"مهمة
الكاريكاتير تعرية الحياة بكل معنى الكلمة.. الكاريكاتير ينشر الحياة دائمًا على الحبال وفي الهواء الطلق وفي الشوارع العامة، إنه يقبض على الحياة أينما وجدها لينقلها إلى أسطح الدنيا حيث لا مجال لترميم فجواتها ولا مجال لتستير عوراتها.. هذا الفن يجب أن يكون عدوانيًا على موضوعاته على وجه الخصوص، قد يكون صديقًا حميمًا على من يتعاملون معه لكنه صديق مشاكس.. صديق لا يؤمن جانبه".
هكذا وصف الرسام
الفلسطيني،
ناجي العلي، طبيعة الكاريكاتير، وهو الفكر والفن الذي دفع حياته ثمنا له، بعدما تم إطلاق النار عليه في لندن يوم 22 تموز/ يوليو 1987، ومكث في غيبوبة حتى وفاته في 29 آب/ أغسطس من نفس العام.
الكاريكاتير بالفرنسية "Caricature" هو فن ساخر من فنون الرسم، وصورة تبالغ في إظهار تحريف الملامح الطبيعية أو خصائص ومميزات شخص أو جسم ما، بهدف السخرية أو النقد الاجتماعي أو السياسي أو الفني وغيره، واسمه مشتق من الكلمة الإيطالية "Caricare"، التي تعني "يبالغ، أو يُحَّمل ما لا يطيق".
وقد تعد الفترة الذهبية لفن الكاريكاتير هي فترة الانتشار الواسع للصحف الورقية المطبوعة، إلا أن تطور وسائل النشر وتعدد وسائل الرقابة والقمع، وغياب الدعم، هي من أبرز التحديات والفرص التي تواجه وتدعم الفن والعاملين به.
وفي الذكرى 36 لاستشهاد ناجي العلي، سألنا في "عربي21" عددا من أبرز رسامي الكاريكاتير الملتزمين بالقضايا العربية ودعم القضية الفلسطينية، عن التحديات التي تواجه هذا الفن، وما الذي يمثله ناجي العلي كتجربة وأنموذج بالنسبة لهم.
"إعلان بموته"
ويرى الفنان الفلسطيني، محمد سباعنة، أنه مع سيطرة مواقع التواصل الاجتماعي تراجع التعلّق بالصحف اليومية المطبوعة التي تحتضر، ما انعكس برأيه على المواطن العربي، محذرًا من أن غياب قوانين الملكية الفكرية في العالم العربي، التي من الممكن أن تحافظ على حقوق فناني الكاريكاتير وتضمن استمراريتهم، ستزيد من تردي هذه الأوضاع.
ويؤكد سباعنة لـ"عربي21" على أهمية مجاراة الكاريكاتير العربي والفلسطيني لهذه التغييرات، وفي العالم أمثله كثيره على تطوير هذه اللغة البصرية من خلال تحريكها أو تطويرها من خلال الوسائط الحديثة كالعالم الافتراضي وغيره.
ويضيف أن هناك آخرين أعادوا تقديم الكاريكاتير ليصبح جدارية أو "غرافيتي" في الشارع، لأن جمود الكاريكاتير وبقائه متمسكا بالطرق التقليدية يمكن أن يكون إعلانا لموته.
وعن إدراج النصوص والاعتماد عليها في صور الكاريكاتير، يكشف سباعنة أنه مع محاولة عولمة الكاريكاتير الفلسطيني ليستطيع الجمهور على اختلاف مشاربه ولغاته فهم ما يحصل على الأرض الفلسطينية، مشيرا إلى أن ذلك نموذج مستخدم في العالم، واستثماره فلسطينيا مهم جدًا.
فريد بتجربته
وعن سؤال ما يمثل ناجي العلي له ولفن الكاريكاتير بشكل عام، أكد سباعنة أن العلي هو أنموذج الجميع يحاول الاقتداء به والسير على مدرسته، مستدركا بالقول: "للأسف كل من رسامي الكاريكاتير الفلسطينيين أو حتى العرب، لم ينجوا بذلك بسبب التجاذبات الإقليمية الفلسطينية وحالة الانقسام".
