قبل
سنوات دعتني مؤسسة محمد إبراهيم الدولية في لندن لحفل توزيع جائزة الحكم الرشيد في
أفريقيا. شهد الحفل حضور عدد كبير من الدبلوماسيين والسياسيين السابقين والحاليين،
وأذكر منهم الأمين العام الراحل للأمم المتحدة كوفي عنان. أنشأ المهندس البريطاني
من أصل سوادني محمد إبراهيم هذه الجائزة التي تُمنح لرئيس من قارة أفريقيا؛ يتم
اختياره بناء على معايير ما وفّره من أمن واستقرار ورخاء لشعبه ونقله السلطة
بطريقة سلمية إلى من بعده.
كان
هدف محمد إبراهيم المعروف بمو إبراهيم أن تتخلص القارة السمراء الغنية بالموارد
والطاقة البشرية؛ من أزمة حكامها الذين لا يغادرون مناصبهم سوى بالموت أو
الانقلابات العسكرية. وتعد قيمة الجائزة غير المسبوقة حافزا يسيل له لعاب أي سياسي،
إذ تبلغ خمسة ملايين دولار تُدفع على مدار عشر سنوات، يعقبها معاش تقاعدي يبلغ
مائتي ألف دولار. ولكن يبدو أن كل هذا لم يمنع كثيرا من حكام القارة من البقاء في
مناصبهم لأطول فترة ممكنة، ولم يمنع أيضا الانقلابات العسكرية من دول القارة.
الملاحظ في الآونة الأخيرة أن الميراث الاستعمار هذا وخاصة الفرنسي منه؛ ليس سوى تعبير عن نظرية ملء الفراغ الاستراتيجي الذي تملؤه دول مثل فرنسا أو الولايات المتحدة. أي أن التاريخ الاستعماري للدول الغربية في فرنسا ليس مبررا لنفوذها الحالي، اللهم إلا من ناحية الاهتمام والاستثمار في هذه الدول الأفريقية
ما
من شك أن الميراث الاستعماري في القارة يطل برأسه ويتحكم في كثير من موارد القارة
من خلف ستار التأثير السياسي والعسكري والاقتصادي، ولكن هل حقا معضلة الحكم في
القارة الأفريقية مرتبطة بفساد الحاكم المالي أو رغبته في السلطة فقط؟ إن الملاحظ
في الآونة الأخيرة أن الميراث الاستعمار هذا وخاصة الفرنسي منه؛ ليس سوى تعبير عن
نظرية ملء الفراغ الاستراتيجي الذي تملؤه دول مثل
فرنسا أو الولايات المتحدة. أي
أن التاريخ الاستعماري للدول الغربية في فرنسا ليس مبررا لنفوذها الحالي، اللهم
إلا من ناحية الاهتمام والاستثمار في هذه الدول الأفريقية.
إن
قيام دول أخرى مثل الصين وروسيا وتركيا بالاهتمام بأفريقيا في السنوات الأخيرة
باستخدام أدوات استراتيجية ودبلوماسية مختلفة، أثبت أن النفوذ غير الغربي ممكن في
دول القارة إذا كان هناك اهتمام حقيقي بها. ويتجلى تضارب المصالح بين هذه الدول
وبين فرنسا في موقفها من انقلاب
النيجر؛ ذلك أن انحسار نفوذ فرنسا في النيجر يعد
من عواقب ظلمها الذي مارسته هناك، فيما لم تؤيد كل من
روسيا والصين التدخل العسكري
لإعادة الرئيس المنتخب إلى منصبه مرة أخرى. ويبدو أن التباينات السياسية المعروفة
بين بيجين وموسكو وأنقرة تتلاشي أمام الإجماع على معارضة الاحتكار الفرنسي أو
بالأحرى الاستغلال لدول أفريقيا.
الانقلابات المتوالية في أفريقيا هي تعبير عن تراجع النفوذ الأمريكي والفرنسي في القارة الأفريقية، خاصة إذا أضفنا لذلك الصراع السوداني- السوداني. وهو تراجع أسفر عما يشبه حروبا بالوكالة بدأت في أوكرانيا وربما لن تقف عند حدود النيجر والجابون، أي أنها حرب شمال جنوب، وهي تعبير خشن عن تعدد الأقطاب الدولية
ويمكن
بسهولة رصد موقف هذه الدول الثلاث من الحرب في أوكرانيا لنجد تشابها بينها إلى حد
بعيد من موقفها من انقلاب النيجر مثلا والقاسم المشترك؛ هو الوقوف على الحياد
الظاهري وتحميل الغرب المسئولية عن مآلات الأمور. وليس هناك شك في أن فرنسا كانت
تدرك ذلك مع بداية الأزمة الأوكرانية، وتعرف أن ضرب مصالح موسكو في شرق أوروبا
يمكن أن ترد عليه موسكو بسهولة في مناطق نفوذ فرنسي أخرى في العالم وخاصة في أفريقيا.
ولذلك سعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الحوار مع الرئيس الروسي فلاديمير
بوتين وزاره شخصيا في العاصمة موسكو، وهي الزيارة التي لم تؤتِ ثمارها.
يمكن
بسهولة استنتاج أن الانقلابات المتوالية في أفريقيا هي تعبير عن تراجع النفوذ الأمريكي
والفرنسي في القارة الأفريقية، خاصة إذا أضفنا لذلك الصراع السوداني- السوداني.
وهو تراجع أسفر عما يشبه حروبا بالوكالة بدأت في أوكرانيا وربما لن تقف عند حدود
النيجر والجابون، أي أنها حرب شمال جنوب، وهي تعبير خشن عن تعدد الأقطاب الدولية
غير مصحوب بحروب أيديولوجيا وإنما اقتصادية نفعية صرفة.