المسألة الفلسفية
كلامي فيها ليس جديدا. إنه عودة إلى شرح قولي بمنطق القيم الخمس الذي
عممته فطبقته على كل شيء موجود فعليا أو تخيليا بدءا بالفرد الإنساني وتثنية بزمانه
التاريخي وختما بجعل التخميس نظام البنية المنطقية الدنيا التي تناسب قيام أي
موجود منطلقه الزوجية.
وكما سأبين في الفصول الموالية التي تعالج المسألة الدينية فقد مثل
ذلك سر المعادلة الوجودية التي حددتها الآية 23 من فصلت: نوعا الآيات المضاعفة
آيات الآفاق (طبيعة وتاريخ) وآيات الأنفس (بدن وروح) وكونها جميعا ما يراه الإنسان
ويرى فيه ما وراءها فتكون دالة على كل مضمون القرآن الكريم.
وبين أني أعد بنية المنطق مخمسة القيم بديلا من بنية المنطق الهيغلي
مثلثها. والمعلوم أن هذه هي بدورها بديل من بنية المنطق الأرسطي مزدوج القيم
ومثلها ضمنيا بحاجته إلى الحد الأوسط يكون أداة قياس حتى في صيغتيه المريضة عند
لوكازيفيكس أو أنطولوجيزي عند جرنجي. وقد ساد منطق التثليث الهيغلي في فكر النخب
العربية الحديثة وما بعدها سواد منطق التثنية الأرسطي في فكر النخب العربية
القديمة وما بعدها إلى حد الآن.
وقبل شرح القصد بالمنطق مخمس القيم وضرب الأمثلة عما يعنيه فيدخل فيه
رؤية أخرى للدور الوجودي المضموني في المنطق الصوري فلا بد من البدء ببيان تفاهة
ما صار ممضوغة في الكلام على النقد التيمي للمنطق الأرسطي وتبني النخب العربية
القديمة وما بعدها له:
فأولا لم يشكك ابن تيمية في منطق أرسطو أبدا إذا تعلق الأمر به من حيث
تمثيله لقوانين النظام الصوري لأفعال العقل: أي الإثبات والنفي والجمع والطرح وما
يترتب عنها عند التطبيق على رموز لمتغيرات دون تعيين لطبيعتها: أي ما يرمز إليه
أرسطو بالحروف في قياسه لما يترتب عن علاقات هذه الحروف باعتبارها قيما مجردة لا
دخل لقيم ما يعينها في أشياء فعلية توضع محل تلك الحروف.
مشكل ابن تيمية مع المنطق الأرسطي لا علاقة له بهذا المعنى من المنطق
بل بما يحصل لما ننتقل إلى تعيين القيم الشيئية الموجودة فعلا بديلا من الرموز
الحرفية في الاستدلال: المسألة هي دور الميتافيزيقي المضموني في المنطقي الصوري، أي
الانتقال من التحليلات الأوائل إلى التحليلات الثواني. فما تفترضه ضمنيا أمران لا
شيء يثبتهما وكلاهما يتعلقان بالقيم العينية التي لم تبق رموزا للأشياء بل هي
الأشياء نفسها:
1 ـ هل الأشياء ثابتة فعليا ثبات الرموز فرضيا: مشكل تعريف الأشياء
أو هوياتها أم إن الثبات فيها هو من طبيعة غير منطقية بل هو ناتج عن توهم المطابقة
بين التعريف الذي يضعه المدرك للشيء وحقيقة الشيء المعرف؟
مشكل ابن تيمية مع المنطق الأرسطي بما يحصل لما ننتقل إلى تعيين القيم الشيئية الموجودة فعلا بديلا من الرموز الحرفية في الاستدلال: المسألة هي دور الميتافيزيقي المضموني في المنطقي الصوري، أي الانتقال من التحليلات الأوائل إلى التحليلات الثواني.
2 ـ بعد التسليم بذلك هل المنطلق في الوصل بين القيم التي في
المقدمات والقيم التي في النتائج التي يصل إليها القياس يبقى ثابتا إذا فصلناه عن إيقاف التسلسل والدول في التعليل لأن المقدمات هي العلل الأولى في أي استدلال
وأهمها ما يعتبر أوليات في كل معرفة.
