نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، تحليلا للخبير في مجموعة الأزمات الدولية طارق باقوني، تحدث فيه عن عملية "طوفان الأقصى"، والعدوان الإسرائيلي على
غزة.
وقال باقوني في التحليل المطول الذي ترجمته "عربي21"، أن حركة
حماس "وجهت ضربة قاضية لحلم إسرائيل بأن بإمكانها أن تستمر في احتلالها وفي حصارها إلى الأبد".
وتاليا الترجمة الكاملة للتقرير:
أطلق
هجوم حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) سلسلة من الأحداث غير
المتوقعة، وما زال من المبكر جداً معرفة كيف سيكون تأثير الهجوم على مسار مستقبل النضال
من أجل التحرير
الفلسطيني. ما من شك في أن الدمار الهائل الذي حل بقطاع غزة
والخسارة المروعة في الأرواح شكلا ضربة مؤلمة للفلسطينيين، تذكر بما جرى لهم في
نكبة 1948. ولكن في نفس الوقت، تبدد الوهم بأن القضية الفلسطينية يمكن أن تركن
جانباً بينما يستمر نظام الفصل العنصري الإسرائيلي قائماً، وها قد عادت فلسطين
لتتصدر الأجندة العالمية – مع الاعتراف المتنامي بأن قضيتها لا بد أن تعالج، حتى
وإن كانت المذابح الوحشية التي ارتكبت في السابع من أكتوبر قد أدت إلى حالة من
الاستقطاب في الجدل الدائر حولها.
منذ
عام 2007، انحصر وجود حماس في المناطق المحتلة داخل قطاع غزة، حيث تم بفعالية
احتواء الحركة من خلال استخدام الحصار المغلق، والذي يسجن جماعياً 2.3 مليون
فلسطيني داخل القطاع. أثناء عملية احتوائها، حُشرت حماس داخل ما أطلق عليه مصطلح
"التوازن العنيف"، حيث برزت القوة العسكرية كوسيلة للتفاوض على التنازلات
ما بين حماس وإسرائيل. بحيث تستخدم الأولى الصواريخ وغير ذلك من الوسائل من أجل
إجبار إسرائيل على تخفيف القيود المفروضة على القطاع بسبب الحصار، بينما ترد
الثانية بقوة غاشمة لبناء الردع وضمان "الهدوء" في المناطق المحيطة
بقطاع غزة. ومن خلال ذلك العنف، عمل الكيانان ضمن إطار يتيح لحماس الاحتفاظ بدورها
كسلطة حاكمة في غزة ولو تحت وطأة الحصار الذي يمارس من خلاله العنف بشكل يومي ضد
الفلسطينيين.
بدءاً
من العام 2018، بدأت حماس في تجربة سبل أخرى لتغيير هذا التوازن. كان أحدها من
خلال القرار بالسماح بتنظيم احتجاجات شعبية ضد الهيمنة الإسرائيلية على القطاع. فكانت
مسيرة العودة الكبرى في عام 2018 واحدة من أكثر نماذج التعبئة الشعبية الفلسطينية
اتساعاً وشمولاً. برز النشاط الاحتجاجي كما لو كان جهداً يقوده المجتمع المدني،
الذي حصل على الإذن وحظي بالدعم، وكانت تقوم على إدارته في نهاية المطاف لجنة
تتشكل من مختلف الأحزاب السياسية في غزة، بما في ذلك حماس. وانطلاقاً من كونها
السلطة الحاكمة في القطاع، وفرت حماس جل البنية التحتية الضرورية المطلوبة
للتعبئة، مثل الحافلات التي كانت تنقل النشطاء إلى مواقع الاحتجاجات. كان ذلك
بمثابة تغيير واضح وابتعاد عن الوسائل التي كانت حماس تلجأ إليها تقليدياً من أجل
تحدي الحصار.
