سياسة عربية

بعد ضغط دولي غير مسبوق.. هل تفتح "الجنائية الدولية" ملف جرائم الاحتلال؟

قدمت خمس دول أعضاء في المحكمة الجنائية الدولية طلبات للتحقيق بجرائم الاحتلال- الأناضول
تصاعدت الدعوات الدولية من العديد من زعماء الدول ومنظمات ومحامين عبر العالم من أجل محاكمة دولة الاحتلال ورئيس  وزرائها بنيامين نتنياهو، في المحكمة الجنائية الدولية، بعد ارتكاب جرائم إبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة خلال العدوان الوحشي الذي بدأ في مطلع الشهر المنصرم.

وفي 17 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، أعلنت المحكمة الجنائية الدولية، عن تقدم خمس دول أعضاء فيها بطلب "للتحقيق في الهجمات الإسرائيلية على غزة"، بحسب وكالة الأناضول.

وخلال السنوات الأخيرة، تلقت المحكمة الجنائية الدولية طلبات للتحقيق في جرائم دولة الاحتلال، لا سيما  بعد انضمام دولة فلسطين للمحكمة عام 2015، ما يعني أن الجرائم التي يرتكبها الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، أصبحت ضمن دائرة اختصاص المحكمة.

لكن المفارقة أنه رغم كل المعلومات والملفات والدعوى لدى المحكمة الجنائية الدولية ضد جرائم دولة الاحتلال التي ارتكبتها خلال حروبها الأخيرة على قطاع غزة، فإن المحكمة لم تدن "إسرائيل"، ولم تصدر أي مذكرة اعتقال بحق أي مسؤول في دولة الاحتلال بما فيهم نتنياهو.

بينما لم يتطلب إصدار "الجنائية الدولية" مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يقود ثاني أكبر قوة عسكرية في العالم، سوى أسبوعين، بعد أن تقدمت 39 دولة عضوا في المحكمة بطلب التحقيق في الجرائم المرتكبة داخل أوكرانيا.

وهذا ما يجعل الكثير من المراقبين يتساءلون عن السبب الذي يتيح لدولة الاحتلال الإفلات في كل مرة من العقاب، ولا تصدر بحق قادتها مذكرات توقيف دولية لمحاكمتهم بتهم الإبادة وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، والتي ترتكب على مرأى ومسمع من العالم، وموثقة بالصوت والصورة والشهود بل وباعتراف الجناة أحيانا وافتخارهم بجرائمهم أحيانا أخرى.

والسؤال الأهم، هل سيتمكن المجتمع الدولي من تحدي الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، والضغط على المحكمة الجنائية الدولية لإحالة نتنياهو وقادة جيشه للمحاكمة الدولية بأسرع ما يمكن، لوقف مجازرهم في غزة بعد أن تجاوز عدد القتلى الـ14 ألفا؛ ثلاثة أرباعهم من الأطفال والنساء؟

وهل تمتلك المحكمة الجنائية الدولية في مدينة لاهاي الهولندية، استقلالية عن ضغوط الدول الغربية المهيمنة عليها، خاصة من ناحية التمويل، تمكنها من إصدار مذكرات توقيف بحق المسؤولين الإسرائيليين المعنيين بجرائم الحرب في غزة؟

النفوذ الغربي يحمي "إسرائيل"
انضمام دولة فلسطين لعضوية المحكمة الجنائية الدولية "رسميا" في 2015، بعد عام من تقديم الرئيس الفلسطيني محمود طلب الانضمام لها، جاء عقب اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بها كدولة غير عضو في 2012.

كان هذا الانضمام بمثابة أول خطوة رسمية نحو محاكمة دولة الاحتلال عن جرائمها في حق الشعب الفلسطيني، رغم أنه قبل 2015، قدمت مئات الدعاوى القضائية لدى المحكمة الجنائية الدولية ضد "إسرائيل" لارتكابها عدة جرائم في حق الشعب الفلسطيني وأفراد وهيئات داعمة له، إلا أنها رفضت جميعها.

وكان أحد الأسباب الرئيسية للرفض، عدم الاختصاص، أو أن عدد الضحايا لا يرقى إلى مستوى جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب أو جرائم العدوان.

فوفقا لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، من يحق له فتح تحقيق في الجرائم الأربع (الإبادة، جرائم الحرب، الجرائم ضد الإنسانية، والعدوان) التي هي من اختصاص المحكمة، هي الدول الأعضاء في المحكمة، ومجلس الأمن الدولي، والمدعي العام للجنائية الدولية.

كان ذلك أحد الأسباب التي أعاقت محاكمة الاحتلال، وبانضمام فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية، أصبحت كل من الضفة الغربية وقطاع غزة ومدينة القدس الشرقية من اختصاص المحكمة.

