لبناني يقف على السياج الفاصل بين لبنان وفلسطين
المحتلة، ينظر إلى إصبعه وهو ينتقل في لحظة من لبنان إلى فلسطين بمجرد إدخاله من
هذا السياج. المشهد حقيقي، منشور على تطبيق لمقاطع الفيديو القصيرة، أراد الشابّ
اللبناني إزعاج العدوّ الحارس لحدود أرضنا المحتلّة، بالضرب على المجسات المنصوبة على
السياج، لكن المشهد يُظهر في الوقت نفسه، مناهضة
العنصرية للعقل قبل كلّ شيء، وهي
وإن كانت لا تخلو من عوامل تغذية اجتماعية حاضرة في المجتمعات البشرية، على الأرجح
داعيها الشحّ المجبولة به النفوس البشرية، فإنّ الدولة الحديثة خلقت أسبابا أخرى
للعنصرية، عزّزتها بأساطير متخيّلة، أطبقت بها على مساحات جغرافية مفتعلة، لم تكن
أبدا بنى قبلية في التاريخ، وإلا فما تلك القدرة السحرية، لخطّ وهميّ على أن يمايز
مجموعة بشرية واحدة إلى شعبين منفصلين بالكامل من كلّ وجه؟
هذه مجرد صورة، وإلا فليست القضية لبنان وفلسطين. هذه
الصورة لا تلغي ما بات يترتب من مصالح اقتصادية على أساس الجنسية، على أنّ هذه
الجنسية بدورها لم تلغ نزعات التمييز العنصري بين حملة الجنسية الواحدة، التي ظلّت
موجودة إلى اليوم، داخل المجال الجغرافي في كلّ دولة، وفي مجالات أوسع يفترض أنها
مسقوفة بفضاء ثقافيّ واحد، فالعنصرية تجاه الملوّنين حاضرة باستمرار في الولايات
المتحدة، ويمكن الحديث، وبالرغم مما صارت إليه
أوروبا بعد تاريخ طويل من الحروب
التي لم تكن بريئة من الدوافع العنصرية (يكفي التذكير بالنازية والفاشية ومعاداة
السامية)، عن نزعات عنصرية ما تزال ظاهرة، بين شمال وجنوب، ومتحدثي لغات أخرى،
وثقافات أخرى، داخل الدولة الواحدة، لا تجاه المهاجرين واللاجئين من
العرب
والمسلمين فحسب!
ثمّة حوادث متعدّدة تكثّفت في الآونة الأخيرة، ذات صلة
بالمسلمين أكثر، كمقتل الشاب جزائري الأصل نائل في فرنسا وما تبع ذلك من احتجاجات،
وحرق المصحف في السويد، وأخيرا الحملة المسعورة تجاه كلّ ما هو عربيّ في
تركيا،
وهي حوادث مهما تباينت في سياقاتها، تغري لحظتها الزمنية الواحدة بمعالجات خاطئة،
من قبيل تحميل
اللاجئين أو المجنّسين الجدد مسؤولية ما يجري لهم، أو جزءا من المسؤولية،
واتهامهم بالعجز، أو عدم الرغبة في الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة، والتأثير على
اقتصاديات "السكان الأصليين" للدول التي هاجروا إليها أو أخذوا جنسيّتها،
مما يعني تبريرا ضمنيّا للحملات العنصرية ضدّ المهاجرين وحملة الجنسية الجدد.
دون أيّ إنكار للموروثات الاجتماعية الثقيلة التي تحفظ
وعيا عنصريّا مشوّها، تظهره تعقيدات اقتصادية وتراكمات سياسية في هذا البلد أو ذاك،
إذ ثمّة فرق بين التفسير الشامل وبين التبرير، فإنّه ينبغي أخذ الأمور في سياقها
المباشر، والذي أوّلُه أنّ اللجوء الجماعي من بلد ما لا ينجم إلا عن ظروف سياسية
وأمنية قاهرة، كهجرة العراقيين الناجمة عن حصار أمريكي طويل منهك، ثمّ عن حرب
استندت إلى أسباب زائفة احتلت بها أمريكا العراق، وقل الأمر نفسه عن سياسات فرنسا
تجاه أفريقيا، بما في ذلك شمالها العربي، لا بالعودة إلى الاستعمار التاريخي فحسب،
بل بسياسات الإفقار والهيمنة على الموارد المستمرّة إلى اليوم، وغير منفصل عن ذلك
سياسات دعم أنظمة الحكم الاستبدادي، خشية من أن تحدّ الحرّيات السياسية في بلادنا
من هيمنة الغرب علينا، أو من أن تفضي إلى موقف مختلف تجاه المشروع الغربي الأكثر
بشاعة في بلادنا، أي "إسرائيل".