بعد
بضعة سنين حصل تحول آخر في التوازن، وتحديداً في عام 2021، عندما اعتمدت حماس على
ترسانتها العسكرية للانتقام من الاعتداء الإسرائيلي في القدس. فحتى اللحظة التي
انطلقت فيها صواريخ حماس، كانت إسرائيل تعمل بجد في طرد العائلات في حي الشيخ جراح
من بيوتهم لإتاحة الفرصة أمام المستوطنين اليهود ليستقروا فيها. نجمت عن ذلك تعبئة
واسعة النطاق للفلسطينيين في كل أنحاء فلسطين التاريخية. فردت الدولة الإسرائيلية باللجوء
إلى القوة وإلى حملة اعتقالات جماعية ضد الاحتجاجات التي كانت سلمية واشتملت على
إقامة الصلوات في المناطق المحيطة بالمسجد الأقصى. استفزت جهود إسرائيل لتفريق
الاحتجاجات والدفع قدماً باستعمارها للقدس الشرقية، حركة حماس، التي ردت بإطلاق
الصواريخ.
تثبت
هذه النماذج أن حركة حماس لم تزل تبذل جهوداً من أجل التحول نحو الهجوم وتوسيع
إطار مقاومتها لتشمل مطالب تتجاوز مجرد رفع الحصار. مثل هذا التموضع يعني ضمنياً
أن الغاية هي التصرف كقوة عسكرية تهب للدفاع عن الفلسطينيين ضد ما يمارسه
الإسرائيليون بحقهم من عنف استعماري خارج إطار قطاع غزة. تنطلق هذه التكتيكات من
تحول استراتيجي واضح من قبل الحركة للانتقال بعيداً عن الإذعان لاحتوائها نحو تحد
أوضح للهيمنة الإسرائيلية – وبالتالي الانقلاب على التوازن الذي تكرس على مدى
الأعوام الستة عشر الماضية.
ينسجم هذا
التحول مع تطور حماس التاريخي كحركة تعتمد على المقاومة المسلحة والمقاومة غير
المسلحة في نفس الوقت، في حالة من المد والجزر، من أجل تحدي الاحتلال الإسرائيلي
والدفع باتجاه تحقيق المطالب الأساسية للنضال الفلسطيني، بما في ذلك مطلب حق
العودة، والذي كان في القلب من المسيرات الاحتجاجية التي انطلقت في عام 2018. (يزخر
تاريخ حماس بالأمثلة على حالات عديدة كانت الحركة فيها تقرأ السياق السياسي من
حولها، ثم تقوم – على مستوى قيادة الحركة – بتغيير الاتجاه الاستراتيجي للمنظمة،
من خلال إصدار تعليمات واضحة للجناح العسكري إما بالتصعيد أو بالتهدئة).
وينسجم التحول الأخير نحو العنف الشامل مع فهم الحركة لدور المقاومة المسلحة كأداة
تفاوضية – وهي التي طالما اعتمدت عليها الحركة طوال تاريخها من أجل فرض تنازلات
على إسرائيل.
يمكن
اعتبار هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الخطوة المنطقية التالية لحركة قررت
الانقلاب على حالة الاحتواء التي كانت فيها. بالنظر إلى رد الفعل الإسرائيلي، ذهب
بعض المحللين إلى وصف ما فعلته حماس بأنه عمل انتحاري، أو عمل غير مسؤول، إذا ما
أخذنا بالاعتبار ما أفضى إليه ذلك الفعل من سقوط أعداد كبيرة من الموتى في صفوف
الفلسطينيين. ولكن يعتمد مدى صحة مثل ذلك التوصيف، وما إذا كان صواباً أم لا، على
تحليل لأهم الخيارات التي كانت متوفرة لدى حماس وكذلك على لما سينجلي عنه غبار
المعركة. ولكن لا يوجد شك في أن الهجوم نفسه كان بمثابة قرار حاسم بالانعتاق، يمثل
بوضوح – وبأثر رجعي – الذروة التي أفرزتها جميع المتغيرات التي كانت الحركة تخوض التجارب
في التعامل معها.
اقتضى
التحول الاستراتيجي الانتقال من الاستخدام المحدود للقوة الصاروخية بهدف التفاوض
مع إسرائيل إلى شن هجوم عسكري، بكل ما أوتيت من قوة، بهدف إعاقة الاحتواء،
وبالتحديد تلك الفرضية التي ترسخت لدى إسرائيل بأن بإمكانها الإبقاء على نظام الفصل
العنصري وضمان الحصانة من المساءلة والمحاسبة على ذلك.
