ظل وجود إسرائيل على مدى سبعين ونيف
سنة، في خدمة الأنظمة الطاغوتية
العربية، خاصة تلك التي تمارس الديمقراطية
بالمفهوم المعمري القذافي، فلفرعون ليبيا الراحل مقولات ظلت قيد التداول سنين
عددا، من بينها ان الديمقراطية عربية المنشأ، وأن أصلها ديمو ـ كراسي، وهكذا ومن
حيث لا يقصد، أشار الرجل إلى أن الفهم العربي للديمقراطية هو "ديمو" أي
ديمومة الـ "كراسي"، بمعنى أن الزعيم الذي يصل إلى كرسي الرئاسة عليه أن
يجعل جلوسه عليه مستداما.
منذ مولد إسرائيل، ما من رئيس عربي إلا
وزعم أن القضاء عليها جزئيا أو كليا على رأس أولوياته، وما من نظام رفع شعارات محو
إسرائيل وتاجر بقضية
فلسطين، والتي في جوهرها أن الصهاينة القادمين من أوروبا
طردوا وقتلوا وشردوا الفلسطينيين واستولوا على أراضيهم، ما من نظام فعل ذلك كما
نظام آل الأسد في سوريا، فمؤسس النظام حافظ الأسد كان وزير الدفاع والقائد العام للجيش
السوري عام 1967، وما إن شنت إسرائيل هجوما على الجبهة المصرية في حزيران / يونيو
من ذلك العام، حتى كان الجيش السوري في الجولان "فص ملح وداب"، وصارت
الهضبة غنيمة باردة في يد إسرائيل.
ثم ومنذ عام 1971 وحتى وفاته في عام
2000 ظل الرجل يحظى بلقب "بطل الصمود والتصدي"، دون أن يعرف له أحد فيم
وكيف صمد، ولمن وكيف تصدى، وهو من عمل بدأب على شق الصف الفلسطيني، وإلى يوم الناس
هذا هناك على الأرض السورية معسكر لفلول قوات أبو صالح (نمر صالح) والعقيدين أبو
موسى وأبو خالد العملة وأبو فاخر عدلي الخطيب الذين أخرجتهم سوريا عن حركة "فتح".
وأدى ذلك الانشقاق إلى نشوب عدة معارك في أرض لبنان وتحديدا في البقاع وطرابلس،
بينهم وبين "فتح" "الأصل". وانتقل الصراع فيما بعد إلى
المخيمات ما بين 1985 و1988.
وديكتاتور ليبيا الراحل معمر القذافي
كان أيضا من كبار المتاجرين بالقضية الفلسطينية والمنادين بمحو إسرائيل، وانتهى به
الأمر مناديا بقيام دولة إسراطين، التي هي كوكتيل إسرائيلي ـ فلسطيني، ثم ولتأكيد
مناصرته لحق الفلسطينيين في دولة مستقلة عاصمتها القدس دعا العرب إلى الحج إلى بيت
المقدس بدلا من الكعبة المشرفة.
وديكتاتور السودان الراحل جعفر نميري،
دخل في منافسة مع القذافي حول من هو الأولى بخلافة الرئيس المصري الراحل جمال عبد
الناصر لقيادة العرب لتحرير فلسطين، وفاز بالكثير من التقريظ لأنه ذهب إلى الأردن
بينما كانت معارك أيلول الأسود (1970) على أشدها، وأخرج قياديين فلسطينيين من
بينهم ياسر عرفات سالمين وطار بهم إلى القاهرة، وبعدها بسنوات قلائل كان نميري قد أبرم
صفقة مع إسرائيل، قام بمقتضاها بالترتيب لنقل عشرات الآلاف من يهود إثيوبيا
(الفلاشا) إلى إسرائيل.
وحتى على المستوى الشعبي نلمس الاتجار
الساذج بالقضية الفلسطينية بدغدغة العواطف، وكيل السباب لإسرائيل، وياما اهتزت
المنابر بالدعاء على أمريكا وصنيعتها إسرائيل: "اللهم اجعل أموالهم غنيمة لنا
واجعل نساءهم سبيا لنا"، وهذا دعاء ينقصه القطران، فلكي تستمتع بالغنائم
والسبي، عليك أولا أن تهزم البلدين، أو تجعلهما تابعين ذليلين لك، والشاهد هو أن
الولايات المتحدة وإسرائيل، صارتا مثل إبليس الذي يلقي عليه البعض تبعة أخطائهم
وخطاياهم المتكررة، ولا يتساءل من يزعمون أنهم ضحايا إبليس: اشمعنى أنا
بالذات؟ وتجد شخصا قبضوا عليه وسجنوه عشر
مرات لتعاطي المخدرات، يكون دفاعه في المرة الحادية عشرة أمام المحكمة أن إبليس هو
الذي أوعز إليه بالتعاطي، ويريد صاحبنا من المحكمة أن تقضي بأن متابعة إبليس
والوقوع في حبائله ليست جريمة، باعتبار أن إبليس هو المتهم الأول..
