نشرت صحيفة "
لوموند" الفرنسية تقريرا تحدثت فيه عن ابتعاد البلدان في
الشرق الأوسط عن
الغرب بسبب الحرب في قطاع
غزة، مع تزايد الانتقادات ضد القادة ووسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية المتهمة بـ "تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم".
وقالت الصحيفة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إنه في قاعة أحد مباني الجامعة الأمريكية في بيروت، يجلس أحد الطلاب على البيانو مرددا صدى نغمات "موطني"، وهو النشيد العربي والأغنية الحاشدة للفلسطينيين. وكان حرم هذه المؤسسة، المعروف بـ "تعزيز الاعتدال"، من أوائل أماكن التعبئة في لبنان لدعم سكان غزة الواقعين تحت القصف الإسرائيلي. وهو تضامن في انسجام مع ما تم التعبير عنه في الأردن أو مصر أو حتى سوريا.
وبينت الصحيفة أن رابطة أساتذة الجامعات نشرت بيانا شديد اللهجة في 13 تشرين الأول/أكتوبر مشيرة فيه إلى أن إدانات "الفظائع التي ترتكبها إسرائيل في غزة دون عقاب" تقترن بانتقادات إعلامية ومواقف سياسية للدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في مواجهة الحرب، بتهمة "التشويه الصارخ للتاريخ" و"تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم".
ونقلت الصحيفة عن سومة البالغة من العمر 21 سنة وهي طالبة في الجامعة الأمريكية في بيروت خلال مظاهرة في 18 تشرين الأول/أكتوبر، وسط بيروت: "لا أستطيع أن أتحمل تدمير الفلسطينيين وإسكات أصواتهم وتقديمهم كإرهابيين. في مواجهة المعلومات المضللة، من واجبنا أيها العرب أن نتحدث علنا".
هذه ليست المرة الأولى التي تكشف فيها المواجهة بين الإسرائيليين والفلسطينيين عن فجوة بين الغرب والشرق الأوسط العربي، الذي شهد بدوره عدة دورات من الصراع، من خلال الحرب أو وصول اللاجئين الذين طردوا من أراضيهم منذ قيام إسرائيل في سنة 1948. ولكن هذه المرة الفجوة آخذة في الاتساع.
وأشارت الصحيفة إلى أن كل ما يأتي من الغرب تقريبا أصبح موضع شك، بدءا من الدعم أحادي الجانب للكيان الصهيوني الذي عبر عنه الرئيس الأمريكي جو بايدن والعديد من القادة الأوروبيين الذين زاروا إسرائيل، في إطار موجة الصدمة التي سببها هجوم حماس الدموي في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الذي أدى إلى مقتل أكثر من 1400 شخص في إسرائيل، بينما احتجزت الحركة الإسلامية 240 شخصا كرهائن.
"لقد فجر الأوروبيون نظام القيم الخاص بهم"
أثار الغرب الجدل بشأن التردد وعدم الجرأة على الدعوة إلى وقف إطلاق النار عندما قُتل أكثر من 10 آلاف شخص في غزة، وذلك وفقا لأرقام وزارة الصحة في الأراضي التي تديرها حماس، وكذلك أوجه التشابه بين الجماعة الفلسطينية وتنظيم الدولة أو الإرهاب العالمي، أو حتى ردود الفعل على التظاهرات والخطابات المؤيدة للفلسطينيين.
وأضافت الصحيفة أن هناك الكثير من العلامات التي تحرّض على التمرد في منطقة تشعر بأنها متهمة بكل الشرور لأكثر من عشرين سنة: مرتبطة بالإرهاب منذ أيلول/سبتمبر 2001، وتعاني بشدة من الدمج بين الإسلام والتطرف، وهي محرومة من التعبير أو رهينة للصور النمطية عندما تتمكن من التعبير عن نفسها.
يقول معين خوري، وهو مستشار أردني من أصل فلسطيني، إنه "منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، تحطم الخطاب الأوروبي حول القانون الدولي وحقوق الإنسان وحرية التعبير والإعلام. ينفق الاتحاد الأوروبي الكثير من الأموال على برامج للصحفيين في الشرق الأوسط، باسم الحرية. رأينا هذه الدول ترتعد من لبس الكوفية الفلسطينية. لقد فجر الأوروبيون أنفسهم نظام القيم الخاص بهم".
وأضاف خوري أنه: "كان من المتوقع أن يعبر القادة الأوروبيون عن تعاطفهم مع إسرائيل. لكن ألم يكن لهم أي إيماءات تجاه الشعوب العربية؟ أليس لديهم من يقدم لهم نصائح بشأن صورتهم؟ إن ما رأيناه وسمعناه يتماشى مع كلمات جوزيب بوريل، عندما أعلن [في سنة 2022] أن أوروبا "حديقة" و"معظم بقية العالم غابة". وكان رئيس الدبلوماسية الأوروبية قد اعتذر عن كلامه في ذلك الوقت، دون أن يقنع المنطقة بأنه لا يعكس شعورا بالتفوق أو العنصرية.