لا ريب
في أن الهجوم الدموي الذي شنته حماس يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) تجاوز
توقعات الحركة، وأن حجم المذابح التي ارتكبت داخل إسرائيل أثار الرأي العام
الإسرائيلي والرأي العام العالمي بطرق لم تكن بتاتاً لتخطر ببال حركة حماس. أي
عملية عسكرية كبيرة قد تكون حماس نفذتها بأي درجة من النجاح – استهدافاً للقواعد
العسكرية المحاذية لمنطقة السياج الفاصل بين إسرائيل وغزة والاستحواذ على عدد كبير
من المقاتلين الإسرائيليين – كانت كفيلة بتحطيم نموذج الحصار واستجلاب رد فعل
إسرائيلي مدمر.
إلا أن
هذا الحجم من القتل بين المدنيين – سواء دفعت نحو ذلك قيادة حماس أم لم تدفع وسواء
أعدت نفسها لمثل هذا المستوى من سفك الدماء أم لم تفعل – استثار رد فعل إسرائيلي
شرس في غزة، مكن له الضوء الأخضر الذي منحه للحكومة الإسرائيلية معظم زعماء الدول
الغربية. ولقد رأى بعض الباحثين المتخصصين في موضوع الإبادة الجماعية أن الحملة
الإسرائيلية ترقى إلى التطهير العرقي والعزم على تنفيذ إبادة جماعية.
ليس من
المجدي الجدل حول ما إذا كانت ردود الأفعال تلك ستقع فيما لو لم يحصل قتل أو خطف
في صفوف المدنيين. أياً كان الأمر، ما من شك في أن هجوم حماس العسكري وما تلاه من
عنف هائل بدل إلى غير رجعة طبيعة الرد الذي يمارس ضد الفلسطينيين في غزة.
من
منظور عسكري استراتيجي بحت، وسوى استخدام القوة، كان الخيار الوحيد المتاح أمام
حماس ما قبل الهجوم هو البقاء مقيدة ضمن إطار الحصار، بينما يوسع المستوطنون
اعتداءاتهم على الفلسطينيين داخل الضفة الغربية، ويسعى السياسيون الإسرائيليون إلى
تقويض الوضع القائم في مجمع الحرم الشريف/ جبل الهيكل في القدس، وتنال إسرائيل
مكافأة إعفاء مواطنيها من تأشيرة السفر إلى الولايات المتحدة، وتحظى بإبرام المزيد
من اتفاقيات التطبيع مع دول الإقليم.
ضمن
هذا المناخ، كانت الخيارات المتاحة أمام حماس هي الإذعان للفرضية المستمرة بأن
الفلسطينيين قد هزموا، وبأنه تحتم عليهم أن يبقوا محصورين ومخنوقين داخل
البانتوستانات – الطرود الأرضية – المقطعة والمتباعدة، والمشابهة تماماً لما كان
سائداً أيام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا من "مواطن" تحمل نفس ذلك
الاسم، أجبر على الإقامة فيها كثير من السكان السود المحرومين من حقوقهم، والذين
نصبت عليهم لإدارة شؤونهم أنظمة حكم عميلة، بينما استمرت حكومة البيض، التي تقوم
على الاعتقاد بتفوق العرق الأبيض على غيره من الأعراق، في الهيمنة الكلية بقوة
السلاح.
غدا
الخيار، كما رأت حماس، واحد من اثنين، إما الموت البطيء – كما يعبر عنه كثير من
الغزيين – أو الإخلال بالمعادلة بأسرها.
من
المؤكد أنه كان يمكن تفادي حشر حماس – وبشكل أعم الفلسطينيين – في وضع يصبح فيه شن
هجوم عسكري قوي بهذا الشكل هو الخيار المفضل لديهم. من الجديد بالذكر أنه قبل
احتواء حماس بفترة طويلة، وتحديداً منذ الانتفاضة الثانية، كانت قد أتيحت الكثير
من الفرص للتعامل مع الحركة دبلوماسياً وسياسياً.