وحتى فيما تحرر جزئيا من فلسطين ظلت
السلطة الوطنية تعك وتخبص وتلخبط وتخربط وتخرَّف وتجدف، ثم تجعل من إسرائيل شماعة
تعلق عليها أخطاءها! هل إسرائيل هي التي أنشأت 13 جهازاً أمنياً فلسطينياً؟ هل
إسرائيل هي التي اختلست مئات الملايين؟ هل إسرائيل هي التي وضعت شؤون الحكم في
الضفة بأيدي أشخاص معدودين من فرط حبها لهم؟
لإسرائيل ملف مخزٍ في التعامل مع الفلسطينيين واللبنانيين، ومثل الولايات المتحدة فإنها تطبق معايير التعامل الإنساني المتحضر فقط مع مواطنيها، وتمارس العنف المفرط الأهوج بحق أي شخص أو مجموعة من دول جوارها ترى أنه يهدد أمنها، حتى لو لم يكن ذلك التهديد حقيقيا (وحقيقة لم يعد هناك اليوم تهديد وجودي لإسرائيل).
ثم انظر إلى احتفاء الإعلام العربي
بالمظاهرات التي شهدتها إسرائيل مؤخرا رفضا لتعديل قانون السلطة القضائية، وقبلها
بمقاضاة رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو بتهمة تلقي رشى من رجل
أعمال، وقبلها بسجن أرييه درعي، مؤسس حزب شاس الديني، ووزير الداخلية الأسبق
للداخلية، لثلاث سنوات بتهمة الفساد، ومن بعد ذلك محاكمة إيهود أولمرت الذي تولى
رئاسة الحكومة الإسرائيلية في الفترة من 2006 إلى 2009. ثم صدور حكم بسجنه لست
سنوات لقبوله رشى متعلقة بفضيحة عقارية ضخمة في القدس المحتلة، وهكذا يمدح الاعلام
العربي إسرائيل بما يشبه الذم..
تعرية إسرائيل وفضح سجلها البشع يتطلب
من الإعلام العربي التركيز على جرائم الدولة الإسرائيلية، وليس الأفراد
الإسرائيليين مهما علا شأنهم في مدارج السلطة التنفيذية، فلإسرائيل ملف مخزٍ في
التعامل مع الفلسطينيين واللبنانيين، ومثل الولايات المتحدة فإنها تطبق معايير
التعامل الإنساني المتحضر فقط مع مواطنيها، وتمارس العنف المفرط الأهوج بحق أي شخص
أو مجموعة من دول جوارها ترى أنه يهدد أمنها، حتى لو لم يكن ذلك التهديد حقيقيا
(وحقيقة لم يعد هناك اليوم تهديد وجودي لإسرائيل).
ما هو حادث هو أن قضية فلسطين، التي
بسببها يُفترض أن العرب يعادون إسرائيل، لم تعد قضية عربية (من الناحية الرسمية)،
بل قضية فلسطينية "شخصية"، أي تهم الفلسطينيين وحدهم، بعد أن نفضت معظم
الدول العربية أيديها منها، ولكن ما زالت قلوب المواطنين العرب على فلسطين، ولكن
نصرة الحق الفلسطيني تبدأ بنصرة الحق "الوطني"، بمعنى أن على مواطني كل
بلد عربي تنظيف بلدهم، وصولا إلى أنظمة يكون تداول السلطة فيها سلميا، ومتى ما تم
ذلك تصبح نصرة القضية الفلسطينية ممكنة قولا وفعلا..
راهن الحال، حيث ما زال العداء
لإسرائيل ذريعة لاستدامة الحكم بالحديد والنار، وتبريرا للفشل في إدارة الاقتصاد،
يستدعي قول نزار قباني:
الحب في الأرض بعضٌ من تخيلنا
لو لم نجده عليها لاخترعناه
ضع إسرائيل مكان "الحب"،
لأنها الشماعة التي يعلق بها حكام عرب كُثر خطاياهم.