحرير الأسرى وتركيع المقاومة مرة واحدة وللأبد (خاب سهمهم وطاش سهمهم).
جلست لفترة أسجل بعض هذه
الدروس التي قدمتها المقاومة بالدم والتضحية
والفداء والجهاد والعطاء والتي يمكن أن تكون نبراسا للباحثين عن الانعتاق من نير
الاحتلال والاستعباد اللذين خيما على عالمنا العربي. سجلت ما يزيد على العشرين درسا
وأنا في السيارة وقد قاربت الشمس على الشروق.
عدت إلى البيت وقمت بكتابة ما سجلته من دروس يمكنني تعلمها كلها أو بعضها
على المستوى الشخصي، وأخرى لعل الشعوب تتعلمها، وثالثة لعل القيادات تتفهمها،
ورابعة لعل العالم يدرك معانيها، ثم قررت أن أبدأ بالجانب الشخصي لهذه الدروس، وهو
ما سوف أتناوله في هذا المقال ضمن هذه السلسلة بعون من الله تعالى:
1- التفسير السليم والصحيح لقول الله تعالى لا يكلف الله
نفسا إلا وسعها، فلطالما كان تفسيري لهذه الآية أنه ليس في الإمكان أفضل مما كان،
وأننا لا ينبغي أن نلوم أنفسنا كثيرا بل بالعكس علينا الرضا بقضاء الله متمثلين
القول الشائع "آدي الله وآدي حكمته"، لكنني وأنا أتابع يوميا وأقوم
بتقديم حلقات عبر قناتي على اليوتيوب منذ طوفان الأقصى وبفضل الله وبدون انقطاع؛
أدركت أن فهمي كان قاصرا وأن ما لدي من طاقة وقوة (بفضل الله تعالى) أكبر بكثير
مما كنت أبذله في خدمة القضايا العربية والإسلامية، أدركت والفضل لله ثم لصمود
المقاومة أن القوة الكامنة (وسعها) هي قوة مضاعفة يمكن إطلاقها إن أراد الإنسان،
ولكنه كسول فما زاده الكسل إلا تراجعا، وخامل فما زاده الخمول إلا انتكاسة جعلت المرء
يبدو عاجزا عن القيام بأقل الواجبات من صلاة النوافل والسنن من ذكر وتسبيح ومن
تلاوة للقرآن.
أدركت أن تفسيرنا (للوسع) هو تفسير قاصر وعاجز ومخل
بالدور الذي خلق الله من أجله الإنسان ليكون خليفة في الأرض، فكيف يستوي الأمران تكليف
بالخلافة وضعف وعدم القدرة على الفعل، لا بد أن تفسيرنا خاطئ وبشكل كبير.
2- عندما شاهدت المقاومين ومعظمهم لا يلبس حذاء عسكريا
لامعا كعادة العسكريين العرب أو حتى الصهاينة، ولا يمتلك زيا عسكريا مدججا بالسلاح
كما نشر الجنود الصهاينة، ولا خوذة تحمي رأسه ولا ملابس سوي تيشيرت يبدو باليا
وسروالا أكل عليه الدهر وشرب، ويهرول نحو عدوه خفيفا رشيقا مقبلا غير مدبر، لا
يتحجج بحجج واهية مثل قلة العتاد والزاد أدركت كم أفسدتنا الدنيا بمتعتها ومتاعها حتى
ولو كان حلالا.
وعدت لأشاهد الفيديوهات التي تصدرها المقاومة وحاولت
تفحص أجسام المقاومين فرأيتها قوية صلبة رغم أنها محرومة من لذة العيش ومن رفاهية
نعيشها ليل نهار، رأيت رشاقتهم وأحدهم يقفز في الهواء فرحا وقد أصاب من المسافة
صفر إحدى دبابات العدو وهو يهتف "ولعت".. لقد أعجزني هذا المشهد وأتعبني،
وسألت نفسي: ما عذرك يا هذا أمام ما يقوم به هذا المقاوم البسيط في مواجهة أعتى
الجيوش وأكثر وحشية ودموية في العالم؟
3- نظرت في الوقت الذي يضيع من شهور وأيام وساعات وقارنت
بيني وبين ذاك المقاتل الذي لا يضيع ثانية واحدة وهو يتعقب دبابات العدو وحاملات
جنوده، فينطلق كالسهم وفي غمضة عين ليصل إلى تلك الدبابة أو تلك المدرعة، وفي لمح
البصر يضع فيها المتفجرات ثم يعود ليشاهد بعيني رأسه مصير الدبابة والجنود بداخلها
وهو يهتف الله أكبر، وقلت لنفسي كم من التحديات التي واجهتنا وعدزنا عن
التعامل معها وسقطنا في اختبار الكفاءة على مدار أيام وأسابيع وشهور وربما سنين
طوال بينما هذا المقاتل يعبر ويتجاوز اختبار الموت والحياة في بضع ثوان وبثقة
وكفاءة عاليين.
