الإباضية أحد المذاهب الإسلامية المعروفة، والذي يتبعه عدد من
المسلمين في عدد من البلدان الإسلامية، وأشهرها سلطنة عمان، حيث يمثل معتنقوه
الأغلبية فيها. ويوجد معتنقون للمذهب الإباضي في مناطق أخرى، وهي: جبل نقوسة زرارة
في ليبيا، وفي وادي ميزاب في الجزائر، وفي جربة في تونس، وفي بعض المناطق في شمال
إفريقيا وزنجبار.
وقد كتب كثيرون عن الإباضية كفرقة من الفرق الإسلامية، ومذهب
فقهي،
لكن الكثيرين نسبهم للخوارج، وجعلهم فرقة أو فصيلا منها، وهذه النسبة مثار جدل منذ
سنوات طويلة، وزاد النقاش حولها في العصر الحديث، وقد توارث الباحثون عن كلام
القدماء من علماء الملل كأبي الحسن الأشعري، والبغدادي، وابن حزم، ولذا توارثها
المعاصرون عنهم، دون كثير من التدقيق، أو مراجعة الأفكار وعرضها بالفعل على مذهب
الخوارج، وهل هو تطابق لبعض الآراء، أم هو موافقة تامة له، وهو ما يمكن أن يحدث أن
يتفق رأي فقيه أو مدرسة علمية في مسألة أو مسائل مع موقف للمعتزلة، أو الخوارج، أو
الشيعة، ولا يعني ذلك انتماء صاحب الموقف للمذهب، بل ساقته الأدلة والتأمل لرأي
علمي، وليس معنى ذلك أن ينسب إلى أصحاب القول.
ومؤخرا كتب الدكتور علي الصلابي كتابا حافلا، فيما يقرب من ألف صفحة،
يحمل عنوان المقال: (الإباضية.. مدرسة إسلامية بعيدة عن الخوارج)، اهتم بهذه
المسألة من حيث الإثبات أو النفي، وانتهى به البحث إلى اعتبار الإباضية مدرسة
إسلامية تبتعد عن الخوارج، وذلك من خلال بيان مواقفهم العقدية والسياسية والفقهية،
والنقاش حول هذه المسائل، والكتاب حافل عن الإباضية، وبخاصة من عالم ليس من
الإباضيين، ولا محسوبا عليهم، وهو ما يعطي
الكتاب مساحة من عدم التحيز، أو الاتهام
به، ومما يجدر الإشارة إليه، أن العلامة المفكر محمد سليم العوا سبق الصلابي في
موقفه من الإباضية، في كتابه الماتع والمهم: المدارس الفكرية الإسلامية. وسوف أعرض
لأهم ما طرحه الصلابي في كتابه عرضا موجزا، ومناقشة الفكرة الأساسية للكتاب.
نسبة الإباضية
نشأ المذهب الإباضي على يد مؤسسه الإمام جابر بن زيد، وهو من تلامذة
الصحابة الكبار، وقد ولد في عمان، ثم رحل إلى البصرة وأقام بها، وقضى أغلب حياته
بها، حتى توفي بها سنة 93هـ. وتنسب المدرسة الإباضية إلى عبد الله بن إباض ولم
تنسب إلى جابر بن زيد، لأن ابن إباض هو الذي جهر بمواقف سياسية واجه بها خلفاء بني
أمية، وكان الواجهة العلنية للجماعة.
تعد الإباضية من المدارس الإسلامية المعتدلة والمتسامحة مع مخالفيهم،
ويغضبون ممن يعتبرهم فرقة من فرق الخوارج، وسبب إلصاق تهمة الخوارج بالإباضية هي
سياسة الدولة الأموية في التشنيع على الإباضية الرافضة للتوريث والاستبداد، وحكم
الجور، حتى ينفروا الناس من أصحاب المذهب الإباضي، الذين وجدوا منه الصلابة في مواقفهم
ضد الدولة الأموية.
مصادر نسبة الإباضية للخوارج
والمصادر التي نسبت الإباضية للخوارج، هي كتب الفرق التي تحدثت عن
الخوارج، وعدت الإباضية من فرقها، وقد فعل ذلك: أبو الحسن الأشعري في كتابه:
(مقالات الإسلاميين)، وعبد القاهر البغدادي في كتابه (الفرق بين الفرق)، وابن حزم
في كتابه (الفصل في الملل والنحل)، والشهرستاني في كتابه (الملل والنحل)، فقد
نسبوهم للخوارج، وذهبوا إلى أنهم يتفقون فيها معهم، ولكن ما ناقشه الصلابي وقبله
آخرون من دارسي الإباضية، أن هؤلاء لم يرجعوا إلى مصادر الإباضية المعتمدة، ولا
إلى علمائهم الثقات، فوقعوا في خطأ منهجي، كلف الحقيقة التاريخية الشيء الكثير،
وأصبحت هذه الكتب مرجعا لمن جاء بعدهم حتى العصر الحاضر، فوقع الكثير من الباحثين
فيما وقع فيه السابقون، سواء في دوائر البحث الإسلامية، أو الاستشراقية، والتي
نسجت على نفس المنوال.
