تواصلت المحاكمات في
تونس بحق نشطاء وصحفيين بتهمة "ارتكاب فعل موحش ضد رئيس الجمهورية"، في الوقت الذي تطالب فيه منظمات حقوق الإنسان بإلغاء القانون.
والثلاثاء، اعتقلت السلطات التونسية الصحفي البارز زياد الهاني بسبب تفسيره فصلا قانونيا بشأن الجرائم في حق رئيس الجمهورية، قبل الإفراج عنه في وقت لاحق، دون غلق الملف.
وفي ساعة متأخرة من ليل الثلاثاء الأربعاء، أذنت النيابة العامة بالمحكمة الابتدائية في تونس بإيقاف الصحفي زياد الهاني إثر الاستماع له من قبل الفرقة الخامسة لمكافحة جرائم تكنولوجيا المعلومات والاتصال للحرس الوطني بالعوينة، إحدى ضواحي العاصمة تونس.
وجرى التحقيق مع الهاني على خلفية التعليق والتفسير الذي قدمه على إذاعة "آي إف إم" الخاصة في أركان جريمة في حق رئيس الجمهورية بحسب الفصل 67 من المجلة الجزائية.
ووردت تهمة ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الجمهورية في الفصل 67 من المجلة الجزائية والتي صدرت في عام 1913 ويندرج ضمن الاعتداء على النظام العام، وهو قانون كان يهدف لحماية العائلة الحاكمة في زمن البايات (كلمة تركية الأصل وتعني السيد أو الأمير)، وأبقى الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة عليه بعد تنقيح كلمة باي لتتحول إلى رئيس.
وفي تفسيره، قال زياد الهاني إن المقصود بالأمر الموحش ضد رئيس الدولة هو الاعتداء المادي واللفظي ضد الرئيس، منتقدا اعتماد هذا الفصل من أجل اعتقال المعارضين والمناوئين لسياسات قيس سعيّد.
وينص الدستور التونسي على أن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ما يعني أن انتقاده أو المس بشخصه يندرج ضمن ما يعاقب عليه الفصل 67، رغم أنه لم يتم تحديد الفعل الموحش في هذا الفصل، ما يجعل النص قابلا لأي تأويل و"أي انتقاد قد يعتبر أمرا موحشا".
حالات أخرى
وقبل زياد الهاني، حُرم النائب التونسي ياسين العياري، رئيس "حركة أمل وعمل" الممثلة في البرلمان المنحل، من حضور جنازة والدته المتوفية في 15 آذار/ مارس عام 2022 إذ يقيم في فرنسا، حتى لا يزج به في السجن بعدما قضت محكمة عسكرية غيابيا في 18 شباط/ فبراير من العام ذاته بسجنه 10 أشهر، لإدانته بتهمة القيام بأمر موحش (إهانة) ضد رئيس الجمهورية، ونسبة أمور غير حقيقية لموظف عمومي، والمس بمعنويات الجيش، على خلفية منشورات في صفحته على موقع "فيسبوك" وصف فيها التدابير الاستثنائية التي أعلنها الرئيس
قيس سعيد في 25 تموز/ يوليو 2021 بالانقلاب.
تكرر ما وقع للعياري، مع خمسة ناشطين من المشتغلين بالعمل السياسي والإعلامي، إذ يواجهون تهمة ارتكاب "أمر موحش" ضد رئيس الجمهورية، ومنهم المدون عمارة بن منصور، الذي وجهت له التهمة في العاشر من آذار/ مارس من العام الماضي على خلفية منشور في صفحته، انتقد فيه استغلال رئاسة الجمهورية لموارد الدولة من أجل تنظيم ما يسمى الاستشارة الشعبية الإلكترونية (استفتاء).
وسبق ذلك صدور حكم غيابي ضد النائب المستقيل من ائتلاف الكرامة، والمدون راشد الخياري بسبب منشورات كذلك إذ تمت إحالته للمحاكمة بتهم منها القيام بما من شأنه أن يضعف في الجيش روح النظام العسكري والطاعة للرؤساء أو الاحترام الواجب لهم وانتقاد أعمال القيادة العامة، كما أنه صدر حكم غيابي على النائب المستقل عصام البرقوقي والمتواجد خارج تونس إذ قضت الدائرة الجناحية بالمحكمة العسكري غيابيا في 2 آذار/ مارس 2022 بسجنه 10 أشهر بتهم تعلقت بالمس من كرامة الجيش الوطني وارتكاب أمر موحش ضد رئيس الجمهورية.
ومن بين المتهمين بانتقاد الرئيس، عامر عياد، المذيع التليفزيوني والذي وجهت له تهمة التآمر على أمن الدولة الداخلي والدعوة إلى العصيان وارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 2021؛ فضلا عن إيقافه في الثالث من ذات الشهر بمعية عبد اللطيف العلوي، عضو البرلمان من ائتلاف الكرامة، قبل الحكم بسجنه 4 أشهر، و3 أشهر بحق العلوي.
