تساءل وزير الدفاع
الأمريكي السابق روبرت غيتس بمقال نشرته مجلة "
فورين أفيرز" عن قدرة
الولايات المتحدة على ردع
الصين وروسيا، رغم ما تعانيه من انقسام وخلل وظيفي.
وقال غيتس إن الولايات
المتحدة تواجه اليوم تهديدات خطيرة على أمنها، أكثر مما كان في العقود السابقة،
فهي لم تواجه أبدا أربعة أعداء في نفس الوقت: الصين، وروسيا، وإيران، وكوريا
الشمالية، والتي ستصبح ترسانتها العسكرية من الأسلحة النووية ضعف ما لديها في
السنوات المقبلة. ولم تشهد الولايات المتحدة ومنذ الحرب الكورية منافسين عسكريين
أقوياء لها في أوروبا وآسيا، ولا أحد على قيد الحياة يتذكر وقتا كان لدى العدو قوة
اقتصادية وعسكرية وعلمية وتكنولوجية واقتصادية كما لدى الصين اليوم. والمشكلة هي
أن هذه التحديات تحتاج لقوة متماسكة قادرة على الرد، لكن أمريكا ليس لديها هذه
القوة. فالمشهد السياسي المتشرذم بين الجمهوريين والديمقراطيين والبيت الأبيض
والكونغرس فشل في إقناع عدد كاف من الأمريكيين بأن التطورات في
روسيا والصين مهمة.
وفشل القادة السياسيون في فهم أن التهديدات التي تمثلها هذه الدول متداخلة. وفشلوا
في تقديم استراتيجية طويلة الأمد للتأكد من انتصار الولايات المتحدة والقيم
الديمقراطية.
المشترك بين شي وبوتين
هناك الكثير المشترك ما
بين الرئيس شي جين بينغ وفلاديمير بوتين، لكن هناك معتقدان بارزان يجمعهما، الأول،
كل منهما يعتقد أن قدره هو إعادة المجد الإمبريالي الضائع، وبالنسبة لشي، فهذا
يعني استعادة الماضي الإمبريالي للبلد، ولديه طموحاته بالتأثير الدولي. أما بوتين،
فهذا يعني متابعة خليط غير مريح من إعادة الإمبراطورية الروسية، وما سيطر عليه الاتحاد
السوفييتي سابقا. أما المعتقد الثاني، فهو أن الدول الديمقراطية، وبخاصة الولايات
المتحدة، تجاوزت مرحلة الذروة في تأثيرها، وفي تراجع لا يمكن وقفه. وهذا التراجع يدل
على العزلة المتزايدة والاستقطاب السياسي والفوضى الداخلية.
ويمثل معتقدا شي وبوتين
نذيرا خطيرا لمرحلة قادمة على الولايات المتحدة.
والمشكلة ليست في أن
الصين وروسيا دولتان قويتان عسكريا، بل لأن كلا الزعيمين ارتكب سوء تقديره العظيم
في الداخل والخارج، ومن المحتمل ارتكابهما أخطاء أكبر في المستقبل. وستؤدي قراراتهما
إلى تداعيات كارثية عليهما وعلى الولايات المتحدة. ويجب على واشنطن تغيير حسابات
بوتين وشي وتخفيض فرص الكارثة، وهي جهود بحاجة إلى رؤية استراتيجية وتحرك جريء.
انتصرت الولايات المتحدة
في الحرب الباردة بسبب الاستراتيجية المتماسكة من القيادة السياسية للحزبين وعلى
مدى تسع إدارات، وهي بحاجة لنفس الاستراتيجية اليوم، لكن هنا هي المشكلة. وتجد
الولايات المتحدة نفسها في وضع خطير واستثنائي، فهي تواجه أعداء عدوانيين بميل
لإساءة التقدير، وغير قادرة في الوقت نفسه على تحقيق الوحدة والقوة الضرورية
لمنعها.
والردع الناجح لكل من
شي وبوتين يحتاج إلى قوة الالتزامات وثبات الرد. لكن الخلل الوظيفي جعل القوة
الأمريكية عشوائية وغير موثوقة، مما دعا المستبدين الميالين للمخاطرة لوضع رهانات
بآثار كارثية ممكنة.