وقد نسبت عجائب وعقائد للإباضية، وآراء وأقوال، في كتب الفرق، ومن
أسماء لأشخاص لا علاقة لهم بالمذهب الإباضي ولا مرجعيته، وهو ما جعل هذه الأقوال
تتناقل من باحث لآخر، دون تدقيق صحيح، أو رجوع للمصادر الحقيقة دون وسيط.
رفض الإباضية تبعيتهم للخوارج وتصديهم لهم
ما يؤثر عن الإباضية أنهم يرفضون تبعيتهم للخوارج، بل يصيبهم ذلك
بالغضب الشديد، وقد رأوا أنفهسم مدرسة فكرية مستقلة لها أصولها وفكرها السياسي،
وكذلك مذهبها الفقهي، الذي لا يتوافق مع أفكار وسلوكيات الخوارج من قريب أو بعيد.
بل إن الإباضية تصدوا في مراحل مبكرة للخوارج، ودحض أفكارهم،
ونقاشها، بداية من إمام الإباضية المؤسس وهو الإمام أبي الشعثاء جابر بن زيد رحمه
الله، الذي كان رائد هذه المدرسة وإمامها، فقد كان يحتج على أولئك الغلاة، فقد ذكر
الشماخي في سيره عن ضمام أنه قال: كان جابر يأتي الخوارج، فيقول لهم: أليس قد حرم
الله دماء المسلمين بدين؟ فيقولون: نعم، وحرم البراءة منهم بدين؟ فيقولون: نعم،
فيقول: أوليس قد أحل الله دماء أهل الحرب بدين بعد تحريمها بدين؟ فيقولون: بلى،
فيقول: وحرم الله ولايتهم بدين بعد الأمر بدين؟ فيقولون: نعم، فيقول: هل أحل لما
بعد هذا بدين؟ فيسكتون.
وكذلك تصدى ابن إباض ـ الذي إليه ينسبهم المذهب ـ للمتطرفين من
الخوارج، ورد على نافع بن الأزرق والصفرية، وأصبح المناظر باسم أهل الدعوة ضد
مناوئيهم من الخوارج وغيرهم من الفرق، كما فعل مع السلطة الأموية الحاكمة كذلك
ممثلة في الخليفة عبد الملك بن مروان، حيث ذكرت المصادر رسائله، أو ما تسميه مصادر
الإباضية: نصائحه إلى عبد الملك بن مروان.
السرية وضبابية الموقف البحثي من الإباضية
ولكن بعد اختفاء ابن إباض أقلع الإباضية عن المناقشة العلنية والجدل
الكلامي مع مناوئيهم ومخالفيهم، ولجؤوا إلى السرية المطلقة في تنظيم دعوتهم، وكان
لجابر بن زيد دور تنظيمي كبير في هذه المرحلة، التي تعرف في التاريخ الإباضي بطور
الكتمان.
لولا الجهود الحديثة للإباضية في نشر كتبهم، بل في الاشتباك والتلاقي مع المذاهب الإسلامية الأخرى، ما انتشر وعرف الفقه الإباضي، وهو جهد مشكور يقوم به الإفتاء العماني، وبخاصة شخصية عالمية معتدلة كالشيخ أحمد الخليلي مفتي عمان
ولعل هذا ما يفسر سبب الأخطاء التي ترد في كتب الفرق في التصور عن
الإباضية، فغالب الفرق أو المذاهب التي تلجأ للسرية في مرحلة من مراحل تكوينها
وشهرتها، يلف الغموض بعض أفكارها، وربما نسب إليها ما ليس فيها، أو منها، وهو أمر
طبيعي، فالعمل السري له أمراضه وأعراضه، ومنها: عدم وضوح صورة القائم به، والتعامل
بهاجس الخوف، وهاجس إعلان الأفكار مخافة بطش السلطة، وبخاصة من كانوا مثل الإباضية
في موقفهم السياسي.