وبين أن الأمرين مترابطان لا يمكن لأي منهما أن ينفك عن الثاني ومن
ثم فهما متفاعلان في الاتجاهين طردا من أحدهما إلى الثاني وعكسا من الثاني إلى
الأول:
3 ـ فأولا تاريخ المعرفة يثبت أن ثبات هويات الأشياء ليست حقيقية بل
تعني أن كل تعريف ليس تعريفا للشيء في ذاته بل هو تعريف لما أدركناه من
"عاداته" أي من تجلياته في إدراكنا له خلال الاطلاع على "سلوكه".
4 ـ وثانيا حقيقة الأوليات تغيرت لأنها صارت تعتبر مسلمات للانطلاق
في الاستدلال أو أكسيومات وليست حقائق ضرورية بدليل تغير النظريات بتغير
الأكسيومات التي تؤسسها ومفعولها يتحدد بتأويلاتها المضمونية.
5 ـ ومن ثم فالمنطق الذي لا يجادل فيه ابن تيمية هو الأول فحسب أي
موضوع التحليلات الأوائل. إنه يقصر جداله في موضوع التحليلات الأواخر وبالذات
الفعلين الموصلين للانتقال من القيمة الرمزية المجردة وهي الحروف إلى القيمة
الفعلية المعينة وهي "عادات" الأشياء أي ما خبرناه منها في تجاربنا وفي
حدود علمنا في تاريخ المعرفة الإنسانية: تعريف هوية الشيء ومبدأ الانطلاق أي
الأوليات التي تزيل التسلسل والدور.
لذلك فهو لا يجادل في الاستدلال بعلاقات الرموز الحرفية دون تعيين
للمرموزات العينية وهي كلها تقديرات ذهنية يردها إلى الرياضيات وهي وحدها التي لا
ينكر أن الاستدلال فيها له صفات خمس مستحيلة في الاستدلال بعلاقات قيم الأشياء
العينية التي في المرموزات الفعلية وليست التقديرية وكلها خالية من تلك الصفات: فهي ليست: أولية، وهي ليست: بديهية، وهي ليست:
عقلية، وهي ليست: محضة.
وأخيرا: فاعتبارها حاصلة على هذه الصفات مثل المقدرات الذهنية في
العدد والمقدار يفترض أن الأشياء الخارجية مطابقة للتقدير وذلك عين ما تؤسسه
الميتافيزيقا التي تؤسس للمطابقة بين التقدير الذهني والوجود الفعلي: وهو شرط
النقلة إلى التحليلات الأواخر أي نظرية العلم أو الإبستمولوجيا الأرسطية.
وهذه الفقرة القصيرة الدالة على طبيعة نقد ابن تيمية للمنطق الأرسطي
كافية لبيان ثرثرة المثرثرين حول الإشكالية الموضوعة للعلاج ولبيان الوعي الحاد
بطبيعتها المتعلقة بالانتقال من التحليلات الأوائل إلى التحليلات الأواخر تؤيدها
فقرة ثانية لتحديد علتها الميتافيزية بعد هذه المنطقية:
"فالعلوم الأولية البديهية العقلية المحضة ليست إلا في المقدرات الذهنية كالعدد والمقدار لا في الأمور الخارجية الموجودة.
1 ـ فإذا كانت مواد القياس البرهاني لا يدرك بعامتها إلا أمور معينة
ليست كلية وهي (ما يدركه) الحس الباطن والظاهر والتواتر التجربة والحدس.
2 ـ و(إذا كان) الذي يدرك الكليات البديهية الأولية إنما يدرك أمورا
مقدرة ذهنية لم يكن في مبادئ البرهان ومقدماته المذكورة ما يعلم به قضية كلية عامة
للأمور الموجودة في الخارج.
3 ـ و(إذا كان) القياس لا يفيد التعلم إلا بواسطة قضية كلية.
4 ـ فامتنع حينئذ أن يكون في ما ذكروه من
صورة القياس ومادته حصول علم يقيني.
5 ـ وهذا بين لمن تأمله وبتحريره وجودة تصوره تنفتح علوم عظيمة ومعارف".
