بين الحين
والآخر، يتجدد الحديث حول الخلافات داخل المؤسسة العسكرية في
مصر، وأن صراعا ما
بين أجنحة هذه المؤسسة قد يُطيح برأس النظام. وكان آخر هذا الجدل، ما أثاره تقرير
الإيكونوميست الذي دفع هيئة الاستعلامات المصرية لاستدعاء مراسل المجلة، وتسريبات
حول تغيير رئيس أركان حرب القوات المسلحة. لا نُعنى هنا في هذا المقال بشخصنة
الأمور، ولكن بالنظر الواقعي والموضوعي للحالة قيد النظر.
في البداية،
بالتأكيد يمتلك النظام الذي تشكّل منذ 3 تموز/ يوليو 2013، آلية لاتخاذ القرار
وصناعة السياسات، لكننا لا نعرف الكثير عن هذه الآلية. في دولة شديدة المركزية
كمصر، تتركز السلطة السياسية في نخبة حاكمة معدودة. وفي نظام كهذا، من الطبيعي أن
يسعى الرئيس لتكريس أكبر قدر من السلطة في يديه.
خلال العقد
الماضي، عكست قرارات هذه النخبة، خلال لحظات حرجة، فاعلية آلية اتخاذ القرار
المتبعة في الحفاظ على النظام، كما ساعدت على تركيز المزيد من السلطة في يد
الرئيس، ولكن السمة الأهم هي أن هذه الآلية تتأرجح بين الجماعية والفردانيّة، مع
ميل حذر نحو الفردانيّة. بالإضافة إلى ذلك، تقوض هذه الآلية من الأطر المؤسسية في
اتخاذ القرار، فلا تُبقي من البرلمان أو الوزراء سوى أدوات للتنفيذ.
يمكننا اعتبار الرئيس هو العنصر المهيمن على اتخاذ القرار السياسي والأكثر تأثيرا في الدائرة المحيطة به، ويمكننا اعتبار عناصر النخبة الحاكمة حول هذا الرئيس هي القوى الصاعدة والطامحة نحو المزيد من السلطة والنفوذ والثروة
بشكل آخر، يمكننا
اعتبار الرئيس هو العنصر المهيمن على اتخاذ القرار السياسي والأكثر تأثيرا في
الدائرة المحيطة به، ويمكننا اعتبار عناصر النخبة الحاكمة حول هذا الرئيس هي القوى
الصاعدة والطامحة نحو المزيد من السلطة والنفوذ والثروة.
بناء على أدبيات
الصراع، لا يمكننا النظر إلى التنافس داخل هذه النخبة على أنه صراع على السلطة، ما
لم تتشكل الإرادة الحقيقة لدى أحد هذه العناصر في السيطرة على الحكم. التنافس بين
الرئيس الذي يطمع في المزيد من تركيز السلطة في يديه، وبين أعوانه الذين يخشون
تآكل حصتهم من السلطة والنفوذ والثروة، تنافس غريزي، فالسلطة كما يقول غور فيدال
"غاية في حد ذاتها".
في حالة واحدة
يُتوقع أن يشكل هذا الصراع تهديدا حقيقا، عندما تتكون إرادة جماعية لدى النخبة
الحاكمة على تغيير الرئيس، وتحديد مَن مِن الممكن أن يخلُفه. تشكلت الإرادة الحقيقة
لدى الفريق سامي عنان، لكنه افتقر إلى دعم النخبة، فكان قرار النخبة في هذه اللحظة
الحرجة، هو دعم الوضع القائم ورفض التغيير.
إذا من الطبيعي
أن يعكُف الرئيس على منع تشكل هذه الإرادة الجماعية، عبر التحريك المستمر للقادة
المحيطين به، واستعمال التدفق المعلوماتي للتقدير الاستباقي لأي تحرك، كما يعمل
على توظيف مفردات متنوعة لدعم حكمه، مثل الحزب والجهاز البيروقراطي والإعلام
والأجهزة الأمنية الأخرى، والتي يرتبط مدى نجاحه في توظيفها بمدى صعوبة الانقلاب
عليه.