بقي اللجوء الفلسطيني الأكثر شهرة في المجال العربي
طوال العقود الماضية. تعرّض هذا اللجوء لتشويه ممنهج من السياسات الرسمية العربية
منذ النكبة، لتبرئة أنظمة ذلك الوقت من المسؤولية عن الهزيمة، وقد استمرّت الأنظمة
التالية في توارثه، للتنصّل من أي مسؤولية تجاه الفلسطينيين، ولم يكن أحد بحاجة لحروب
جديدة في بلادنا العربية لندرك أن النزوح عن مواقع الحروب من طبائع البشر أصلاً.
وعلى أيّة حال، فإنّ اللجوء الفلسطيني، وإن كان نتيجة
مباشرة للاستعمار الصهيوني، فإنّه كذلك نتيجة لسياسات بريطانيا، وسياسات الأنظمة
العربية في حينه، المسؤولة عن الهزيمة، مسؤولية تضمّنت في بعض جوانبها تبعية مطلقة
لبريطانيا، وتسويات مع الحركة الصهيونية، وصراعات ضيقة (بين الأردن ومصر وقتها)
دفع الفلسطينيون ثمنها، ثمّ عادت السياسات الغربية لتسهيل تفريغ لبنان من لاجئيه
الفلسطينيين إلى أوروبا وكندا والولايات المتحدة، في إبادة متدرّجة لحق العودة.
فهل يمكن مثلاً، وهذا اللجوء يمثّل جزءا من الحضور العربي في الغرب، ألا نحمّل ذلك
الغرب مسؤوليته عن وجود لاجئين أو مهاجرين لا يرغب بهم لديه؟
لكن هل الغرب فعلاً لا يرغب في وجود لاجئين لديه أو
مهاجرين إليه؟! أليست حالة الهجرة من البلاد التي يتحمّل الغرب مسؤولية كاملة أو
جزئية عن صراعاتها تندرج في سياسات الغسيل الغربي لجرائمه، وفي الإطار نفسه يمكن
القول إن أوروبا برمّتها منخرطة في استيعاب نتائج السياسات الأمريكية، من موقع
تبعيتها لأمريكا، وتنظيف الجرائم الصهيونية، فضلاً عن التداعيات البدهية للسياسات
الاستعمارية الغربية القديمة والتي لم تزل في بعضها تأخذ أشكالاً اقتصادية مدمّرة
كما في أفريقيا؟! وقبل ذلك وبعده، أليست اقتصاديات هذه الدول التي تعاني شيخوخة
اجتماعية جائعة إلى الأيدي العاملة؟! ثمّ هل تخلو سياسات التجنيس من حسابات
اقتصادية دقيقة؟! وعليه فلجوء العرب والمسلمين إلى هذه البلاد منفعة للدول
الغربية، ونتيجة لسياسات الدول الغربية، أكثر حتّى مما هي منفعة للمهاجرين.