وذلك
أن حركة حماس أذعنت بحكم الأمر الواقع ما بين عام 2005 وعام 2007 لبرنامج سياسي
كان من الممكن، لو تم الضغط بشكل مناسب من أجل إنفاذه، أن يفضي إلى إقامة دولة
فلسطينية إلى جانب إسرائيل وإلى إنهاء الاحتلال. كان ذلك هو الموقف الذي تبنته
الحركة كجزء من انتصارها الانتخابي في عام 2006 وما تلاه من دخولها في السلطة
الفلسطينية. فيما بعد تم التعبير عن ذلك بشكل رسمي من خلال الميثاق المعدل للحركة،
والذي أعلنت عنه في عام 2017، وطالبت فيه بإقامة دولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967،
دون منح اعتراف رسمي بدولة إسرائيل.
إلا أن
رفض إسرائيل والولايات المتحدة التعاطي مع أي من التنازلات السياسية التي قدمتها
الحركة منذ ذلك الوقت، بينما ظلت إسرائيل تتمتع بالحصول على رخصة مفتوحة تحافظ من
خلالها على احتلالها العنيف واستعمارها المتواصل للأراضي الفلسطينية، قوض ذلك من
ثقة حماس بأن لدى المجتمع الدولي أي اهتمام بمساءلة إسرائيل ومحاسبتها، أو بالرغبة
في تمكين الفلسطينيين من إقامة دولة لهم على جزء من أراضي فلسطين التاريخية.
كُتب
الكثير عن الفرص الضائعة للتعامل مع حركة حماس دبلوماسياً. فقد انبثقت الأحداث
التي وقعت بعد فوز الحركة في الانتخابات الديمقراطية في عام 2006 من رفض التعامل
مع المنصة السياسية للحركة، حيث فضلت إسرائيل والولايات المتحدة المضي قدماً في
مشروع تغيير النظام والتعامل مع حماس عسكرياً، واختارا حصر التعامل مع الملف
الفلسطيني من خلال السلطة الفلسطينية.
منذ
ذلك الحين، لم تزل إسرائيل تدعم وتمكن حماس لكي تبقى سلطة حاكمة بينما تقوم
بالتزامن مع ذلك بشيطنة الحركة باعتبارها منظمة إرهابية، في مفارقة مكنت الدولة من
تبرير العقاب الجماعي المتضمن في الحصار المفروض على قطاع غزة. كانت تلك هي
الاستراتيجية المختارة صراحة من قبل الحكومات المتعاقبة برئاسة بنيامين نتنياهو،
الذي تحدث علانية عن الفوائد التي تجنيها إسرائيل من انتهاج "سياسة
الفصل" ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة كوسيلة لتقويض فرص إقامة الدولة
الفلسطينية.
في
غياب أي فرص دبلوماسية حقيقية أمام حماس، كانت خياراتها تراوح ما بين الخنق البطيء
كسلطة تناط بها مهمة حكم قطاع غزة، بينما تصبح إسرائيل مندمجة مع الأنظمة العربية
التي تخلت بمجملها عن القضية الفلسطينية، أو توجيه ضربة حاسمة قد تفضي إلى
الإخلال، جوهرياً، بفرضية أن الفلسطينيين قد هزموا وأذعنوا، وأنه بات بإمكان
إسرائيل المضي قدماً في نظامها القائم على الفصل العنصري دون أن يكلفها ذلك شيئاً.
كون
حماس ذهبت إلى الخيار الثاني يعني أنها تتصرف بشكل استراتيجي، وأنها لاتزال ملتزمة
بالاعتقاد بأنها تمارس لعبة طويلة المدى. وبناء على هذا المنطق، وحتى فيما لو تعرض
جناح حماس العسكري بأسره للتدمير أو الطرد، تكون الحركة قد حققت نصراً من حيث
الكشف عن ضعف ووهن الجيش الإسرائيلي، وهو ما يمكن أن يُستغل في المستقبل إذا ما
أعيد بناء حماس من جديد أو فيما لو نشأ تشكيل عسكري جديد آخر لديه نفس الالتزام
بالمقاومة المسلحة سبيلاً للتحرير. بمعنى آخر، يتحول الإخلال ذاته إلى حيز تنشأ
فيها الإمكانيات البديلة، بينما قبل ذلك لم يكن هناك سوى الحتمية المتكلسة للقهر
المستمر الذي يخضع له الفلسطينيون.
