تواجه حركة "النهضة" التونسية منذ انقلاب الرئيس قيس سعيد على المسار الديمقراطي في 25 من تموز (يوليو) 2021، جملة من التحديات الذاتية والموضوعية.. أما الذاتية منها فتتعلق أساسا بمؤتمرها الحادي عشر المؤجل منذ عامين تقريبا، وجهود التكريس للنسق التداولي على القيادة.. أما الموضوعية فتتصل أساسا بمقاومة الانقلاب والعودة إلى استكمال مسار الانتقال الديمقراطي..
"عربي21"، تنفتح على هذا النقاش، وتفتح الباب للحوار حول التحديات التي تواجه حركة "النهضة" لا سيما بعد اعتزام قيادتها الحالية بالنيابة، على الإعداد لعقد مؤتمر الحركة في الخريف المقبل، وهو ما أثار ردود فعل متباينة ومختلفة، لا سيما وأن رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي ونائبيه في الاعتقال منذ عدة أشهر..
الكاتب والإعلامي التونسي الطيب الغيلوفي، يكتب مساهمة في هذا الموضوع، يناقش فيها أطروحات الباحث في علم الاجتماع أحمد عبد النبي التي نشرناها هنا في "عربي21" يوم 17 آب / أغسطس الماضي..
من السرية إلى العلنية
قرأت للباحث التونسي في علم الاجتماع أحمد عبد النبي ما كتبه هنا في
"عربي21"، عن مؤتمر "النهضة" وتاريخ الصراع على موقع الرئاسة
فيها، وهذه المساهمة مني ليست إضافة في قراءة بنية "النهضة" كما عرضها
أحمد وليست نقضا لما كتب ولكنها نظر في وجه آخر للمؤتمر يعنى بالسياقات الوطنية
وانعكاسها على توجهات المؤتمر والصراعات الكامنة والظاهرة فيه، والسياق يحكم
البنية ويفرض عليها التكيف وعن مآلات "النهضة"
من بعده.
منذ هروب الرئيس زين
العابدين بن علي وانتصار الثورة التونسية، دخلت "النهضة" في مرحلة
العلنية بعد أن كانت السرية سترا من العيوب وعن العيون. ظهرت الصراعات داخل "النهضة"،
انكشفت فتكثفت مرورا بالمؤتمر العاشر ودراما المنصة إلى يوم الناس هذا، كانت في
غالبها صراعات تنظيمية وإن تلبست
بالمبدئية أو الخلافات الفكرية، فاضت فأصبحت على المباشر في اجتماع مؤسستها
الشورية أو في بيانات المنسحبين أو من فوق كراسي استوديوهات القنوات التلفزية.
عشرية الانتقال الديمقراطي في تونس طبعتها الحرب الضروس بين الأحزاب
بتوجهاتها المتناقضة انتخابيا وعند تشكيل الحكومات والنقض السريع لها مما أزهد
التونسي في
السياسة وفي الأحزاب جملة، بما ساهم في الإتيان برئيس من خارجها أتى
على البنيان بعد أن استوطن أعلى هرمه، لكن حربا ضروسا أخرى موازية كانت في داخل "النهضة"،
لا تخمد إلا لتزداد اشتعالا، لا يثنيها خطرا يحيط بالجميع أو ضعفا وتراجعا
انتخابيا بدا يتكشف أو عجزا عن إنجاز ما يعيد الثقة في المطلب الديمقراطي وإقناع
الفقراء والمحرومين بنفعه وعدم الهروب من جنته، تعددت أشكال الحرب داخل صفوف "النهضة"
من العرائض والاستقالات من مؤسسات الحركة أو منها جملة أو كتابة المقالات
والمقالات المضادة، السيوف وحدها لم تسحب من أغمادها وإن أقدم أحد أبنائها
الغاضبين على حرق نفسه في مقرها المركزي.
هذا الصراع الملحمي داخل "النهضة" كشف عن خلل في بنيتها
وعن ضعف معيب في مؤسساتها التنظيمية التي جعلت أساسا لرسم السياسات وتوزيع
المسؤوليات واستيعاب الخلافات ومأسسة مبدأ الشورى الذي جعلته الحركة قطب رحى
مشروعها السياسي.