وأضاف: "أعتقد أن ناجي العلي فريد بتجربته، ولا يوجد تجارب يمكن أن نعتبرها استمرارا لتجربته النوعية التي لها مكانة عالمية، فضلا عن أعماله الموجودة في متاحف دولية للكاريكاتير، والعديد من والمدارس والمحاضرين يقدمون محاضرات عنه".
أشكال المضايقات
ويقول سباعنة إن "المضايقات أصبحت جزء من عملنا، وهي جزء من المخاطر التي يتعرض لها كل رسامي الكاريكاتير"، مضيفا أنه أصبح لها عدة أشكال تتمثل، إلى جانب قمع السلطات المحلية أو الإسرائيلية، بجمهور مواقع التواصل والذباب الالكتروني وحالة القطيع الموجودة، إذ يتعرض الرسام للهجوم حتى من جمهوره.
ويكشف أنه تعرض للكثير من المضايقات، وسجن لدى الاحتلال وتعرض للتهديد منه، هذا إلى جانب التهديد من أحزاب فلسطينية أو من السلطة الفلسطينية نفسها، مشيرًا إلى أن كل من يعمل على مناصرة القضية الفلسطينية يتعرض لهذه المضايقات.
ويوضح أن كثيرًا من الصحف والجهات العالمية، التي تدعي احترام حرية التعبير، طردت العديد من الفنانين بسبب آرائهم ومواقفهم من الاحتلال، وأبرز مثال طرد رسام الكاريكاتير، أنطونيو موريرا أنتونيس، من صحيفة نيويورك تايمز على خلفية تصويره لعلاقة نتنياهو وترامب بشكل لاذع.
أمّا رسام الكاريكاتير البرازيلي، كارلوس لطوف، فيرى أن انتشار منصات التواصل الاجتماعي الجديدة ساهمت في نشر الرسوم الكاريكاتورية بشكل أكبر، وعملت على تمريرها إلى جمهور أكبر وأكثر تنوعًا، بينما في الماضي كانت الطريقة الوحيدة التي يمكن للقراء الوصول إلى الرسوم من خلالها هي الصحف المطبوعة.
ويشير لطوف لـ"عربي21" إلى أن تأثير الرسوم الكاريكاتورية ازداد مؤخرا، ويظهر ذلك في محاولات فرض الرقابة، إذ إن أي نظام سياسي لا يريد أن يتمكن القراء من الوصول إلى رسوم كاريكاتورية تنتقده، فذلك يعود على وجه التحديد بسبب تأثيرها على الجمهور.
وعن مدى تأثر الجمهور بالمواضيع التي يتقدمها هو، لاسيما ما يتعلق بمواضيع العالم العربي، يؤكد لطوف أن تأثيرها والتفاعل معها جيد جدًا، لا سيما تلك المتعلقة بالقضية الفلسطينية، قائلا: "تلقيت ردود فعل كبيرة من الفلسطينيين وهجمات من الصهاينة، وهذا في حد ذاته مؤشر جيد للغاية".
اللوبي المؤيد للاحتلال
ويذكر لطوف أن رسام الكاريكاتير يتعرض دائما لحالات فرض الرقابة، ويزيد ذلك من قبل الأنظمة الاستبدادية، إلا أن ذلك يشمل أيضا أوروبا والولايات المتحدة أيضا، مشيرا إلى وجود محاولات للرقابة من قبل اللوبي المؤيد للاحتلال، الذي يتهم دائمًا الرسوم الكاريكاتورية التي تنتقده بأنها معاداة للسامية.
الأم فلسطين
ويُعرّف لطوف نفسه سواء شخصيا أو عبر أوصاف منصات التواصل بأنه صديق للفلسطينيين، ومن هذا المنطلق فهو يرى أن ناجي العلي كان وسيظل دائمًا مصدر إلهام لأي رسام كاريكاتير سياسي في أي جزء من العالم.
ويضيف أن العلي كفنان عبّر عن نضال الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار الصهيوني الجديد، بشكل فريد لم يسبقه إليه أحد إطلاقا، قائلا إنه حتى أبرز الشخصيات في رسوماته "الأم فلسطين" هي مستوحاة من النضال والمعانة الفلسطينية.
ويكشف أن هذه الشخصية هي أكثر شخصياته التي يفضلها، وجاءت فكرتها من سيدة اسمها ظريفة، وهي امرأة فلسطينية مسنة التقى بها في مخيم "ماركا" للاجئين الفلسطينيين في الأردن عام 2009.