هذ
الاعتقاد بلعبة طويلة المدى يعني أنه بغض النظر عن ما سيحدث في المستقبل على المدى
القصير أو المتوسط، حتى مع الخسائر المروعة في أرواح المدنيين في غزة، تكون حماس
قد عطلت ليس فقط بنية احتوائها وإنما كل الفكرة التي تقوم على فرضية أن بالإمكان
حبس الفلسطينيين في بانتوستانات ونسيانهم دون أن يكلف ذلك الإسرائيليين شيئاً.
وهذا التعطيل له أبعاد وجودية بالنسبة لإسرائيل، إذ تعتقد الدولة، بدعم من حلفائها
الغربيين، أن الطريقة الوحيدة للنجاة بعد هذه الضربة هي سحق حماس والقضاء عليها
قضاء مبرماً.
لسوف
تفشل إسرائيل – وهي تخفق حالياً – في تحقيق تلك الغاية. وبغض النظر عما ستفضي إليه
المعارك التي تشن على حماس حالياً في غزة، فإن بإمكان الحركة أن تزعم الآن بأنها خرجت
منتصرة على المدى الطويل لأنها حطمت بشكل لا رجعة فيه ذلك الإحساس الزائف بالأمن
الذي أحاط الإسرائيليون أنفسهم به، وذلك على الرغم من جميع المحاولات لتصوير
إسرائيل على أنها لا تهزم وعلى أنها حصينة لا قبل لأحد باختراقها.
ولكن
حتى في المعركة الحالية التي تدور رحاها في غزة الآن، فرص إسرائيل في الانتصار
ضئيلة جداً. فكما في أي نضال غير متكافئ، كل ما يحتاج إليه أفراد حرب العصابات حتى
يخرجوا منتصرين هو ألا يخسروا، بينما تخسر الدولة القوية لا محالة فيما لو عجزت عن
تحقيق أهدافها الكلية. وهدف سحق حماس والقضاء عليها هدف مبهم بقدر ما هو هدف غير
قابل للإنجاز، وذلك لأسباب منها أن الحركة أكبر بكثير من جناحها العسكري. إنها
حركة ذات بنية تحتية اجتماعية ضخمة وواسعة، وهي على تواصل مع كثير من الفلسطينيين ممن
لا ينتمون لأي من أجهزة الحركة السياسية أو العسكرية.
من حيث
الجوهر، حركة حماس حركة إسلامية تعود في أصولها إلى تفرعات جماعة الإخوان المسلمين
في المنطقة. وهي مرتبطة ببنية الرعاية الصحية وبالمرافق التعليمية وبهيئات العمل
الخيري. إذا كان الزعماء الغربيون والإسرائيليون يقصدون بالقضاء على حركة حماس
الدعوة لقتل أي فلسطيني يعتنق أي شكل من أشكال الأيديولوجيا الإسلامية، فهذا معناه
الدعوة إلى ممارسة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، وينبغي أن يفهم ذلك على
هذا الأساس.
ولكن
إذا كان الهدف هو تدمير البنية التحتية للمنظومة العسكرية لدى الحركة، فالأغلب أن
هذا الهدف سوف يفشل على الأقل من ناحية أساسية واحدة. وذلك أن تفكيك الجناح
العسكري لحركة حماس سوف يهيئ الساحة أمام بروز أشكال أخرى من المقاومة المنظمة –
سواء ضمن عباءة حماس الأيديولوجية نفسها أو من خلال ما هو سوى ذلك، ولن تختلف هذه
الأشكال عن حماس من حيث التزامها باستخدام القوة المسلحة ضد إسرائيل.