ويدعو شي لإحياء عظيم
للأمة الصينية، وهو مختصر لجعلها قوة مهيمنة بحلول 2049، في المئوية الأولى على
انتصار الحزب الشيوعي في الحرب الأهلية الصينية. وتشمل الأهداف جعل تايوان تحت
سيادة بكين، أي توحيد كامل للأرض والأمم والذي سيتحقق ويجب أن يتحقق. وحتى يتحقق
هذا، فإن شي يريد جاهزية الجيش بحلول 2027 لكي يجتاح تايوان، كما تعهد بتحديث
الجيش بحلول 2035 وتحويله لجيش من الدرجة الأولى وعلى مستوى العالم. ويعتقد شي أن
السيطرة على تايوان هو الطريق الوحيد لجعله بمرتبة ماو تسي تونغ وفي قائمة الرموز
الأسطورية للحزب. وتحمل طموحات شي الشخصية وحسه بأنه على موعد مع القدر مخاطر
تماما كما فعل بوتين في أوكرانيا، وربما فعل شي هذا في تايوان.
وبحسب غيتس فقد أساء شي
التقدير في ثلاث مناسبات، الأولى، انحرافه عن قانون دينغ تشاو دينغ: "لا تظهر
قوتك وانتظر حتى يحين الوقت"، فقد أثار شي ما خشي منه دينغ، حيث دفع أمريكا
لحشد كل قواتها من أجل إبطاء النمو الاقتصادي وتحديث جيشها وبناء تحالفات في آسيا.
أما الخطأ الثاني، فهو
تحول شي نحو اليسار في سياساته الاقتصادية، وهو تحول أيديولوجي بدأ عام 2015 وتعزز
في 2022، في المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي الصيني. وقد أدت سياساته بإدخال الحزب
في إدارة الشركات والاعتماد على شركات الدولة إلى الإضرار بالاقتصاد الصيني.
أما الخطأ الثالث، فهي
سياسات التحكم في كوفيد-19 "صفر كوفيد" والتي جعلت كما قال آدم بوسين
"السلطة التعسفية للحزب الشيوعي حاضرة في كل نشاطات الجميع الاقتصادية وبشكل
ملموس بشكل أدى لتراجع حجم إنفاق المستهلكين وأضرت كثيرا بالاقتصاد".
ويقول غيتس إن شي الذي
يسعى للحفاظ على السلطة واستعادة تايوان ثانيا، قد يفشل لو حاول القيام بحرب
بوقائية. ولن يكون أمامه سوى فرض حصار كامل على الجزيرة أو غزوها بشكل شامل. وربما
شعر أنه على موعد مع القدر سواء، انتصر أم انهزم لكن الخسائر العسكرية والاقتصادية
ستكون كارثية. وسيكون شي ومن معه قد ارتكبوا خطأ فادحا.
ومهما كانت المشاكل
الداخلية التي تواجه الصين، فستظل تمثل تهديدا قويا للولايات المتحدة، فجيشها
اليوم قوي ولديها بوارج عسكرية أكثر من أمريكا. وقامت بتحديث وأعادت بنية القوة
التقليدية لجيشها وأسلحتها النووية وحدثت نظام القيادة والتحكم. وبعيدا عن المجال
العسكري، فقد زادت الصين من تأثيرها العالمي، فهي اليوم أكبر شريك تجاري مع أكثر
من 120 دولة بما فيها دول في أمريكا اللاتينية. ووقعت أكثر من 140 دولة على مبادرة
الحزام والطريق، وهي تملك أو تدير أكثر من 100 ميناء في 60 دولة حول العالم. ويدعم
العلاقات الاقتصادية قوة دعاية، فلا توجد أي دولة في العالم بمعزل عن تأثير راديو،
أو قناة تلفازية أو موقع إخباري صيني. وتستخدم الصين هذه القنوات لمهاجمة الولايات
المتحدة، وتقوض الثقة بالمؤسسات الدولية التي خلقتها الولايات المتحدة بعد الحرب
العالمية الثانية.
وهناك مفهومان يدعمان
من يقولون إن المواجهة بين الولايات المتحدة والصين حتمية.
أحدهما "مصيدة
ثوسيديدس"، وبحسب هذه النظرية فالحرب محتومة عندما تتحدى قوة صاعدة قوة أخرى
قائمة، كما فعلت أثينا عندما واجهت إسبرطة، وألمانيا التي واجهت المملكة المتحدة
قبل الحرب العالمية الأولى.