التقارب الفقهي بين الإباضية والمذاهب
ما فات الدكتور الصلابي هنا، هو النظر في كتب المذهب الإباضي الفقهي
الأصلية، أو المراجع المعتمدة، دون وسيط، فكما نقل عن المدافعين عن الإباضية أنهم
انتقدوا المتكلمين عن الإباضية بأنهم نقلوا عن طريق وسطاء، دون الرجوع لكتبهم، فقد
وقع كذلك الصلابي في ذلك، فلو أنه رجع لكتب الأصول عندهم، وكتب الفروع الفقهية،
وهي متوفرة، لكان ذلك أوقع وأنسب، وقد نشر في القرن العشرين أهم مصدرين للفقه
الإباضي، مثل: شرح النيل لابن أطفيش، وأكبر موسوعة فقهية للإباضية، والتي كتبها
محمد بن إبراهيم الكندي، بعنوان: بيان الشرع، في واحد وسبعين مجلدا، مجموع فيه جل
ما يتعلق بالإباضية معتقدا وفقها.
ولو رجع كذلك لكتب القواعد الفقهية والأصول عند الإباضية، مثل: (معجم
القواعد الفقهية الإباضية)، والذي صدر في مجلدين عن وزارة الأوقاف العمانية، أو
كتاب (القواعد الفقهية الإباضية.. دراسة مقارنة بالمذاهب الإسلامية) في ست ملجدات،
كتبها الدكتور محمود هرموش، والذي قارن فيه القواعد الفقهية الإباضية بالقواعد في
المذاهب: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، فمثل هذه الكتب هي
التي تعبر عن المذهب أصوليا وفقهيا.
بل إن كتابا معتمدا في أصول الفقه عند الإباضية، وهو كتاب: (طلعة
الشمس شرح شمس الأصول) للسالمي، ترى فيه مباحث كاملة متأثرة تماما بمدارس الفقه
المعروفة، وبخاصة الفقه الحنفي، فترى باب: الحقوق، منقول تماما من كتب أصول الفقه
الحنفي، بل ويتبناها غالبا. تناول حق الله، كما هو منصوص عليه عند الأحناف، وقد
نقل كل تقسيم الأحناف بأمثلته، ولكن باختصار.
الإباضية في القديم والحديث
وإذا كان اللوم يقع على باحثين تناولوا الإباضية من غير مصادرهم، أو
فيما شاع عنهم في كتب الفرق والملل والنحل، فإن تقصيرا كبيرا أيضا يقع على
الإباضية، فإن كتبهم التي تعبر عن أفكارهم ومذهبهم الفقهي، ظلت إلى عهد قريب عزيزة
الوجود، وصعبة المنال، فأنى لدارس أو باحث أن يصل إليها؟ واللوم الذي ألقي علي بعض
العلماء في التناول، مثل: الشيخ محمد أبي زهرة، فالرجل تناولهم في صفحة واحدة من
كتابه: (تاريخ المذاهب الإسلامية)، ومع ذلك كان منصفا جدا، مقارنة بما لديه من
مصادر ومراجع متوفرة آنذاك، ولم يكن في سياق التفصيل عن المذهب.
وعدم كتابة أبي زهرة كتابا عن الإباضية كبقية المذاهب، لم يكن عن جهل
منه بالمذهب، بل عن ندرة مراجعه، وهو ما نلاحظه كذلك في كتاب أبي زهرة عن الزيدية،
ونحن نتحدث الآن في القرن الحادي والعشرين، وقد توفرت المصادر، سواء مطبوعة أو على
البي دي إف، بينما أبو زهرة كان يكتب في النصف الأول من القرن العشرين، ولذا رأينا
كتاباته عن المذاهب التي توافرت له مصادرها، كانت مستفيضة وحافلة، ومستقصية إلى حد
كبير.
ولولا الجهود الحديثة للإباضية في نشر كتبهم، بل في الاشتباك
والتلاقي مع المذاهب الإسلامية الأخرى، ما انتشر وعرف الفقه الإباضي، وهو جهد
مشكور يقوم به الإفتاء العماني، وبخاصة شخصية عالمية معتدلة كالشيخ أحمد الخليلي
مفتي عمان، وما تقوم به وزارة الأوقاف العمانية، سواء على مستوى خدمة الفقه
الإباضي، أو على مستوى خدمة الفقه عموما، بل وتطويره وتجديده، سواء من خلال ندوات
تطوير الفقه التي تقيمها، أو من خلال مجلة (التفاهم) والتي كانت من قبل تصدر باسم:
(التسامح).
Essamt74@hotmail.com