4- عندما بدأ جيش الاحتلال في قصفه الجنوني الذي لم
يستثنِ فيه مستشفى ولا مدرسة ولا مصنعا ولا مجمعا تجاريا، وقتلت قنابله الأمريكية
الصنع كل متحرك من طفل رضيع أو شيخ عجوز وامرأة حامل، ثم شاهدت رؤساء الغرب ووزراء
خارجيتهم يتسابقون لإعلان التضامن مع الكيان الصهيوني والوقوف معه لدرجة أنهم
كانوا يشاركون في اجتماعات الحرب، ولدرجة إعلان ست دولة عن دعمها العسكري للكيان
فيما أسموه الدفاع عن نفسه، وهم يعلمون أن الاحتلال نفسه عمل مجرم ومحرم وأن حق الدفاع
عن النفس مسموح به لمن اغتصبت أرضه وليس لمن أغتصب الأرض، وحين شاهدت الصمت
والتواطؤ العربي المفضوح وأدركت أن الناس قد جمعوا لأهلنا الجمع وأعدوا العدة من
أجل إبادتهم، وأخذتني الرهبة وانتباتني رجفة، ثم حين استمعت إلى بيانات المتحدث
باسم المقاومة فوجدت ثباتا انفعاليا رفيع المستوى ورأيت نبرة التحدي العالية
الواثقة، فقلت في نفسي خوفا عليهم: ما لهؤلاء لا يدركون حجم المصائب والمتاعب التي
سيواجهونها؟ ثم اكتشفت أنني الذي لم أكن أدري بحجم ثقتهم ولا مدى استعدادهم
لخوض معركة الكرامة نيابة عن الأمة، وأدركت كم كنت ساذجا وأنا لا أقدر هؤلاء حق
التقدير وربما خوفي عليهم هو السبب، وتعلمت ساعتها أنه لا ينبغي التعجل في إصدار
الأحكام حتى ولو كانت المعطيات على النحو الذي شاهده العالم من تحالف قوى الشر ضد
شعب أعزل، ولعلي تعملت حكمة مفادها "ليس كل كبير قوي وليس كل صغير ضعيف".
5- تأكدت وبكل يقين أن كلمة الصدق تبقى وترسخ في ضمير
الشعوب وأن الزيف والباطل والبروباجندة السوداء هي غثاء كغثاء السيل يجرف تيار
الماء فلا يبقى منه شيء، وأدركت أن رجلا مجهولا لا يملك لا صحيفة ولا قناة
تلفزيونية ولا حسابات على السوشيال ميديا ولا قناة على يوتيوب استطاع أن يجذب عقول
الناس ومشاعرهم ويستأثر بالأفهام حتى أن الناس تنتظر بياناته وتصدقه دون أن تعرف
من يكون، والعجيب أنه لا أحد سأل نفسه من هذا وما هي مؤهلاته؟ ولعلي لم أسمع من
يجادل في صحة البيانات التي تصدرها المقاومة ويصدقه الناس وينتظرونه، وهذه درجة
عجيبة من درجات التصديق.
6- عايشت الانتفاضات المتتالية ورأيت كيف أن
شيخا مقعدا أسس منظمة وتحدى العالم بفتية صغار صاروا اليوم كبارا، وسألت
نفسي: لماذا فعل الشيخ المقعد أحمد ياسين ما فعل، وربما لا يعيش للحظة التي نرى
فيها المقاومة التي يقودها شباب كانوا أطفالا وهم يحيطون بالشيخ الشهيد في انتفاضة
الأقصى عام 2000؟ ونظرت إلى نفسي وقلت لقد مر عمر طويل فأين الغرس الذي غرسته وأنت
تملك الكثير والكثير؟
هل سنتعلم ونواصل رحلة التعلم من هؤلاء؟ فما تأخر من بدأ ولو بدأ متأخرا.