"سنتقدم للأمام في حقل ألغام"
في عالم شديد الترابط، يُنظَر إلى الاستجواب المنهجي للضيوف العرب في مختلف وسائل الإعلام الغربية لإدانة هجمات حماس على أنه "معايير مزدوجة" أخرى. ومن دون انتظار وسائل الإعلام، وصف المثقفون العرب والمسلمون ما فعلته حماس بالفظيع. ولكن النقاش الحالي خطير: فهو يقول ضمنا أننا لا بد أن ندين حماس حتى تتمتع بالحق في الكلام. علاوة على ذلك، لا يجوز وضع الأمر في سياقه؛ ودون فهم مصدر هذه الفظائع، لن يتم حل أي شيء. يقول خالد منصور، الكاتب المصري الذي يعيش في الأردن: "هذا يعني "أدينوا حماس، واخرجوا من الاستوديو"".
من جهته، يقول مصدر دبلوماسي غربي: "إن رفض الدول الأوروبية توضيح السياق يزيد من شعور المجتمعات في مصر والأردن ولبنان بعدم سماع صوتها". ويخشى كثيرون أن يؤدي العنف ــ تماما مثل أعمال معاداة السامية المسجلة في أوروبا ــ إلى توسيع الفجوة بشكل أكبر، نحو أفق مميت.
حسب المعارضة السورية رولا الركبي البالغة من العمر 67 سنة المنفية في لبنان، فإنه بين الغرب والشرق الأوسط "هناك ما قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وما بعده. العالم لن يبقى كما كان بعد الآن". وفي هذه العلاقة هناك المزيد من القسوة. وهي تعتقد أن "العالم الذي يدعي أنه ديمقراطي لم يعد كذلك. إنها صدمة. كنا نطمح إلى أن تكون أوروبا نموذجا للديمقراطية: فقد رأينا حظرا على المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، وحرمان الناس من أصواتهم... ونرى أوروبا صامتة في وجه المجازر التي ترتكب ضد المدنيين في غزة".
"أم المعارك"
في قلب هذا "التنافر" القديم تكمن القضية الفلسطينية، التي عادت إلى الظهور على الساحة الدولية بعد هجوم حماس. وتتابع رولا الركبي: "هنا، لم ننساها أبدا. لم يفهم الغربيون هذا: إن الظلم الكبير الذي تعرض له الفلسطينيون في سنة 1948 راسخ في ذاكرتنا، ووجودنا، بالنسبة لنا، نحن سكان هذا الجزء من العالم. لقد شكلنا الصراع الإسرائيلي الفلسطيني كمواطنين".
تجدر الإشارة إلى أن هذه الناشطة المنخرطة في المجتمع المدني اضطرت إلى مغادرة دمشق في سنة 2016، وعاشت صراعات سنتي 1967 و1973. وفقا لها "القضية الفلسطينية هي أم المعارك. ودون منح الحقوق للفلسطينيين، لن يكون هناك استقرار في هذه المنطقة من العالم. ستكون هناك دائما مشاكل وثورات". وأضافت أن "جذور كل أعمال العنف التي شهدناها منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر تكمن في رفض الاعتراف بحق الفلسطينيين في الوجود... إن القضية الفلسطينية وإدانة الاحتلال هي قضية إنسانية وأخلاقية".
"كان للفلسطينيين أرض ومنزل"
في الجامعة الأمريكية في بيروت، تشارك فاطمة شرف الدين، أمينة المكتبة والأرشيف، نفس التجربة مثل الكثير من اللبنانيين: "لقد عشت مع القضية الفلسطينية منذ طفولتي. لقد عشت الغزو الإسرائيلي الكبير للبنان سنة 1982. وكان بعض أساتذتي فلسطينيين. عندما كنت طفلة في مدينة صور، في الجنوب، كنت أتساءل دائما لماذا يعيش اللاجئون الفلسطينيون هناك ويعيشون في فقر". لكن في أعقاب سنة 1948، تم دمج الفلسطينيين الأثرياء الذين وصلوا إلى لبنان. تم وضع أولئك الذين جاءوا من خلفيات ريفية فقيرة في معسكرات تحولت إلى أحياء فقيرة.
شاركت فاطمة شرف الدين في جمع شهادات الفلسطينيين الذين عانوا من نكبة سنة 1948، والتي تم جمعها في قاعدة بيانات رقمية كبيرة للجامعة الأمريكية في بيروت. "تخبرنا هذه القصص أن الفلسطينيين كان لديهم أرض، ومنزل، وكان عليهم التخلي عنها، وأن المجتمع الفلسطيني كان متقدما جدا، وتقدميا للغاية". قصة أسرع الغرب من خلالها في تسليط الضوء على التمييز الذي يعاني منه اللاجئون في مختلف الدول العربية، وقد أخفاها منذ عقود.
أشارت الأكاديمية إلى أن هذه الأرشيفات أثارت اهتماما متزايدا، بما في ذلك في أوروبا والولايات المتحدة، منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر لكنها أيضا ترى بفزع أن "هناك زملاء في الغرب، حساسون لمحنة الفلسطينيين، يفرضون رقابة على أنفسهم على الإنترنت، خوفا من العقوبات، ومن فقدان وظائفهم". وتؤكد قائلة: "اليوم، أشعر بحرية أكبر في لبنان أكثر مما كنت عليه في الولايات المتحدة".