قضايا وآراء

"الأستاذة".. من طابور خامس للانقلاب إلى آخر ضحاياه

تم اعتقال عبير موسى وتحويلها للقضاء- صفحتها على فيسبوك
رغم أن المواطن التونسي ليس في حاجة إلى التعريف بعبير موسى أو بحزبها، فإن التعريف المختزل بها قد يكون ضروريا للقارئ العربي ولغير المهتمين بالشأن التونسي. فزعيمة الحزب الدستوري الحر-المعروفة بين أنصارها بـ"الأستاذة"- كانت من قيادات الصف الأول في "التجمع الدستوري" الحاكم والمنحل بعد الثورة بحكم قضائي، وبعد إسقاط "قانون العزل السياسي"، انتشر التجمعيون في عدة أحزاب كان من بينها الحزب الذي أسسه سنة 2013 آخر وزير أول في عهد المخلوع حامد القروي. وقد تحصّل هذا الحزب التجمعي الجديد على 21 مقعدا في الانتخابات التشريعية لسنة 2019، محتلا المرتبة الرابعة بعد حركة النهضة وقلب تونس والتيار الديمقراطي.

ولا تكمن أهمية "الأستاذة" في قاعدتها الشعبية، بل في علاقتها المؤكدة بالدولة العميقة واستصحابها لسردية الجناح الاستئصالي في التجمع، بالتوازي مع رفضها الاعتراف بالثورة أو بأي استحقاق/ منجز خلال فترة "الانتقال الديمقراطي".

لقد كانت السيدة عبير موسى من أكبر المستفيدين من انتشار سردية "العشرية السوداء" التي لا معنى لسوادها إلا باختزالها في "حركة النهضة" وبالمقابلة بينها وبين "الزمن الجميل"، أي فترة حكم المنظومة الشيو- تجمعية بلحظتيها الدستورية والتجمعية.

ومنذ تزعمها للحزب الدستوري الحر كانت عبير موسى من أكبر الناشرين لخطاب الكراهية والمهددين لقواعد العيش المشترك والمحرّضين على الانقلاب، ولذلك كانت من مكونات "النواة البرلمانية الصلبة" الممهدة لإجراءات 25 تموز/ يوليو 2021، أي كانت من الحزام السياسي للرئيس الذي عمل على شيطنة/ شلّ العمل النيابي لإفقاده أية شرعية شعبية. وهو حزام لم يكن يُحرّكه الولاء لرئيس الجمهورية أو تبني مشروعه السياسي (الديمقراطية القاعدية)؛ بقدر ما كان تجمعه معاداة حركة النهضة وهيمنتها على النظام البرلماني المعدّل. لقد كنا أمام التقاء موضوعي أو تقاطع مؤقت تختلف فيه حسابات "الشركاء" وتتضارب استراتيجياتهم.

تحويل عبير موسى إلى ملف قضائي هو حدث هام في المشهد السياسي التونسي، فهو يدل على وجود صراعات حقيقية بين أجنحة السلطة ورعاتها الإقليميين والدوليين. وقد يكون اختزال المسألة في رهانات الانتخابات الرئاسية أمرا مغريا، ولكنه عاجز عن الإحاطة بتعقيدات القضية. فزعيمة الحزب الدستوري الحر لا يمكن أن تكون منافسا جديا للرئيس

كانت الأصوات الانقلابية داخل البرلمان تهدف إلى توظيف "حالة الاستثناء" للانقلاب على حركة النهضة (سواء أكان أصحاب تلك الأصوات من الداعين إلى الاستئصال الصلب أو الاستئصال الناعم)، كما كانت تسعى إلى إعادة هندسة الحقل السياسي -بل الحقل العام- بعد الدفع بالنهضة إلى الهامش عبر تحميلها المسؤولية السياسية والأخلاقية والقانونية عن كل الانحرافات الحاصلة منذ المرحلة التأسيسية.

ولا شك عندنا في أن السيدة موسى -باعتبارها الصوت الأبرز في سردية الاستئصال الصلب رفقة الوطد والعديد من القوميين، وباعتبارها أيضا "ابنة المنظومة" الحاكمة قبل الثورة وبعدها- كانت تُمهّد للانقلاب وتنتظر "خراجه" بمنطق "الدَّين"، أي بمنطق مديونية الرئيس المفترضة لكل من مهّد لإجراءاته ودعمها بعد حصولها. ولكنّ حسابات الرئيس -ومَن وراءه في الدولة العميقة وحلفائها الإقليميين- كانت لهم حسابات أخرى.