أما المفهوم الثاني فهو
"قمة الصين"، وهي فكرة تقول إن قوة البلد الاقتصادية والعسكرية ستصل
مرحلتها الأعلى، فيما تحتاج المبادرات لتقوية القوة العسكرية الأمريكية لسنوات كي
تثمر.
وربما غزت الصين تايوان
قبل أن يغير تباين الميزان العسكري في آسيا تميز بكين. لكن أيا من النظريتين ليست
مقنعة، فالحرب العالمية الأولى حدثت بسبب غباء وغطرسة القادة الأوروبيين، كما أن
الجيش الصيني لم يصل درجة الجاهزية لحرب واسعة. ومن هنا فغزو الصين لتايوان قد
يحدث في المستقبل وبعد سنوات، إلا إذا أخطأ شي التقدير مرة أخرى.
مقامرة بوتين
قال زبغينو بريجنسكي،
مستشار الأمن السابق والعالم السياسي: "بدون أوكرانيا فلا توجد إمبراطورية
روسية" وهو ما فهمه بوتين. وفي بحثه عن الإمبراطورية الضائعة، غزا بوتين
أوكرانيا عام 2014 و2022 حيث كان الغزو الأخير سوء تقدير كارثي بتداعيات سلبية
وطويلة الأمد على بلاده. وبدلا من تقسيم الناتو منحه هدفا جديدا وأعضاء جدد مثل
فنلندا والسويد.
ومن الناحية الاستراتيجية
فروسيا في وضع أسوأ مما كانت عليه قبل الغزو. ومن الناحية الاقتصادية ساهمت مبيعات
النفط للهند والصين لتخفيف حدة العقوبات، كما أن السلع الاستهلاكية من الصين
وتركيا ووسط آسيا والشرق الأوسط حلت محل السلع الغربية التي كانت مهمة. إلا أن
روسيا تعرضت لعقوبات قاسية وخرجت شركات غربية منها ومستثمرين مهمين في قطاع الغاز
والنفط المهمين للحفاظ على المصدر الرئيس للدخل، كما هرب آلاف الخبراء الشباب
ورجال الأعمال من البلاد. وبغزوه أوكرانيا رهن بوتين مستقبل بلاده.
ومن الناحية العسكرية،
فقد أضعف الغزو القدرة التقليدية للجيش بشكل كبير، لكن روسيا تظل من الناحية الاستراتيجية
أكبر قوة نووية في العالم وبأسلحة نووية تكتيكية عددها 1900 رأسا نوويا. إلا أن
هذه القوة النووية لا تعني أن مستقبل بوتين ورديا، فبعد تلاشي آماله بنصر سريع في أوكرانيا،
فإنه يعول على حرب جامدة وتعب الولايات المتحدة وأوروبا في العام المقبل من الالتزام
العسكري بها. وربما كان لديه بديل آخر للغزو وهو بقايا دولة في أوكرانيا اقتصادها
مدمر وصادراتها منخفضة. وكان بوتين يأمل بضم أوكرانيا للإمبراطورية الروسية
الجديدة ولأنه خاف من منظور ديمقراطي يتحدى نموذجه، وربما لن يحقق الهدف الأول،
لكنه سيمنع تحقق الهدف الثاني.
وطالما بقي بوتين في
السلطة فستظل روسيا عدوا لأمريكا. فخلال صفقات الأسلحة ومبيعات النفط بأسعار مخفضة
فقد بنى علاقات مع أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا. وسيحاول استخدام كل الوسائل
المتوفرة لديه لزرع الفتنة والانقسام والفوضى في أمريكا وأوروبا والتأثير على موقع
أمريكا في عالم الجنوب. وبعلاقته مع شي وترسانته النووية فهو متأكد من عدم ضرب
الغرب بلاده عسكريا، وقد أساء التقدير مرة ولن يسيء التقدير مرة أخرى.