وهذا
ما يعلمنا إياه التاريخ. فلقد نشأت حماس في عام 1987 من تحت رماد التنازل التاريخي
الذي قدمته منظمة التحرير الفلسطينية، والتي ما لبثت طوال فترة نهاية السبعينيات
ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي تتحول باتجاه تغيير موقفها إزاء تقسيم فلسطين
من خلال الاعتراف بحق دولة إسرائيل في الوجود، والتخلي عن المقاومة المسلحة، سعياً
وراء إقامة دولة فلسطينية. ولقد تصادف هذا التحول مع تأسيس حركة حماس كفصيل يعلن
تمسكه بنفس المبادئ التي كانت تتمسك بها من قبل منظمة التحرير، ولكن في إطار
أيديولوجيا إسلامية بدلاً من الأيديولوجيا القومية العلمانية التي كانت سائدة في
ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
ثمة
استمرارية في المطالب السياسية الفلسطينية تعود إلى عام 1948، بل وإلى ما قبل ذلك
التاريخ. ليس المهم هنا ما إذا كانت حماس ستنجو وتبقى على تجسدها الحالي أم لا، بل
المهم هو أن المقاومة الفلسطينية ضد نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، سواء كانت
مقاومة مسلحة أم غير مسلحة، سوف تستمر طالما ظل نظام التسلط قائماً.
فهذا
النظام في جوهره يمنح اليهود في كل أرض فلسطين التاريخية حقوقاً أكثر من
الفلسطينيين، ويجزئ الفلسطينيين ضمن تصنيفات قانونية مختلفة، ويفتتهم جغرافياً من
أجل الإبقاء على نظام ممتد للسطوة والتسلط، يسعى طوال الوقت إلى الحيلولة دون حصول
اللاجئين الفلسطينيين على حقهم، المعترف به دولياً، في العودة إلى ديارهم.
يلتزم نموذج
الفصل العنصري (الأبارتيد) الإسرائيلي بالتفوق اليهودي في كل المنطقة الواقعة بين
النهر والبحر – تلك العبارة التي تعرضت مؤخراً للطعن والتشويه رغم أنها ما لبثت
تستخدم منذ وقت طويل من قبل اليمين الإسرائيلي – بينما يبقى الفلسطينيون شعباً رهن
السيطرة، يعيشون داخل تلك الدولة، وتدار شؤونهم داخل الأراضي المحتلة من قبل سلطات
غير شرعية متعاونة بطبيعتها مع الدولة الإسرائيلية.
لقلب
هذا الوضع رأساً على عقب، ومن أجل إبطال اعتقاد إسرائيل بأن حماس – من خلال
احتوائها – يمكن تدجينها كما تم تدجين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، اتخذت
الحركة مخاطرة محسوبة من خلال عمليتها، أخذاً بالاعتبار أنها لابد أن تكون قد توقعت
واقعياً أن تتقوض بنيتها التحتية العسكرية بحدة بسبب ما ستمارسه إسرائيل من رد فعل
انتقامي. ولكن في غياب أي استعداد لدى المجتمع الدولي للتعامل مع الفلسطينيين بعيداً
عن مثل هذه التكتيكات المسلحة، وأخذاً بالاعتبار أن الاستعمار الإسرائيلي مستمر،
ويتزايد عنفاً يوماً بعد يوم، فإن هذا التحول من قبل حماس باتجاه تنفيذ عملية
عسكرية واسعة النطاق كان في نهاية المطاف أمراً حتمياً.
ثمة
سبب آخر للحسبة التي أجرتها حركة حماس، وذلك هو تضارب المشاعر لديها إزاء الحكم. فحماس
غلت أيديها بسبب دورها كسلطة حاكمة في قطاع غزة. عندما شاركت الحركة في انتخابات
عام 2006، لم يكن في حسبانها المشاركة في الحكم أو الدخول في السلطة الفلسطينية.
حينذاك،
كان زعماء الحركة يرون بأنه بدلاً من تقبل القيود المفروضة على الحكم في ظل
الاحتلال، كما فعلت فتح من خلال اتفاقيات أوسلو، فإن الحركة عازمة على استخدام
فوزها الانتخابي من أجل تثوير المؤسسة السياسية الفلسطينية. ثم ما لبثت أن أكدت
على قدرتها على فعل ذلك من خلال الإشارة إلى أن إسرائيل، من خلال ردها على
الانتفاضة الثانية، قامت بسحق الكيان السياسي الفلسطيني وأبطلت السلطة الفلسطينية
واتفاقيات أوسلو معاً.