تعجز "النهضة" بصراعاتها عن إنجاز مؤتمرها وهي في السلطة
والحريات المدنية والسياسية غير مسبوقة وقد قارب التأخير عهدة كاملة لكنها تقرر أن
شهر تشرين أول / أكتوبر المقبل سيكون موعدا للمؤتمر والبلاد في حالة استثناء ومؤسسات الحكم والإدارة معطلة أو تكاد إلا
مؤسسة الرئاسة وكواليسها، قيادات "النهضة" بين سجين وطريد ومن بقي منهم
خائف يترقب، لا يتيح ظاهر السياق السياسي والمجتمعي في تونس لمؤتمر "النهضة"
في هذا الظرف غير وصفه بالعملية الانتحارية التي لا تقتل غير صاحبها أو مد حبل النجاة لنظام حكم دائم الهرب من فشله المقيم
بالبحث عن الأعداء والمتآمرين، اجتمعوا "تآمرا" وأنفقوا
"ترفا"، الشعب لا يجد الخبز وهم يأكلون البسكوي على قول ماري أنطوانيت،
هكذا سيكون خطاب قيس سعيد إذا لم يصدر عن المؤتمر ما يرضيه، وقد تستجيب الجماهير
لزعيمها وتزحف لسحل الخوانجية.
هذا الصراع الملحمي داخل "النهضة" كشف عن خلل في بنيتها وعن ضعف معيب في مؤسساتها التنظيمية التي جعلت أساسا لرسم السياسات وتوزيع المسؤوليات واستيعاب الخلافات ومأسسة مبدأ الشورى الذي جعلته الحركة قطب رحى مشروعها السياسي.
إلا أن مؤشرات كثيرة وقراءات ما بين السطور تؤكد أن مؤتمر "النهضة"
وعلى غير الظاهر نقطة التقاء بين سلطة تزداد ورطتها وبين حزب في ورطة أشد وكلاهما
يتعلق بخشبة "داوني بالتي كانت هي الداء".
السلطة باعتقالها للغنوشي ضربت الحراك المعارض للانقلاب في مقتل،
تبين أن الغنوشي كان الدينامو الذي لم يترك قيس سعيد يرتاح، اتبع الغنوشي
باحترافية عالية سياسة "القيادة من الخلف"، تغيرت اللافتات من
"مواطنون ضد الانقلاب" إلى "جبهة الخلاص" لكن المهندس واحد.
بالنسبة للسلطة أي مؤتمر "للنهضة" يبعد الغنوشي عن رئاسة الحركة
"خطوة مكملة وفي الطريق الصحيح"، بعد إخراجه من البرلمان يخرج من "النهضة"
ولا يبقى من نهاية غير الاتفاق على تقاعده أين وكيف. بالنسبة للغنوشي الشيخ
الثمانيني المريض والمناور بلا حدود إذا كان انعقاد المؤتمر واختيار رئيس جديد "للنهضة"
ثمنا لخروجه وإخوانه من السجن، أغلبهم يثقل كاهله السن والمرض، لما لا يكون
استراحة محارب وفرصة لالتقاط الأنفاس.
بعد تجربة حكم طويلة، ثقيلة ملفاتها، وأشد ثقلا على النفوس السجن بعد
ذهاب ذهب السلطة ووجاهتها، يتبين أن "النهضة" الآن عند نقطة التقاء بين
حمائمها وصقورها، بين قياداتها المسجون منها والمتروك، وبين عصب تنظيمها وبين
كتابها على مواقع التواصل، أن ترجع للخلف ولا تنجر لمواجهة لم تعد تطيقها وأن تقنع
من غنيمة الحرية بالإياب، تهادن قيس سعيد
وتتركه للشعب يقضي فيه بأمره.
ما بين سلطة قيس سعيد وحزب "النهضة" توازن ضعف، يسهل للحكم
قبول "النهضة" ودمجها ضمن أحزاب الدولة على غرار "حمس"
الجزائرية او العدالة والتنمية المغربي لكن بدون ثقل الغنوشي، كاريزما ورمزية، باعتباره منظر الإسلام السياسي الأخير ووجهه
البارز المتبقي. المثير للسخرية أن هذا الضيق من ثقل الغنوشي هو ما يجمع السلطة
وقيادات "النهضة"، الكوادر ضائقة بفردانيته والسلطة برمزيته وحضوره
الدولي وهي المتواضعة شخوصا الصغيرة دون صغر تونس طموحا، القوى الدولية المهندسة
للإقليم لا تنفك تسأل وفود "النهضة" متى يقع المؤتمر ويتنحى الغنوشي،
وقد حجمت الإسلام السياسي وأبعدته عن الفعل في أكثر من قطر عربي أكبر من تونس حجما
وإمكانيات.