في مواجهة سردية "الشراكة"، لم يتردد الرئيس في إعلان مسؤوليته الكاملة عن "تصحيح المسار"، كما لم يتردد لمواجهة سردية "الدَّين" في اعتبار نفسه الممثل الحصري للإرادة الشعبية دون باقي "الطامعين" و"المنقلبين على أعقابهم". فالرئيس لا يتحرك بمنطق الشريك بل بمنطق البديل، وهو غير مَدين للأجسام الوسيطة وإن ساندته، بل هو مَدين للشعب وحده. ورغم تحول السيدة موسى إلى صوت من أصوات المعارضة لتصحيح المسار بعد أن استيأست من التموقع في مراكز القرار، فإنها ظلت تُعامل معاملة تفضيلية من لدُن السلطة ومن قِبل العديد من الفاعلين الجماعيين المحسوبين على "الموالاة النقدية". لقد كانت تلك المعاملة التفضيلية أو التمييز الإيجابي أمران مفهومان عند المهتمين بالشأن التونسي.

تجمع بين الرئيس وعبير العديد من القواسم المشتركة مثل معاداة حركة النهضة والتحالف مع محور الثورات المضادة والعلاقة الودية مع فرنسا والاتحاد الأوروبي ونقدهما للنظام البرلماني المعدّل، بالإضافة إلى علاقتهما المؤكدة بالدولة العميقة وبالرأسمال البشري المنحدر من المنظومة الشيو- تجمعية الحاكمة قبل الثورة. ولكنّ هذه المشتركات كلها لا تنفي وجود خلافات حقيقية لا يمكن اختزالها في المطامع السياسية للطرفين، كما لا يمكن إدارتها بعد الآن -مثل كل الملفات السياسية- إلا بتوظيف أجهزة الدولة الأمنية والقضائية. وهو ما يفسر جزئيا الاحتفاظ بالسيدة موسى لمدة 48 ساعة لمواجهة ثلاث شبهات تتعلق بتعطيل حرية العمل ومعالجة معطيات شخصية بدون إذن (وهما جنحتان)، والاعتداء القصد منه إثارة الهرج في البلاد التونسية (وهي جريمة قد تصل عقوبتها إلى الإعدام).

تجمع بين الرئيس وعبير العديد من القواسم المشتركة مثل معاداة حركة النهضة والتحالف مع محور الثورات المضادة والعلاقة الودية مع فرنسا والاتحاد الأوروبي ونقدهما للنظام البرلماني المعدّل، بالإضافة إلى علاقتهما المؤكدة بالدولة العميقة وبالرأسمال البشري المنحدر من المنظومة الشيو- تجمعية الحاكمة قبل الثورة. ولكنّ هذه المشتركات كلها لا تنفي وجود خلافات حقيقية لا يمكن اختزالها في المطامع السياسية للطرفين، كما لا يمكن إدارتها بعد الآن -مثل كل الملفات السياسية- إلا بتوظيف أجهزة الدولة الأمنية والقضائية

لا شك في أن تحويل عبير موسى إلى ملف قضائي هو حدث هام في المشهد السياسي التونسي، فهو يدل على وجود صراعات حقيقية بين أجنحة السلطة ورعاتها الإقليميين والدوليين. وقد يكون اختزال المسألة في رهانات الانتخابات الرئاسية أمرا مغريا، ولكنه عاجز عن الإحاطة بتعقيدات القضية. فزعيمة الحزب الدستوري الحر لا يمكن أن تكون منافسا جديا للرئيس بحكم أصولها الجهوية (هي من منطقة الشمال الغربي وليست من البلدية أو السواحلية، أي ليست من النواة الصلبة للحكم منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا)، وكذلك بحكم أنها "امرأة".