ثم يعلن أنه سيبين علل الأخطاء التي تحدث في هذه النقلة بعد أن بين
أن المنطق الصوري نفسه يلغي كل إمكانية لتحقيق أول
شروط هذه النقلة التي لا تكون
إلا بفضل المصادرة على المطلوب.
لأن كل الأشكال ليست مفيدة إلا بحضور قضية كلية على الأقل في مقدم
القياس وهي إذن بحاجة للمصادرة على المطلوب في مقدم القياس. وهو يرد التقدير الذهني إلى وظيفة الإفادة الرمزية
مثله مثل اللغة والكتابة:
1 ـ ولكن المعاني الكلية العامة المطلقة في الذهن، 2 ـ كالألفاظ
المطلقة والعامة في اللسان، 3 ـ وكالخط
الدال على تلك الألفاظ، 4 ـ فالخط يطابق اللفظ، 5 ـ واللفظ يطابق المعنى.
فكل من الثلاثة يتناول الأعيان الموجودة في الخارج ويشملها ويعمها لا
أن في الخارج شيئا هو نفسه: يعم هذا وهذا، أو يوجد في هذا وهذا، أو يشترك فيه هذا وهذا. فإن هذا لا يقوله من يتصور ما
يقول وإنما يقوله من اشتبهت عليه الأمور الذهنية بالأمور الخارجية أو من قلد بعض
من قال ذلك من الغالطين فيه".
والضمني هنا أن الكليات التي توصف بها الأشياء هي بدورها رموز من جنس
اللفظ والكتابة. وليست صفات مقومة للموصوف بها بل هي عناصر مقومة للكلام عليها أي
لصوغها الرمزي. ولا يمكن تصور ابستمولوجيا من دون هذه العلاقة بين نوعي الترميز أي
بين:
الترميز مطلق التجريد دون تحديد لدلالة الرمز العينية، والترميز
المعبر عما ندركه من عادات الأشياء العينية، والأول لا يتجاوز التقدير الذهني العام والثاني
لا بد فيه من أنطولوجيا تعرف ما تعتبره عين قيام الأشياء خارج كل تقدير ذهني.
فيكون المنطق مقصورا على التحليلات الأوائل وفيه يقتصر الأمر على
علاقات مجردة بين رموز مجردة وما يحصل بينها باعتبار هذه العلاقات ليست شيئا
آخر غير أفعال الفكر إثباتا ونفيا وجمعا
وطرحا
تسليما بأن هذه الأفعال ثابتة فيصبح الموضوع هو أفعال الفكر الحاسب
لأفعال الفكر الرامز. ولذلك فقد ردها ابن تيمية إلى الحساب دون تعيين طبيعة
المحسوب والاكتفاء بالرمز إليه بالحروف.
وعندما تعدد المنطق فهو قد ضم إلى أفعال الفكر الحاسب لأفعال الفكر
الرامز.. لما صارت قيم الأشياء العينية هي بدورها رموزا لما وضع دلالة على ماهية
الأشياء العينية دون أن يرد إليها: أي إن تعريف الماهيات ووضع الأسكيومات صار هو
بدوره من أفعال الفكر الرامز.
دون ادعاء أنها عين الأشياء بل هي رمز يثبت تعريفا هو بدوره أكسيومي
أي مسلمة ينطلق منها العلاج. فيكون العلم في هذه الحالة مقدرات ذهنية ليس شكلا
فحسب بل وكذلك مضمونا: لذلك يمكن الكلام على منطق رياضي ومنطق طبيعي ومنطق كيمياوي
ومنطق خلقي لأن ماهية الموضوع ومسلمات انطلاق العلاج هي بدورها صارت تقديرات ذهنية
ذريعية وظيفتها بناء نموذج مجرد يحاكي الأشياء بشروط ما ندركه منها.
فما الذي تغير؟ مراجعة الميتافيزيقا التي لا بد من دورها للانتقال من
التقدير الذهني إلى تطبيقه على الأشياء. ويمكن اعتبار التقدير الذهني صورة خيالية
عن الأشياء. والأشياء ليست كما تبدو لبادئ
الرأي هي ما ندركه على ما هو عليه بل هي
بدورها ليست إلا صورة خيالية عنها بردها إلى ما أدركناه منها متخيلين أنه عين مما
هي عليه في ذاتها.