ينقل عن منذر الونيسي، رئيس "النهضة"
بالنيابة وأحد المرشحين لخلافة الغنوشي والمبشر بتوجه جديد "للنهضة"، أن
الشيخ يدعم انعقاد المؤتمر، بل أطراف ليست بعيدة من الشيخ، معروفة بسقف خطابها
العالي، لوحظ سكوتها عن أي قول في ما تعلق بموعد المؤتمر أو مضامينه أو تكذيب
النقل عن الغنوشي.
إذا كان "للنهضة" أن يدجنها هذا المؤتمر ويدخلها إلى بيت طاعة السلطة الجديدة بقطع النظر عن المقابل الذي سيكون بالضرورة فئويا لا وطنيا، وهل يستطيع المؤتمر العتيد أن يفعل غير هذا وهو منعقد في حضنها وتحت بصرها، أولى بمؤتمريها إذن أن يعلنوا حل الحزب لينزعوا من السلطة شماعة تعلق عليها فشلها
منذر الونيسي، الوحيد الذي أعلن ترشحه للرئاسة، لم يخف التوجه الجديد
"للنهضة" قائلا في تصريحات صحفية أن الاهتمام المقبل "للنهضة"
سيكون مشروع إنقاذ اقتصادي ومالي على شاكلة مشروع مارشال، مبشرا في حواره أن
المعوقات التي وضعتها السلطة ستزول قريبا منها إعادة المقرات وإطلاق سراح القيادات،
هذا القول ليس فيه شيء من الأحلام أو الضرب في الرمل هو وعد من جهات نافذة
والمقابل يظهر في المؤتمر وفي مسار الرئاسة الجديدة للحزب من بعد.
الاتفاق مع السلط من خلف ستار إجراء لا تنفرد به "النهضة"
دون الجماعات الإسلامية الأخرى، في مصر تحاور الإخوان واتفقوا مع المجلس العسكري من وراء ظهر المعارضة وناشطي
ثورة 25 يناير مما زرع بذور الشك والريبة بين الطرفين، في نهاية الأمر وجد الإخوان
أنفسهم ضحية الثقة في المجلس العسكري والعزلة عن المعارضة وناشطي الثورة، في
المغرب سارع حزب العدالة والتنمية إلى
نجدة القصر من حراك 20 فبراير المطالب بتعديلات دستورية تدخل المغرب في الحكم
الملكي الدستوري، انتهى بن كيران وحزبه والتجربة الديمقراطية ضحية ما قال إنه لا يريد شيئا من صلاحيات
"سيدنا"، سيرة معادة، براديغم الطائفة الحاكم في العقل الإسلامي يجعل مصلحة
الحزب / الجماعة، المفارق للمصلحة الوطنية في أغلب الأحيان، هو المعقولية الكامنة
في الخيار السياسي والسلوك الاجتماعي.
إذا كان "للنهضة" أن يدجنها هذا المؤتمر ويدخلها إلى بيت
طاعة السلطة الجديدة بقطع النظر عن المقابل الذي سيكون بالضرورة فئويا لا وطنيا،
وهل يستطيع المؤتمر العتيد أن يفعل غير هذا وهو منعقد في حضنها وتحت بصرها، أولى
بمؤتمريها إذن أن يعلنوا حل الحزب لينزعوا من السلطة شماعة تعلق عليها فشلها إن كانت معارضة أو تتخذها خرقة للمسح إن كانت موالية، فتريح وتستريح، ويهيئوا البلاد لتجربة حزبية
متخلصة من متعلقات العشرية ومفتوحة على جبهة وطنية عريضة تخوض معركة إحياء
الديمقراطية بدون تحيزات فئوية أو أيدولوجية. أما القيادات المسجونة محل المساومة،
آن لها أن ترتاح ، جيل واحد لا يقوم بالثورة مرتين.