تحدثت
حماس عن الحاجة إلى بناء مجتمع مقاومة، واقتصاد مقاومة، وعقيدة مقاومة، من خلال
نفس كيان السلطة الفلسطينية – ثم استخدام ذلك الكيان كنقطة انطلاق نحو منظمة
التحرير الفلسطينية، حيث يمكنها من هناك القيام بالتعاون مع فصائل سياسية أخرى
بتزعم تشكيل رؤية لتحرير فلسطين، ولتمثيل الفلسطينيين كافة، وعدم الاكتفاء بمن
يعيشون منهم داخل الأراضي المحتلة.
كان
يراد لفوزها في الانتخابات، كما أشرح في كتابي "حماس رهن الاحتواء"، أن
يكون ثورة على الوضع القائم بدلاً من الرضوخ له. ولقد فهمت حماس أنه في غياب أي
آفاق حقيقية لإقامة الدولة، فإن التركيز على الحكم والإدارة يعني تجميل
البانتوستان ضمن نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، وأنه لن تكون هناك أي آفاق تبشر
بالتحرير أو السيادة، وأن السبيل الوحيد نحو الأمام يتمثل في تحسين جودة الحياة بينما
يستمر الخضوع للاحتلال. وذلك بالضبط هو النموذج الذي تمثله السلطة الفلسطينية في
الضفة الغربية، وكان متوقعاً أن يتم استنساخه، وإن بشكل أكثر تشدداً، في قطاع غزة.
مع
نجاح الانقلاب المدعوم غربياً ضد حماس – والذي بدأ مباشرة بعد فوز حماس في
الانتخابات وما لبث في ذروته أن تحول إلى حرب أهلية بين حماس وفتح في عام 2007 – بدا
لبعض الوقت كما لو أن حكومة الحركة في غزة دجنتها إلى المدى الذي فقدت معه مُثلها
الثورية. أوحت فترة الاحتواء المطولة بأن الحركة لربما غدت حبيسة فوزها الانتخابي
ومغلولة بقيود مسؤولياتها في الحكم – أو، بعبارة أخرى، تم تدجينها. إلا أن الهجوم
العنيف الذي وقع يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) أثبت بوضوح أن الحركة، بدلاً
من ذلك، كانت تستغل ذلك الوقت تحديداً في تثوير الكيان السياسي، وهو بالضبط ما
كانت تنوي فعله باستمرار.
كل هذا
لا يعني بالضرورة أن تحول حماس الاستراتيجي سوف يحالفه النجاح على المدى البعيد. فلربما
يكون هجوم حماس العنيف الذي أخل بالأمر الواقع قد وفر الفرصة لإسرائيل حتى تنفذ
نكبة ثانية. وهذا قد ينجم عنه توسيع دائرة الصراع في المنطقة أو قد يفضي إلى توجيه
ضربة قاصمة للفلسطينيين لسوف يستغرق التعافي منها جيلاً كاملاً.
إلا أن
المؤكد هو أنه لن تكون هناك عودة إلى ما كان قائماً من قبل. وذلك هو بالضبط ما
يستعد له زعماء ودبلوماسيو إسرائيل وأمريكا والدول الغربية الأخرى. فها هو النقاش
يتركز حالياً على مآلات اليوم التالي، حتى في غياب اتفاق نهائي على وقف لإطلاق
النار.
تشير
جميع المعطيات إلى قرار أمريكي إسرائيلي بالسعي في غزة إلى تكرار ما يعتبر نموذجاً
ناجحاً – من وجهة نظرهم – للحكم الفلسطيني المتعاون كذلك الذي هو حاصل الآن في
الضفة الغربية. فبدلاً من الدخول في عملية تتيح للفلسطينيين فرصة اختيار زعماء
يمثلونهم حتى يتولوا إدارة شؤونهم، تعمد إسرائيل والولايات المتحدة إلى إعادة
انتهاج مقاربة قديمة يتم من خلالها اختيار زعماء مطواعين يقومون نيابة عنهم
بالمهام المناطة بهم ويعملون على إخضاع الفلسطينيين للهيمنة الإسرائيلية.