بينما يتمتع
العنصر المهيمن بتموقع أفضل، يُواجه العنصر الطامح في السلطة تحديات خطيرة، ليس
فقط ضرورة بناء توافق جماعي داخل النخبة، يتبنى التغيير ويدعمه كبديل للوضع
القائم، ولكن الأخطر أنه حال الفشل، قد يواجه أحد خيارات التحييد الخشنة، السجن أو
القتل، وفي أحسن الأحوال العزل.
أسس نظام 1952
دكتاتوريات شخصانية متتالية، (جمال عبد الناصر - أنور السادات – حسني مبارك)،
أحدثت ثورة يناير شرخا في هذا التتابع، ولكن النظام أعاد بناء المنظومة على نفس
أسس الفكر السياسي، مستخدما أدوات عصرية.
"تعيش
الأنظمة العسكرية التشاركية عمرا أقل من الأنظمة العسكرية الشخصانية"، (كيف
تعمل الدكتاتوريات، باربرا غيديس، 2021).. في هذا الكتاب، خلُص الباحثون إلى أن
الأنظمة الدكتاتورية التي تميل النخبة فيها إلى تشارك السلطة بين أعضائها تعيش عمرا
أقل من الدكتاتورية التي تركزت السلطة فيها بيد الحاكم. يبدو أن النخبة الحاكمة في
مصر تدرك هذه الخلاصة.
بشكل عام، يتحرك
الجيش كفاعل سياسي مستقل وفق حسابات المصالح والتكاليف. يتميز الجيش المصري
بالوحدة وهيراركية صلبة يصعب تجاوزها، كما أنه ما زال يتمتع بثقة شرائح عريضة من
الشعب، كما أنه لا يميل إلى التدخل الجراحي في السلطة، رغم وجوده المؤثر على
الساحة منذ 1952، تدخل الجيش بشكل جراحي في المشهد السياسي مرتين بعد 52؛ في 2011
و2013.
هل معنى ذلك أن
التغيير مستحيل؟ خلال الفترة من 1946 إلى 2010، سقطت 35 في المئة من الدكتاتوريات
عبر انقلابات عسكرية، لكن طبيعة المؤسسة العسكرية والتركيبة البنيوية للنظام
المصري، والتراكم التاريخي، وقدرة الشعب على التحمل والتكيّف، كلها عوامل تدفع
المنظومة نحو الانحياز للاستقرار التقليدي، رغم التذمر العام بدلا من مغامرة
التغيير غير المحسوبة.
إذا كنّا لا نعرف
الكثير عن آلية اتخاذ القرار داخل النخبة الحاكمة، وفي ظل غياب الشفافية عموما،
فإن التعامل مع معلومات غير موثوقة، بطريقة شعبوية تميل إلى شخصنة الأمور، هو سلوك
يفتقر إلى الموضوعية ولا يدعم مسارات الإصلاح السياسي، في بلد أكثر ما يفتقده هو
صوت العقل والحكمة.
افتقر خطاب قوى التغيير للموضوعية، والتقدير الحقيقي للأوزان النسبية لتأثير الأحداث والأشخاص في المشهد، كما عكس اعتمادهم الكبير على ضعف مخرجات النظام للشعب في تحريك الشارع، العجز عن الهروب من زاوية المباراة الصفرية التي يفرضها النظام، وتقديم مقاربات للحل تعتمد على إعادة بناء العلاقة مع الدولة بعيدا عن فرضيات الاستئصال غير الممكن
خلال العقد
الماضي، افتقر خطاب قوى التغيير للموضوعية، والتقدير الحقيقي للأوزان النسبية
لتأثير الأحداث والأشخاص في المشهد، كما عكس اعتمادهم الكبير على ضعف مخرجات
النظام للشعب في تحريك الشارع، العجز عن الهروب من زاوية المباراة الصفرية التي
يفرضها النظام، وتقديم مقاربات للحل تعتمد على إعادة بناء العلاقة مع الدولة بعيدا
عن فرضيات الاستئصال غير الممكن.
في النهاية،
يمكننا القول إن لرغبات عناصر النخبة الحاكمة أهمية في صناعة القرار السياسي، لا
سيما رغبة الرئيس، ولكن الأهم هو إجماع النخبة. تضخيم الفقاعات التي تنشأ من
معلومات غير موثوقة تضر بالصالح العام، وتزعزع الثقة بين الأطراف، مما يقوض فرص
الحوار والتوافق.