زمن السرعة
من جهتها، تقول الفنانة ورسامة الكاريكاتير البحرينية، سارة قائد إن الأعمال اليدوية والرسوم تأثرت بداية مع دخول آلة التصوير أو الكاميرا، وامتد ذلك مع انتشار التطبيقات المختلفة، وما تقدمه من خصائص ومؤثرات.
وتذكر أن هذا لا يعني بأن استخدام تطبيق معين يجعل العمل رقميا بالكامل، فخلف الشاشة يد وإنسان يوجه، و"ما زلت أفضل الرسم يدويا، ولكن تتشارك مع يدي أجهزة، وفوتوشوب وشبكات مختلفة للنشر، قد تتحكم بمقاسات العمل، ودرجة اللون، والوضوح".
وبينت أن هناك تداخل كبير حاصل بين الوسائل والوسائط المستخدمة، وأيضا تزاوج بين الكاريكاتير والفنون أخرى، وهذا يؤثر على طريقة طرح الفكرة وصناعة الخبر نفسه، ومن أبرز نتائج هذه التداخلات المرتبطة بحداثة الوسائل وهو السرعة، إذ بات الأعمال تصنع وتنشر وتهضم سريعا، كما أن الخبر وعكسه يأتي سريعا.
وتشرح أنه بسبب هذه السرعة لا يمكن أحيانا معرفة ما الذي تم وضعه في العمل، أو ما الذي تلقاه الجمهور تحديدا من العمل نفسه.
وعن تعدد منصات نشر الأعمال، التي كانت تقتصر سابقا على الجرائد والمجلات، تشير سارة قائد إلى أن تبدل مكان أو بيئة نشر العمل هو تبديل أيضا لما قد يحمله من تأثير، وإذا كانت الصحف المطبوعة رائحة وملمسا، وحبرا، وكربونا، فالشاشات الحديثة هي نقر وأصبع، وفضاء مفتوح ومعقد من التفاعلات والبرمجة، زهو ما قد يزيل تأثيرات معينة كانت موجودة في الكاريكاتير وتصنع تأثيرات أخرى، سواء بالمعنى الإيجابي أو السلبي.
مزاجية الأنظمة
وتنبه سارة قائد إلى نوع آخر من القمع ضد الكاريكاتير يعد من أكثر التحديات تعقيدا، وهو "مزاجية" الأنظمة، إذ لا يعلم الفنان متى وأين وكيف سيكون مصيره، قائلة: "في دولنا العربية قد تعاقب أحيانا ليس لأنك فعلت، بل لأنك لم تفعل شيئا، أو لم يكن صوت التأييد والطاعة عاليا بشكل كاف".
وكما أن الموقع الجغرافي، بحسب الفنانة البحرينية يصنع تحديات وصعوبات مختلفة، لافتة إلى اختلاف هامش الحريات من دولة عربية إلى أخرى، فإنه يختلف تماما من دولة عربية إلى أخرى أجنبية.
وفي سياق حديثها عن الجوانب السياسية، تؤكد سارة قائد أن إعلان التطبيع لا يمثلها كبحرينية، ولا يمثل شريحة من البحرينيين، ولازالت المبادرات والمواقف من قبل العديد من الجمعيات البحرينية ترفض هذا الإعلان، وتعارض الموقف الرسمي بشكل واضح.
وتشير إلى خلو محتواها بشكل عام من تمثيل آراء رسمية أو حزبية أو مذهبية، وسواء توجهت أي جهة للتطبيع أو غيره، فإنها ستحاول الاستمرار برسم فلسطين وهي أقرب للحرية.
مسرح مفتوح
تمثل أعمال ناجي العالي لسارة ما أسمته بـ "المسرح المفتوح"، قائلة إنها تعرفت عليها عندما كنت في المرحلة المتوسطة (الإعدادي)، ومن خلاله تعرفت على أشياء عديدة كفلسطين والاحتلال والأنظمة.
وتقول: "كررت مشاهدة رسمة رشيدة مهران، وأفكر مرة أخرى في مجال الكاريكاتير والخطوط الحمراء، وأتمنى مع ذكرى كل اغتيال بأن تتحقق العدالة لناجي العلي وأكرم رسلان وغيرهم وأن تكون فلسطين وباقي الدول العربية أقرب للعدالة".