أمريكا العاجزة
في الوقت الحالي، تظل
أمريكا في موقع أفضل فيما يتعلق بالصين وروسيا، فاقتصادها أقوى والاستثمار في
البنى التحتية الحيوية وبرامج التكنولوجيا الجديدة قائم، وكذا الكمبيوتر الكمي
والذكاء الاصطناعي والهندسة البيولوجية التي تعد بتوسيع الفجوة بين الولايات
المتحدة وكل دولة وعلى مدى السنين المقبلة. ومن الناحية الدبلوماسية، منح غزو
أوكرانيا أمريكا فرصا جديدة وحذرت حلفاءها من نوايا روسيا وأعادت الثقة بالاستخبارات
الأمريكية وقدراتها. وقوت المخاوف من روسيا الناتو ووسعت العضوية فيه، كما أن
الدعم العسكري الذي قدمته لأوكرانيا أعاد الثقة بالتزامها بدعم حلفائها.
وسمحت تصرفات الصين
التهديدية في أوروبا والصين بتقوية وضع الولايات المتحدة في المنطقتين. ومولت
أمريكا برامج تحديث ترسانتها النووية في كل مجالاتها بما فيها الصواريخ الباليستية
العابرة للقارات والغواصات. ويشتري البنتاغون مقاتلات حربية أف-35 ومقاتلات أف-15
المحدثة ومقاتلات جديدة من الجيل السادس. وتبني البحرية بوارج جديدة وغواصات،
ويطور الجيش أسلحة جديدة وذخيرة عابرة للصوت وتقوي دفاعات السايبر. وتنفق الولايات
المتحدة على دفاعاتها أكثر من عشر دول مجموعة بما فيها الهند والصين.
كل هذا النجاح عرقله
الخلل الوظيفي للسياسة وفشل القادة من الحزبين بفهمه. فالاقتصاد مهدد بالخلاف على
ميزانيات الحكومة الفدرالية، وفشل الحزبان في معالجة زيادة الكلفة في الضمان الاجتماعي
والتأمين الصحي والمساعدة الصحية. وأدت المعارضة الدائمة لرفع سقف الدين إلى تقويض
الثقة بالاقتصاد. وعلى الصعيد الدبلوماسي، قوض الرئيس السابق دونالد ترامب مصداقية
أمريكا من خلاله احتقاره الحلفاء وغرامه بالمستبدين واستعداده لزرع الشك حول
التزامات أمريكا بالتحالفات مثل الناتو، إلا أن ما تبقى من ثقة تقوضت بعد سبعة أشهر
من إدارة بايدن عندما قرر الانسحاب بشكل مفاجئ من أفغانستان. وظلت أمريكا غائبة
ولعقود عن عالم الجنوب وتركته مساحة مفتوحة لروسيا والصين، ولم تلتفت لتعيين سفراء
في عدد من دوله. واستغلت الصين غياب واشنطن دول المحيط الهادئ ووقعت معها اتفاقيات
استراتيجية وأمنية قبل أن تستفيق أمريكا، فالتنافس على التأثير والتسويق عالمي ولا
تستطيع أمريكا أن تغيب عنه. وتأثرت ميزانيات الدفاع بسبب الحواجز التي يضعها
الكونغرس، وفي كل عام ينفق البنتاغون أقل من العام الذي سبقه.
قيادة أمريكا للعالم
يقول غيتس إن المنافسة
الملحمية بين أمريكا وحلفائها من جهة والصين وروسيا وأتباعهما من جهة أخرى تجري
على قدم وساق. وللتأكد من كونها في الموقع الأقوى على الولايات المتحدة معالجة الانكسار
في الاتفاق بين الحزبين حول دور أمريكا في العالم. صحيح أن حرب 20 عاما في أفغانستان
والعراق جعلت الأمريكيين يتطلعون لمشاكل بلادهم وعدم الانخراط بمشاكل العالم، لكن
على القادة السياسيين شرح أن مصير البلد مرتبط بشكل لا ينفصم مع ما يحدث في أماكن
أخرى. ولاحظ الرئيس فرانكلين روزفلت أن "أهم واجب لرجل الدولة هو
التعليم"، إلا أن الرؤساء في الفترة الأخيرة والكونغرس فشلوا في أداء
واجباتهم. وعلى الأمريكيين فهم أن دور أمريكا في العالم مهم مهما كان الثمن، وأن
قتال الأوكرانيين الروس مهم لمنع الصين من غزو تايوان، وأن سيطرة بكين على منطقة
الباسيفيك تضر بالمصالح الأمريكية، وأن هيمنة روسيا والصين على عالم الجنوب مهم
لجيوبهم.