يتم
القيام بذلك تحت شعار مفترض هو توحيد المناطق الفلسطينية، وبذلك يتمكن الطرفان بكل
أريحية من التنصل من تورطهم في خلق الانقسام ابتداء وفي تكريسه حتى الآن. أما
الغاية الحقيقية التي يرجوها كلاهما فليست إعادة التوحيد بقدر ما هي البحث عن نظام
حكم يذعن لهما، وذلك من خلال إقامة تركيبة حكم تقوم عليه زعامة مطواعة، مهمتها
إدارة المتطلبات المدنية في ظل السيطرة العسكرية الإسرائيلية.
لا مفر
من أن يجد هذا الهدف نفسه وجه لوجه أمام واقع غزة التاريخي، التي لم تزل معقلاً
للمقاومة ضد الأبارتيد الإسرائيلي، حيث إن الأغلبية العظمى من سكان قطاع غزة هم
لاجئون، لم يلبثوا يتطلعون إلى العودة إلى ديارهم في ما بات الآن إسرائيل. من أجل
تسهيل مهمة إقامة سلطة تختارها إسرائيل والولايات المتحدة، فلا أقل من القيام بتدمير
غزة وقتل سكانها، وهي السياسة التي تنتهجها إسرائيل في الوقت الراهن.
إلى
جانب المقتضيات الأخلاقية والقانونية لهذا الأمر، ثمة مقتضيات عملية. يصعب تصور
وجود أي زعيم فلسطيني أو كيان حكم فلسطيني لديه الاستعداد لأن يتولى مسؤولية إدارة
قطاع غزة بعد أن تكون إسرائيل قد دمرته، إذ إنه سينظر إليهم باعتبارهم أحضروا إلى
هناك على ظهور الدبابات الإسرائيلية. مثل هؤلاء الزعماء ستكون لديهم شرعية أدنى من
تلك التي هي للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية اليوم، وهذا في حد ذاته أمر يصعب
تصوره.
قد
تحظى مثل هذه المقاربة ببعض الوقت. وقد ينتج عنها ما يشبه الأمر الواقع وقد ينجم
بعض العودة إلى الاستقرار. ولكن فيما لو أريد لنا تعلم أي درس من السابع من أكتوبر
(تشرين الأول)، فهو أن مثل ذلك الوضع لن يستمر ولن يكون قابلاً للاستدامة. كما أن
أي كيان حاكم يتم اختياره لن يتسنى له ضمان الأمن لأي إسرائيلي طالما استمر نظام
الفصل العنصري، ناهيك عن أن أي حكومة فلسطينية يتم تنصيبها في غزة سوف ينظر إليها،
وبحق، باعتبارها فاقدة للشرعية ومتعاونة مع الاحتلال.
أيا
كانت الطريقة التي سيتم بها تغليف "اليوم التالي"، فلسوف يخفق ما لم يتضمن
تحميل إسرائيل المسؤولية ومحاسبتها على ما بدر منها وتفكيك نظام الفصل العنصري
التابع لها. ولسوف يكون جلياً لدى جميع الفلسطينيين أنه مجرد حل آخر قائم على
البانتوستان، في رداء إما من الإنسانوية أو تجديد الالتزام بحل الدولتين.
من هذه
الناحية، لا ريب في أن حماس وجهت ضربة قاضية لحلم إسرائيل بأن بإمكانها أن تستمر
في احتلالها وفي حصارها إلى الأبد. إلا أنه ليس من الواضح بعد ما إذا كانت لدى
السياسيين الإسرائيليين، عدا عن العنف الانتقامي الذي يمارسونه، القدرة على الاعتبار
من هذا الدرس. ولكنه درس يدركه النشطاء على المستوى القاعدي، ويدركه حلفاء حماس، وتدركه
التشكيلات السياسية والعسكرية الأخرى.
أياً
كان ذلك الذي هو قادم، وأياً كان الشكل الذي سوف يدون به إرث حماس، فقد بات واضحاً أن
الحركة هي التي بددت الوهم الذي ظلت إسرائيل وحلفاؤها يعتقدونه لزمن أطول من اللزوم.
للاطلاع على النص الأصلي (هنا)