بالعودة إلى تركيا، تصير محاولة تفهّم حوادث التوحّش
العنصري أكثر زيفا، ليس فقط لأنّ ثمّة ثقافة مشتركة يفترض أن تجمع العرب إلى
الأتراك، وأنّ الخط العربي الذي يحاربه العنصريون الأتراك اليوم تعلّمه الأتراك من
العرب وكتبوا به قرونا طويلة، قبل أن يستبدلوا به خطّهم اللاتيني الراهن ممن هزموا
إمبراطوريتهم وقضوا عليها، في مفارقة ساخرة، ولكن أيضا لأنّ تركيا انخرطت في
الصراعات العربية المحيطة بها، ولأنّ الرئيس التركي الحالي تبنّى لوقت من الزمن؛ سياسات
دعائية تظهره زعيما للأمّة لا رئيسا لتركيا فقط، ثمّ تبنّى سياسات تجنيس لم يكن
المهاجرون العرب والمسلمون إلى تركيا قد فرضوها عليه، ثمّ هو الذي تبنّى سياسات
اقتصادية (يبدو أنّه في طور التراجع عنها حاليّا) يقال إنّها من أسباب التضخّم
الحالي، هذا إلى جانب ما يقال عن مؤامرات اقتصادية فرضت عليه لإرجاع تركيا بالكامل
إلى الحظيرة الغربية، مع ضرورة التيقّظ لما قد يكون سياسات مقصودة، ناجمة عن
تحالفات الحكم الجاري بين المحافظين ومجموعات قومية، ولإشغال الناس لتمرير سياسات
اقتصادية جديدة لا تحظى بالشعبية في مراحلها الأولى.
وعلى أية حال فالاستثمار في انقسامات المجتمع الأهلي سياسة
حاضرة دائما في الدول التائهة أو غير المستقرّة، أو التي لم تنجز مشروعها أو لا
مشروع لديها أصلاً!
لكن قبل ذلك وبعده، لماذا نتعامل مع التاريخ وكأنّه
ماض انتهى وإلى الأبد؟ وكأنّنا لسنا ضحايا الهزيمة العثمانية، وكأنّ الوعي التركي
اليوم ليس استمرارا لسياسات التتريك العنصري، واتهام العرب بالخيانة؛ في أكذوبة
كبرى تناست سياسات التتريك واختزلت العرب في حركة تمرّد صغيرة. ويبقى القول إن
تركيا الراهنة هي أصلاً، مركّب اجتماعي ناجم عن الإمبراطورية العثمانية، بمعنى أنّ
شعبها في جذوره متعدّد الأعراق.
يقال إنّ العرب والمسلمين لا يفعلون ما يكفي للاندماج في
المجتمعات التي هاجروا إليه. ولا تدري بالضبط ما الاندماج المطلوب، لكن يمكن أن
تفهم أحيانا، أنّ المطلوب هو التسليم النهائي للمفاهيم الغربية الثقافية السائلة
التي لا تتوقف عند حدّ، وتتسم بتناقضات مفاهيمية وتنفيذية هائلة، والتسليم بها
يتناقض مع الكثير من الدعاوى الغربية، ويصادر ممن يفترض أنّ لهم حقوقا متساوية وفق
قوانين تلك الدول على أساس الجنسية أن تكون لهم مساهمتهم الجادّة في الحوار
الثقافي والدفاع عن قيمهم وتحصين مجموعاتهم، دون الغفلة مرّة أخرى عن السياقات
الأوسع التي أوجدت مهاجرين عربا ومسلمين في البلاد الغربية، هذا بالإضافة لمثاليات
متوهّمة حول ما ينبغي على المهاجرين فعله بخصوص حكاية الاندماج هذه! كأنّ دولاً
غربية لا تنظّم نفسها على أساس التعدّد اللغوي، وكأنّ تركيا نفسها تخلو من تعدّدية
لغوية، كاللغة الكردية! تركيا التي ما زال فيها من يقول إن الموصل وحلب حقّ لها
سلبته منها التسويات الاستعمارية، ونحن لا نظنّ أنّ أهل الموصل وحلب يتكلمون
التركية أصلاً!
أخيرا، فلنتخيل هذه الصورة الفجّة. لو حصلت تسوية
نهائية مع "إسرائيل"، وظلّت هذه الأخيرة جائعة للأيدي العاملة
الفلسطينية، هل سنجد في ذلك الزمن المتخيّل، من يحمّل العمال الفلسطينيين
المسؤولية عن حملات العنصرية ضدّهم في ذلك الزمن الإسرائيلي (المتخيّل مرّة أخرى)؟!
twitter.com/sariorabi