مقالات مختارة

الحقيقة.. من أفلاطون إلى "التَّك تُوك"

جيتي
يعيش الإنسان بين دفتي الحياة لاهثاً دوماً وراء بحثه عن الحقيقة، حقيقة كل شيء، من الوجود الى النفس والى التاريخ والعلم والأخلاق والعواطف، وكل ما يحتويه عالم البشر، سواء كان محسوساً وملموساً أو كان غائباً ومستتراً في أثير سرمدي غامض.

تحدّث العلماء والفلاسفة ورجال الدين والفيزيائيون وراصدو حركة الكون ونشاطه والعرافون عن مصدر الحقيقة وتعريفها، وعما إذا كانت جدلية بالمطلق ومن ثم خاضعة لقوانين متحركة باستمرار، أم أنها ثابتة تنتقل بسلاسة بين مجتمعات البشر عبر تاريخهم؟

تفاوتت الآراء والرؤى حول ماهية الحقيقة، وكَتَبَ حولها وفيها الكثيرون، منهم خالي الراحل الدكتور عبدالله حمد المعجل في آخر كتاب له قبل رحيله بعنوان "البحث عن الحقيقة"، الصادر عام 2001، يقول في مقدمته: "خلال التاريخ أفرز البحث عن الحقيقة عدة مناهج، إلا أنها جميعها اشتركت في مبدأ رئيسي واحد هو نسبية المعرفة، ويُقصَد بنسبية المعرفة أن منطلقها قائم على افتراضات، ومن ثم تصبح الحقيقة نسبية، أي أنها تمثل استنتاجات لواقع معين انطلاقاً من واقع مُفتَرَض، وهذا الإدراك لنسبية المعرفة يحمله كل منّا في داخله، وهي تأخذ أشكالاً متعددة اعتماداً على حجم الفرضيات، بحيث نجد من يعتنق فكراً أيديولوجياً متطرفاً ينطلق من فرضيات تشمل كل ما تعكسه حواسه، وكل ما يتبادر الى ذهنه انطلاقاً من هذه الانعكاسات، تاركاً لخياله العنان لِيَصحب أفكاره الى عوالم من القناعات لا حد لها، وفي المقابل نجد أن صاحب الفكر العلمي المتطرف يصر على أن لا قيمة لمعرفة من دون أن يكون مصدرها التجربة العلمية، التي يمكن أن تُدرَك بالإحساس، أي من خلال الحواس الخمس" (انتهى).

قد يكون الفلاسفة قد تفوقوا على العلماء في التوغل عميقاً في كينونة الحقيقة، ربما لكونهم ينطلقون في فكرهم الى ماورائيات لا يرصدها العلم ولا المختبرات، ولعل في أسطورة كهف أفلاطون ما يختصر الفكرة، التي راودت الكثير من الفلاسفة حول مبعث ومصدر الحقيقة.

تقول الأسطورة إن مجموعة من المساجين محبوسون منذ نعومة أظافرهم في كهف تحت الأرض، وهم يجلسون بحيث تكون ظهورهم موجّهة لمدخل هذا الكهف، وهم مُكبّلون من أعناقهم وأرجلهم، لا يستطيعون الالتفات الى الخلف. ينتصب خلف هؤلاء المساجين مسرح عالٍ لا يرونه كمسرح العرائس المتحركة، وتوجد فوق هذا المسرح نار خافتة، هي مصدر الإضاءة الوحيد في هذا الكهف، ويمر أمام هذه النار حراس، وهم يحملون تماثيل ونماذج للأشياء المختلفة، كالحيوانات والنباتات.. الى آخره، فيرى المساجين ظلال هذه التماثيل والنماذج على الجدار القائم أمامهم، وأحياناً يُصدر الحراس أصواتاً، فيعتقد المساجين أن هذه الأصوات تصدر من الظلال أمامهم، وبحيث يكون شاغل المساجين هذه الظلال لكونها الجانب الوحيد من الحقيقة التي يرونها ويستشعرون بها.

قصة كهف أفلاطون تؤكد أن الناس غالباً ما يكونون عبيداً لحواسهم المباشرة، حتى وإن كانت زائفة أو مُفتَعَلة ولا تعكس، إن هي عَكَسَت، إلا جانباً واحداً من الحقيقة. تصوروا إذاً لو نحن أسقطنا قصة كهف أفلاطون على الزمن الحالي بكل ما يحمله من "حقائق" افتراضية لا علاقة لها إطلاقاً بالواقع، وعلى الرغم من ان أفلاطون نفسه كان لا يثق أبداً بالفن والصور بشكل عام، وذلك لما كان يراه من قوة للصور في إثارة الحواس بشكل عام وبأي طريقة كانت، لذلك فقد زخرت جمهوريته بالحوارات حول ضرورة إقصاء الشعراء من الجمهورية، أي جمهورية أفلاطون ومدينته الفاضلة، وتقييد ماذا ومتى وكيف يمكن تداول الصور.

مشكلة افلاطون مع الصور أصبحت اليوم في ظل التكنولوجيا مضاعفة، فبحسب رؤيته كانت المشكلة الأساسية في الصور أنها تشبه وتختلف في آن واحد مع الواقع، وبشكل قد يشوّه أو يُجمّل أو يغيّر الواقع. فكيف يا ترى ستكون رؤيته لو أنه عاصر زمن التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والروبوت اليوم؟

الحقيقة إذاً ومنذ أفلاطون إلى عصر التشات جي بي تي والتِّك تُوك وحفلات الهولوغرام الغنائية هي عرضة لتقدير المشاهد أو المتابع، فإن كنا لا نستطيع أن نهرب من إغراءات وإملاءات كل هذه الوسائط التكنولوجية لما تملكه من قوة، فعلى أقل تقدير نحاول أن نخرج منها إلى ما وراء الصورة أو المشهد، أي أن نتوجّه بالبحث عمّا تُنتجه هذه الصور من مشاهد، فهي في النهاية مجرد إشارات لحقائق بعيدة لا تراها كل الأعين ولا تلتقطها كل الأنفس.

(القبس الكويتية)