فيكون ما تغير أدى إلى مراجعة الميتافيزيقا هو فهمنا لما أدركناه من
الشيء هو بدوره تقدير ذهني استمد من نظام
تخيلناه لما أدركناه فافترضناه مطابقا للشيء في ذاته.
ليس صحيحا أن كل لغة لها منطقها إلا إذا تصورنا المنطق هو النحو والصرف وليس البنية الأعمق منهما والتي هي واحدة في كل لغات البشر: هي هذه العلاقة بين التقدير الذهني في الرموز والتعيين الفعلي في ما ندركه من عادات الأشياء أي ما خبرناه منها.
ما تغير هو أننا أدركنا أن إدراكنا للأشياء هو بدوره تقدير ذهني من
درجة ثانية تجاوز شكل البنية الرمزية المقصورة على نظام الرموز بصورة عامة إلى
تقدير ذهني في شكل بنية رمزية كذلك لكنها ليست مقصورة على الرموز بصورة عامة.
بل هي قربت بين حصيلة التجربة أي من "عادات" الأشياء أي
المعتاد من تجلياتها في التجربة بلغة ابن تيمية وابن خلدون مع عدم ردها إليها
لأنها متغيرة بتقدم التجربة وتراكمها وقد تنقلب رأسا على عقب.
وقد حاول هيغل في نقده لتأويلات
فلسفة أرسطو وعلاقتها بمنطقه أن يبين
أن أرسطو لم يطبق منطقه في أي من علومه وأن انتقاله من التحليلات الأوائل إلى
التحليلات الثواني طبق تقديرات ذهنية رمزية على تقديرات ذهنية رمزية: فالأولى عامة
وهي قوانين نظام العلاقات بين المعاني عامة والثانية مستمدة من تجربته البايولوجية.
وتلك هي علة ضرورة التثليث في رؤية هيجل: فالحياة لا ترفع الثالث بل
هي تعتبره بنية كلا العنصرين لأن الظاهرة الحية هي في آن أداة ذاتها وغايتها.
ومن ثم دورية التعليل علة ومعلولا في آن وهي في تحول دائم وتغير لا
يتوقف. فيكون المنطق الذي استعمله أرسطو ونقله من التحليلات الأوائل إلى التحليلات الأواخر هو كونه كان عالما في
البايولوجيا وطبيبا أي ما له من خبرة عن "عادات الأشياء" الحية.
وبذلك أنهي خرافة تبعية المنطق الأرسطي للغة اليونانية. وليس صحيحا أن
كل لغة لها منطقها إلا إذا تصورنا المنطق هو النحو والصرف وليس البنية الأعمق
منهما والتي هي واحدة في كل لغات البشر: هي هذه العلاقة بين التقدير الذهني في
الرموز والتعيين الفعلي في ما ندركه من عادات الأشياء أي ما خبرناه منها.
والتقدير الذهني الأول يعود إلى ما بعد قوانين الفكر في صوغ ما ندركه
منها وهي كونية وهي ما يجمع عليه العلماء من تقديرات ذهنية لأفعال الفكر الذي يعرف
الأشياء بالأكسمة التعريفية وهي دائما فرضية وليست قطعية بوصفها عناصر الظاهرة
التي يدرسها وما بينها من علاقات ليتم له الانطلاق في صوغ ما أدركه من "عاداتها".
والتقدير الذهني الثاني ـ وهو ما جعل هيغل يعتبر المنطق هو عين
الميتافيزيقا ـ يعود إلى قوانين الأشياء ـ أي الكلي المتعين ـ وهي المطلوب في
العلم وظنها مطلقة. لكن تاريخية المعرفة العلمية تثبت أنها نسبية إلى ما ندركه
منها بتقدم التجربة والاطلاع على عاداتها بلغة المدرسة النقدية العربية.
ولا يمكن في أي وقت ادعاء حصولنا عليها تامة لكنها في كل مراحل
حصولنا عليها هي ما يجمع عليه علماء عصر الحصول باعتباره المعرفة الكونية في ذلك
الوقت: وبتغيره يتطور المنطق ليلائم بين قوانين الأشياء وقوانين العقل.
إقرأ أيضا: صلاح الدول وفسادها.. استكمال بنيتها المجردة ونوعا "القوامة" السياسية