وفي 1 حزيران/ يونيو الجاري، أصدرت هيئة الدائرة الجنائية المختصّة في النظر في قضايا الإرهاب بالمحكمة الابتدائية بتونس، حكما بـ8 سنوات سجنا في حق شاب بتهمة "التحريض على القتل وارتكاب أمر موحش ضد رئيس الجمهورية المرتبطة بالجرائم الإرهابية والتحريض على الكراهية والتباغض بين الأديان والمذاهب"، مع إخضاعه للمراقبة الإدارية لمدة 5 سنوات إثر انتهاء العقوبة.
في المقابل، طُبق الفصل في فترة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي (2014-2019) في 4 قضايا بحسب الفصل 67، لكن القضاء حينها حكم بعدم سماع الدعوى نظرا للمناخ العام المدافع عن الحريات، فيما لم يكن يطبق في عهد الدكتاتور الراحل زين العابدين بن علي.
وسبق لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" أن طالبت بإلغاء الفصل الذي يتحدث عن "ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الجمهورية"، لتنافيه مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان.
وفي بيان سابق، قالت المنظمة إن النيابة العامة في تونس تستخدم قوانين قمعيّة سُنّت قبل الثورة التونسية لملاحقة منتقدي سعيّد ممن يصفون تولّيه لسلطات استثنائية منذ 25 تموز/ يوليو 2021 بـ "الانقلاب"، ومن بين خمس قضايا متعلقة بحرية التعبير راجعتها "هيومن رايتس ووتش"، هناك شخص يقضي حاليا عقوبة في السجن بتهمة الإساءة للرئيس، من بين تهم أخرى، وثلاثة آخرون قيد المحاكمة بتهمة التشهير بالجيش والإساءة للرئيس، وشخص خامس قيد التحقيق الجنائي باتهامات مماثلة، وفق ما نشره موقع المنظمة في 23 كانون الأول/ ديسمبر 2021، بعنوان "محاكمات عسكرية ومدنية بتهمة الإساءة للرئيس".
وتواصلت "عربي21" مع منظمة "هيومن رايتس ووتش" لطلب التعليق على المحاكمات الجديدة بتهمة "ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الجمهورية"، دون أن تتلقى ردا.
"ارتفاع وتيرة المحاكمات"
الناشط السياسي والخبير في القانون عدنان الكرايني، يقول إن "وتيرة الإحالات على هذا الفصل تسارعت منذ 25 تموز/ يوليو 2021، وأصبح الأمر يشمل كل انتقاد لرئيس الجمهورية".
وفي حديثه لـ"عربي21"، قال الكرايني إن "هذا الأمر يتطلب التوقف عند محورين أساسيين. الأول متعلق بمكانة هذا الفصل ضمن المنظومة التشريعية التونسية، والثاني متعلّق بانعكاساته على الذوق القانوني السليم والمبادئ الأساسية للقانون الجزائي".
واعتبر أن "الفصل 67 من المجلة الجزائية يعد من النصوص المهجورة. وقد عرف الأستاذ الساسي بن حليمة (مرجع قانوني في تونس) النص المهجور معتبرا أن الهجران هو مبدئيا أن يبقى القانون حبرا على ورق أي غير مطبق بالمرة. والهجران آلية واقية تتسلّط على النص القانوني بحيث لا تنطبق القاعدة القانونية لمدة طويلة من الزمن".
لذلك، فإن الفصل 67 من المجلة الجزائية لا يعد نصا ملغيا بل موجود نافذ المفعول، بحسب الخبير في القانون عدنان الكرايني، الذي استدرك بقوله إن "هذا الوجود لا يعفيه من انتقادات تمس من جوهره كنص يجب أن يخضع للمبادئ الأساسية للقانون الجزائي".
وشدد على أن "مثل هذه النصوص على غرار الفصل 67 من المجلة الجزائية تؤدي إلى إفراغ مبدأ الشرعية من محتواه. فنكون بين سندان ترك نص قانوني وهجره وهو جزاء قاس على المشرع، ومطرقة التغول والجور على الناس وإلحاق الضرر بحريتهم الشخصية بتفسير لم يكن موجودا لولا تأويل واسع لعبارات فضفاضة تحتمل أكثر من معنى".
وأكد الكرايني أنه "لا يمكن الإجماع على مفهوم واحد واضح للأمر الموحش ضد رئيس الجمهورية. فكل له تفسيره ودائرة اشتغال هذه العبارة. وهذا الخطر الكبير في المادة الجزائية التي تتطلب الدقة واليقين. فالنصوص غامضة تفتح الباب على مصراعيه لإطلاق يد القاضي للعقاب على بعض الأفعال التي هي في الأساس غير مجرمة بنص واضح".
وتابع: "كان أجدر بالقضاة الذين تولوا إصدار أحكام ضد المحالين على هذا الفصل أن يعلوا النص الدستوري والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها الجمهورية التونسية على هذا النص المدرج ضمن قانون عادي، والاتفاقيات الدولية المصادق عليها من الدولة أدنى من الدستور وأعلى من القوانين".