لكن شروع المحكمة الجنائية الدولية في التحقيق بالتهم الموجهة لدولة الاحتلال وقادتها السياسيين والعسكريين لم يفتح بشكل رسمي إلا في 2021، أي إنها استغرقت ست سنوات في جمع المعلومات وتحليلها قبل فتح التحقيق.

بينما كانت فترة أسبوعين كافية للجنائية الدولية، لإصدار مذكرة توقيف في حق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وأهم ما يعرقل فتح تحقيق في الجرائم المرتكبة في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس، عدم انضمام دولة الاحتلال إلى المحكمة الجنائية الدولية، وعدم اعترافها بسلطتها، وعدم اعترافها بالدولة الفلسطينية، ورفضها التعاون مع محققيها الجنائيين أو منحهم تأشيرات الدخول والسماح لهم بحرية التنقل والوصول إلى أماكن الجرائم المفترضة، والحديث مع الضحايا والشهود.

ولم تكتف دولة الاحتلال بعدم التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، بل أشهرت في وجهها ورقة "معاداة السامية" كعادتها في التعامل مع أي انتقاد لممارساتها.

وحرض الاحتلال عدة دول أعضاء على وقف التمويل أو تقليصه عن الجنائية الدولية، وعلى رأسها ألمانيا واليابان، وليس من المؤكد مدى استجابة هذه الدول للضغوط الإسرائيلية، لكن المحكمة لم تصدر طيلة السنوات الثلاث الأخيرة أي مذكرة توقيف في حق أي من قادة "إسرائيل" المتهمين بارتكاب أي من الجرائم ذات الاختصاص.

بينما بررت المدعية العامة السابقة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا، البطء في إصدار مذكرات اتهام، في تقرير لها، بأن "النظام القضائي الإسرائيلي ينص بالفعل على معاقبة المتهمين بارتكاب جرائم حرب، وهذا يعني أن المحكمة الجنائية الدولية قد لا يكون لها اختصاص على الانتهاكات الإسرائيلية المزعومة".

غير أن المحاكم الإسرائيلية لم تتحرك في هذا الشأن. كما أن دولا مثل السودان ليست عضوا في المحكمة ومع ذلك فإنه تم إصدار مذكرة توقيف في حق رئيسها السابق عمر البشير.

إصرار غير مسبوق على محاكمة الاحتلال
استشهاد أكثر من 14 ألف فلسطيني في قطاع غزة خلال نحو شهر ونصف، بينهم آلاف الأطفال، وسعي الاحتلال بشكل علني لتهجير 2.3 مليون فلسطيني من قطاع غزة إلى صحراء سيناء المصرية، وتلويح أحد وزرائها بنكبة فلسطينية جديدة في 2023، وتهديد آخر بإلقاء قنبلة نووية على غزة، دفعت المجتمع الدولي للتحرك على أكثر من جبهة لمحاكمة قادة دولة الاحتلال.

إحدى هذه الجبهات تقديم كل من جنوب أفريقيا وبوليفيا وبنغلادش وجزر القمر وجيبوتي، وهي دول أعضاء في محكمة الجنايات الدولية بطلب للتحقيق في الهجمات الإسرائيلية على غزة، وفق بيان للمحكمة في 17 نوفمبر.

وهذا يعني أن دولة فلسطين لم تعد وحيدة في طلبها، وانضمت إليها خمس دول أخرى من الأعضاء، ما يشكل دعما للمدعي العام للجنائية الدولية للمضي في تحقيقه.

وليس من المستبعد أن تنضم دول أخرى أعضاء في الجنائية الدولية إلى الدول الخمس، على غرار كولومبيا، التي أعلن رئيسها غوستافو بيترو، دعم بلاده دعوة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، لرفع دعاوى قضائية ضد "إسرائيل" في المحكمة الجنائية الدولية.

معظم دول أمريكا اللاتينية ونصف الدول الأفريقية بالإضافة إلى معظم الدول الأوروبية أعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن أغلب الدول العربية والإسلامية والآسيوية لم تصادق على قانون المحكمة، خاصة في ظل الانتقائية التي تتعامل بها المحكمة مع مختلف القضايا.

ولكن الأمر لم يتوقف عند الصعيد الرسمي على أهميته، بل تشكل جيش من مئات المحامين والهيئات الحقوقية من مختلف أنحاء العالم بقيادة المحامي الفرنسي الشهير جيل دوفير، وأعدادهم في ازدياد، وقدموا دعوى قضائية للمدعي العام للجنائية الدولية، في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني، تطالب "بفتح تحقيق في الوقائع المنسوبة لجيش الاحتلال في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي".

ومن شأن هذه الضغوط الدولية والشعبية التسريع في محاكمة قادة "إسرائيل" وعلى رأسهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لكن ذلك ما زال يصطدم بموقف متشدد من الولايات المتحدة، ومن حلفائها الأوروبيين الأعضاء في المحكمة وبالأخص ألمانيا، رغم موقف إيرلندا وبلجيكا الداعم لفكرة محاسبة
"تل أبيب".

الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع