كيف يقرأ
الإسلاميون العرب تجربة حزب العدالة والتنمية التركي وزعيمه رجب طيب أردوغان؟ وما
هي الدروس المستفادة من هذه التجربة عربيا وإسلاميا؟
عبد الرزاق مقّري
الدكتور عبد
الرزاق مقّري الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم الجزائرية، يقدم وجهة نظر في تجربة
إسلاميي تركيا، وتحديدا الرئيس رجب طيب أردوغان في السلطة، في دراسة تنشرها "عربي21" على حلقات،
بالتزامن مع نشرها على صفحة الدكتور مقّري الخاصة في "فيسبوك".
نموذج انتخابي
فريد
لا شك أن
الانتخابات التركية رسمت نموذجا
فريدا في العالم، تجاوزت في دلالاتها الديمقراطية الحقة الديمقراطيةَ الغربية
المأزومة، التي باتت القوى المالية الرأسمالية هي المتحكم فيها من الخلف فلا تأتي
للشعوب بأي تغيير، تتداول الأحزاب على الحكم ضمن مشروع واحد يزداد به الأغنياء
ثراء وتتعاظم فيه مشاكل الفقراء.
لقد تميزت الانتخابات التشريعية والرئاسية
التركية برِهان ديمقراطي حقيقي حقق نسبة عالية من المشاركة وصلت إلى 85% من
الناخبين، مما يدل بأن الأتراك مؤمنون بالعملية السياسية في بلدهم، واثقون بمصيرهم
داخل وطنهم وبتحسين أحوالهم فيه، قد اقتنعوا بأن مستقبلهم يصنعونه سلميا بأصواتهم،
فلا سبيل لليأس، ولا تنازل عن الحقوق، ولا حاجة للعنف، ولا اتكال على قوى خارجية.
وعلاوة على هذه المشاركة التاريخية تجسدت
الديمقراطية الحقة في نتيجة الانتخابات ذاتها، حيث جاءت الأرقام متقاربة في
الانتخابات التشريعية بين تحالف الجمهور بقيادة أردوغان وتحالف الشعب (تحالف
الأمة) بقيادة كمال كليتشدار أوغلو، ولم ينجح الرئيس الحاكم القوي المتحكم إلا في
الدور الثاني بأصوات نصف الناخبين فحسب.
غير إن وراء هذا المشهد الديمقراطي الجميل،
ونجاح الأشخاص الذين يحملون المشروع ثمة حيرة على المشروع ذاته في مستقبل غير بعيد.
إنجازات
أردوغان
قبل التوقف عند هذه الحيرة لنتحدث قليلا عن
إنجازات أردوغان منذ توليه الحكم:
نشر أردوغان في حملته الانتخابية سلسلة
تغريدات على حسابه في تويتر تتضمن أرقام مذهلة مرفقة برسوم بيانية حول المرحلة التي وصلت إليها تركيا في مجالات الاقتصاد
والصناعة والبيئة والتمدن العمراني والطاقة والزراعة والثقافة والسياحة والصناعات
الدفاعية والتكنولوجيا والحضور الخارجي ، علاوة على أرقام تم جمعها من العديد من
المؤسسات والمواقع المتخصصة تبين التطور الذي وقع منذ تولي حزب التنمية ولعدالة في
عام 2002 الحكم على النحو التالي:
ـ رفع متوسط نسبة النمو السنوية من أقل من 1
بالمئة إلى 5.1 بالمئة.
ـ ارتفاع حجم الاستثمارات على أساس سنوي من 70 مليار ليرة تركية إلى 1.4
ترليون ليرة.
إن أمان أي مشروع طويل المدى إنما يتحقق نهائيا حينما يصبح التداول الديمقراطي السلمي على السلطة في الإطار الحضاري الواحد الذي تتنافس فيه الأحزاب تنافسا حقيقيا، تختلف بينها اختلافا حقيقيا على البرامج والرجال والأفكار والطموحات، ولكن تسير في اتجاه حضاري واحد... وهذا الذي حققته التجربة الديمقراطية الغربية وهذا هو المفقود في التجربة الديمقراطية التركية.
ـ ارتفاع قيمة الصادرات في حدود سبع مرات من
35.7 مليار دولار إلى 254.2 مليار دولار.
ـ زيادة عدد المناطق الصناعية المنظمة من
192 إلى 325، زيادة إنشاء 79 تكنوبارك، و22 مدينة صناعية، وتشغيل وكالة الفضاء
وبرنامج الفضاء الوطني التركي، والقمر الصناعي إيمجة.
ـ ارتفاع مشاريع الصناعات الدفاعية من 62
إلى 750، و ارتفاع ميزانية مشاريع الصناعات الدفاعية من 5.5 مليار دولار إلى 75
مليار دولار، ومن المشاريع الكبرى المنجزة الطائرات الحربية المسيرة، حاملة طائرات
محلية.
ـ وصل عدد الشركات العاملة في مجال الصناعات
الدفاعية في عام 2020 إلى 1500 شركة، بعد
أن كان 56 شركة فقط في عام 2002، وتتنوع صادرات الصناعات الدفاعية التركية إلى
الخارج بين الطائرات المسيّرة والغواصات
والسفن والمركبات العسكرية، وكذلك أنواع متطورة من المسدسات والبنادق.
ـ اكتشاف احتياطي غاز طبيعي بحجم 540 مليار
متر مكعب، إنهاء مشروعي "تاناب" (خط أنابيب غاز العابر للأناضول)،
و"السيل التركي" (خط أنابيب لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا)، تشغيل وحدتي
تخزين وتغوير عائمة للغاز الطبيعي المسال في ولايتي إزمير وهطاي، محطة الطاقة
النووية اق قويو.
ـ ارتفاع الناتج
الإجمالي المحلي الزراعي إلى أكثر 333 مليار ليرة عام 2020 بعدما كان لا يتجاوز 37
مليار ليرة سابقًا، مع دعم فلاحي بقيمة 165 مليار ليرة خلال 19 عامًا.
ـ تطور مستوى التعليم ارتفاع عدد الجامات
إلى 208 جامعة من 76 في حدود عقدين، وفي
عام 2018 دخلت 82 جامعة تركية قائمة أفضل جامعات العالم، ارتفاع ميزانية البحوث
والدراسات العلمية إلى 8.5 مليار ليرة لتصبح تركيا من أسرع دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الدولية في مضاعفة
مخصصات البحوث والدراسات العلمية حسب موقع يونايتد التعليمية.
ـ تطور الخدمات الصحية حيث زادت مخصصات
القطاع من 18.7 مليار ليرة في عام 2002 إلى نحو 188.6 مليار ليرة (32 مليار دولار)
في الموازنة العامة لعام 2020، تشييد
العديد من المرافق الصحية الكبرى منها مستشفى "بيلكنت" في العاصمة أنقرة
الذى افتُتح عام 2019، والذي يُعَدّ أكبر مستشفى في أوروبا والثالث على مستوى
العالم، إذ يضمّ 3 آلاف و633 سريراً، والمدينة الصحية في اسطمبول التى تضمّ 6
أبنية أقيمت على مساحة مليون متر مربع، سوف تقدّم خدماتها الطبية لـ23 ألفاً و600
مريض، بعدد أسرة يبلغ 3102 سرير منها 520 للعناية مركزة، و90 غرفة عمليات، و1662
غرفة إقامة. وقد أدى هذا التطور إلى نمو كبير وسريع للسياحة الصحية والتعليمية
الطبية، وتتوفر تركيا على مستويات عالية في التكوين الطبي وحسب أردوغان في موقع
العربي الجديد فإن تركيا تتوفر على "جيش طبي ضخم يضمّ 165 ألف طبيب و205 آلاف
ممرضة و360 ألف موظف مساند"، وهو عدد يزيد عن اجمالي عددهم في الدول
الأوروبية".
ـ وفي مجال التطور السياحي انتقلت تركيا بين
2002 و 2019 من المرتبة 17 في جذب السياح عالميا إلى المرتبة السادسة، وعدد السواح
من 13 إلى 51.7 مليون، وعدد الفنادق 4 و5 نجوم من 419 فندق إلى 1944، وارتفع دخل القطاع السياحي من 12 مليار دولار إلى 34.5
مليار دولار.
ـ توفير فرص عمل لـ 9 ملايين شخص على مدار
19 عامًا.
ـ رفع احتياطي المصرف المركزي أكثر من 109
مليارات دولار من الإنتاج وليس الريوع الطبيعية.
ـ ارتفاع الدخل القومي من 238 مليار دولار
إلى 960 مليار دولار.
ـ وكل هذا أعطى لتركيا دورا رياديا في
الإقليم ومكانة دولية مشهودة، تبينه فاعلية تركيا في إدارة الملفات والتطورات
الدولية ونمو ممثلياتها بالخارج من 163 إلى 252، بما جعلها تمتلك خامس أكبر شبكة
تمثيل في العالم.
إنه حقا لشيء عظيم...
قرن تركيا
ولكن رغم ذلك، رأينا جميعا، خلف هذه الصورة
العظيمة المدهشة، كيف عانى أردوغان في الجولة الأولى وكيف حُبست أنفاس الشعب
التركي بل أنفاس شعوبٍ وحكامٍ من مختلف أنحاء العالم وهم ينتظرون النتيجة. إنه حقا
لشيء غريب .. كيف يمكن لنصف الشعب أن يخذلوا من حقق لهم، كأفراد وعائلات وبلد، تلك
النتائج المدهشة التي لم يحققها زعيم في العالم في وقت قياسي مثله بمقاييس الزمن
الراهن.
والسؤال الكبير، هل ستَسلم الجرّةُ في كل
مرة؟ لا سيما وأن شعار أردوغان وأصحابه في هذه الانتخابات هو "قرن
تركيا" أي أن الرؤية تتعلق بمشروع وليس بأشخاص، فما هي ضمانات استمرار
المشروع بعد أردوغان في خمس سنوات مقبلة، وهو الذي لا يستطيع الترشح مرة أخرى بفعل
القانون وإكراهات أخرى؟
لو كانت الانتخابات في تركيا بين مشروعين وطنيين ضمن توجه حضاري واحد أو متقارب لكان تقارب النتائج غير محير كثيرا ولما كانت الحيرة على المستقبل ملحة، أما وأن الاستقطاب حاد بين مشروعين حضاريين متعارضين فإن التحوط للمستقبل حاجة حيوية، بل إن الحاضر ذاته يحمل في طياته مخاطر جمة.
لقد ظهر في هذه الانتخابات رجلان مهمان
يستطيعان المنافسة بجدارة في غياب أردوغان مستقبلا، الأول سنان أوغان الذي يطمح في
قيادة القوميين من خلال خلافة دولة بهتشلي الكبير في السن، وهو طموح قادر على
زعزعة تحالف الجمهور ذاته مستقبلا، والثاني هو أكرم إمام أوغلو الذي قام بحملة
كبيرة لنفسه تحت غطاء الحملة لتحالف حزب الشعب، فإن نجح مرة أخرى في الانتخابات
المحلية المقبلة في اسطنبول - الملونة بالأحمر - سيزداد طموحه وقد يتجند وراءه
العلمانيون والأكراد حتى ولو رفض كمال كليتشدار أوغلو المهزوم الانسحاب. وقد يظهر
غير هؤلاء من يقدر على المنافسة على الحكم بعد فترة طويلة من حكم حزب واحد بمشروع
علماني متطرف أو قومي متشدد.
إن النسب المتقاربة في الانتخابات التشريعية
والرئاسية تجعل تحوّل تركيا في غالبيتها نحو اللون الأحمر سهلا ميسورا إن لم ينتبه
قادة ومفكرو "مشروع قرن تركيا" إلى الأمر فيعدوا لذلك العدة.
لو كانت الانتخابات في تركيا بين مشروعين
وطنيين ضمن توجه حضاري واحد أو متقارب لكان تقارب النتائج غير محير كثيرا ولما
كانت الحيرة على المستقبل ملحة، أما وأن الاستقطاب حاد بين مشروعين حضاريين
متعارضين فإن التحوط للمستقبل حاجة حيوية، بل إن الحاضر ذاته يحمل في طياته مخاطر
جمة.
إن من أزمات الديمقراطية أن تكون النتائج
الانتخابية متلاصقة، فلا يصل الفائز إلى نسبة الأمان والاستقرار المتمثلة بين 60
إلى 65 % على الأقل، فيجد نفسه مشغولا عن إتمام المشروع كما في رؤيته، أمام معارضة
قوية مجندة يضطر لاستعمال وسائل الدولة لمنع عدوانيتها بدل كبح جماحها وسط تيار
شعبي عريض مساند.
إن هذه النتائج المتقاربة ليست ابنة هذه
الانتخابات فقط، بل المناصفة هي القاعدة دوما، ففي الانتخابات الرئاسية في 2018
كانت النتيجة 51.7% فقط لأردوغان، وحزب العدالة والتنمية لم يتجاوز نسبة 49% قط،
ونتائجه محصورة دائما بين 32% و 49%، والنصف الآخر دائما هو من التيار العلماني
الأتاتوركي الموالي للحضارة الغربية المناقض لمشروع "قرن تركيا" ضمن
رؤية حضارية للأمة الإسلامية.
لقد زاد الاستقطاب أكثر فأكثر مع نجاحات
أردوغان وحزبه فبات حزب الشعب الجمهوري هو ملاذ العلمانيين المتشددين في المجتمع
التركي ضد صعود من يعتبرونهم إسلاميين، وأصبحت نسبه الانتخابية ثابتة في حدود 25%.
ومع تعثر القضية الكردية تصلبت أصوات حزب الشعوب الديمقراطي في حدود 10%، والمحصلة
الثابتة ضد أردوغان وحزبه ومشروعه إذن، التي لا تتأثر بالنتائج الاقتصادية
والخدمية هي في حدود 35%، وتبقى نسبة 15%
الأخرى التي لم يتحصل عليها أر دوغان في الجولة الأولى هي النسبة الحرجة التي
تتأثر بالمعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومنها ثلاث معطيات أساسية هي: المعطيات الاقتصادية
والاجتماعية المرتبطة بمشكلة العملة وغلاء المعيشة، المعطيات المتعلقة بقضية
اللاجئين، المعطيات النفسية المتعلقة بطول حكم أردوغان وحالة الملل، خصوصًا لدى
الشباب، برؤية نفس الشخص يحكم البلد لم يروا غيره منذ طفولتهم.
إن أمان أي مشروع طويل المدى إنما يتحقق
نهائيا حينما يصبح التداول الديمقراطي السلمي على السلطة في الإطار الحضاري الواحد
الذي تتنافس فيه الأحزاب تنافسا حقيقيا، تختلف بينها اختلافا حقيقيا على البرامج
والرجال والأفكار والطموحات، ولكن تسير في اتجاه حضاري واحد... وهذا الذي حققته
التجربة الديمقراطية الغربية وهذا هو المفقود في التجربة الديمقراطية التركية.
فأين هي الحلقة المفقودة؟