وقد يكون التذكير بجنس عبير -أو بالقضية الجندرية- أمرا مستغربا في بلاد تدعي نخبتها أن المرأة "الحداثية" فيها "مرا ونص"، وتذكر دائما بمكاسبها في مجلة الأحوال الشخصية. ولكنّ هذا الاستغراب سيفقد قيمته عندما نتذكر بُنية المجتمع الذكوري وواقع المرأة في خيارات الحداثيين أنفسهم (عدد رئيسات القوائم الانتخابية في الأحزاب "التقدمية") ودورها الحقيقي في اتخاذ القرار، بعيدا عن الخطابات الدعائية، حتى في النظام الحالي الذي وصلت فيه المرأة إلى منصب "رئيسة الوزراء" لكن دون صلاحيات.

رغم عدم إنكارنا لأهمية العوامل الداخلية في تصعيد السلطة ضد زعيمة الحزب الدستوري (هندسة الحقل السياسي بصورة تخدم فوز الرئيس في الانتخابات القادمة، محاولة القطع مع السردية البورقيبية التي ما زالت تهدد شرعية التأسيس الجديد، مواصلة الحرب المفتوحة ضد الأحزاب والأجسام الوسيطة، تحجيم دور بعض أجنحة المنظومة القديمة.. الخ)، فإننا نميل إلى أن المحدد الأهم للتصعيد هو التوجهات الخارجية الجديدة للنظام الحاكم.

فالخطاب الرئاسي يتجه منذ فترة إلى الابتعاد عن "محور التطبيع العربي" (الحديث عن "الصهيونية العالمية" وعن الحق التاريخي في "كل فلسطين")، وكذلك الابتعاد عن فرنسا نفسها (إنهاء مهام سفير تونس والقنصل العام بباريس ورفض "الصدقات" الأوروبية المرتبطة بملف الهجرة غير الشرعية، بالإضافة إلى إمكانية تحويل ملف إصلاح التعليم والاستشارة الوطنية الخاصة به إلى قاعدة لتهديد النفوذ الثقافي والتربوي الفرنسي في تونس).

موسى لا تعارض النظام الرئاسوي بل تعارض تهميشها وحزبَها فيه، ولا تعارض أيضا استهداف الأجسام الوسيطة وتدجين مؤسسات الدولة بل تنتقد غيابها في مواقع القرار، فإن وجودها في المشهد السياسي القادم سيكون مؤرّقا للرئيس ونظامه. فبعد ضرب كل الأحزاب وتحويل الصراع السياسي إلى ملف أمني- قضائي، لم يبق للتنغيص على الرئيس ومشروعه السياسي إلا حزب السيدة عبير موسى

بصرف النظر عن السجال العمومي حول تحويل السيدة عبير موسى إلى ملف قضائي، من المؤكد أن مآلات الاحتفاظ بها في القضايا المذكورة أعلاه ستُظهر الحجم الحقيقي -في مستوى الدولة العميقة وفي بعض دوائر القرار الإقليمية والدولية- لزعيمة التجمعيين الجدد، وستُظهر كذلك استمرار الحاجة إليها أو انتفاءها في المشهد السياسي القادم.

ورغم أن السيدة موسى لا تعارض النظام الرئاسوي بل تعارض تهميشها وحزبَها فيه، ولا تعارض أيضا استهداف الأجسام الوسيطة وتدجين مؤسسات الدولة بل تنتقد غيابها في مواقع القرار، فإن وجودها في المشهد السياسي القادم سيكون مؤرّقا للرئيس ونظامه. فبعد ضرب كل الأحزاب وتحويل الصراع السياسي إلى ملف أمني- قضائي، لم يبق للتنغيص على الرئيس ومشروعه السياسي إلا حزب السيدة عبير موسى.

ولا شك عندنا في أن صدر السلطة لن يتسع لخطابات تشكك في أسس المشروع ذاتها (الديمقراطية القاعدية، نظام القوائم، الشركات الأهلية، التقسيم الترابي الجديد، زعامة الرئيس واحتكاره لتمثيل الإرادة الشعبية.. الخ)، ولكنّ بين ضيق الصدر بأي معارضة وبين القدرة على فرض مشهد سياسي لا مكان فيه لزعيمة التجمعيين الجدد. توجد مسافة لا يحكمها منطق الرغبة بقدر ما تحكمها توازنات محلية وإقليمية غير ثابتة، ولا يمكن للمحلل السياسي أن يجزم بمساراتها ولا بمآلاتها إلا بضرب من الدعوى الكاذبة.

twitter.com/adel_arabi21