منذ
"تهريب" المخلوع زين العابدين بن علي يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011، توقّع
التونسيون أن يكون "الانتقال
الإعلامي" محورا مركزيا من محاور "الانتقال الديمقراطي"، الذي دخلته
تونس منذ سقوط الحكومة التجمعية الثانية (بقيادة محمد الغنوشي)، وتشكيل "الهيئة
العليا لتحقيق أهداف
الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" يوم 15 آذار/ مارس 2011،
وهي هيئة شبه تشريعية (غير منتخبة) اندمجت فيها لجنة حماية الثورة واللجنة العليا
للإصلاح السياسي (إحدى اللجان الثلاث التي شكلتها الحكومة "التجمعية").
ولكنّ الوقائع لم تكن مطابقة لادعاءات النخب الذين أجمعوا على بؤس المشهد الإعلامي
قبل الثورة، ولا مطابقة لانتظارات عموم التونسيين الذين وجدوا أنفسهم واقعيا أمام
تعددية إعلامية صورية، أُوكلت مهمةُ تنظيمها وتعديلها -بموجب المرسوم الرئاسي عدد 116 لسنة 2011-
إلى "الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري" المعروفة
اختصارا بـ"الهايكا".
قانونيا،
كانت "الهايكا" هي المسؤولة عن "تنظيم قطاع الإعلام السمعي
البصري، وتعديله وضمان تعدده وتنوعه وتوازنه واستقلالية وسائله (..)، وعلى ضمان حرية
التعبير في إطار احترام الضوابط القانونية (..) وعلى دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان
وسيادة القانون". لكنّ مسار الانتقال الديمقراطي ينبئنا بأن جميع الأطراف
المتداخلة في الشأن الإعلامي (الهايكا، نقابة الصحفيين، الجمعة التونسية لمديري الصحف.. إلخ)، كانت قد وضعت أنفسها في خدمة استراتيجيات النواة الصلبة للمنظومة القديمة، لإعادة التموقع والانتشار.
بعد "صدمة" الثورة وما أوجدته من "مزاج عام" رافض لأحادية الصوت ولهيمنة الدولة وهوامشها الوظيفية على المشهد العام، بما في ذلك المشهد الإعلامي، استطاعت "الدولة العميقة" أن تواصل هيمنتها على الإعلام عبر توزيع الإشهار وعبر تفعيل غيره من آليات التحكم والسيطرة "الليّنة" على الخطوط التحريرية لمختلف المنابر الإعلامية.
فبعد
"صدمة" الثورة وما أوجدته من "مزاج عام" رافض لأحادية الصوت
ولهيمنة الدولة وهوامشها الوظيفية على المشهد العام، بما في ذلك المشهد الإعلامي،
استطاعت "الدولة العميقة" أن تواصل هيمنتها على الإعلام عبر توزيع
الإشهار وعبر تفعيل غيره من آليات التحكم والسيطرة "الليّنة" على الخطوط
التحريرية لمختلف المنابر الإعلامية.
رغم
تعدد التعريفات لما يسمى بـ"الإعلام البديل" وأهمية تلك التعريفات
إجرائيا، فإننا لا نفهم الإعلام البديل باعتباره "فقط" شكلا من "أشكال
وسائط الإعلام العامة، التي نشأت كنقيض لوسائل الإعلام الرئيسية" من جهة
المحتوى وطريقة الإنتاج والانتشار، ولا باعتباره "فقط" منابر مستقلة عن
الشركات الإعلامية الكبيرة وعن الحكومة، ولا أيضا من حيث إنه "صوت الأمور
التي تتجاهلها وسائل الإعلام الرئيسية"، فكل هذه التعريفات تحتاج إلى
تقييد جوهري كي يتحقق فيها معنى البديل من منظور استحقاقات الثورة ومشروع العيش
المشترك. فأن تكون إعلاما مستقلا عن لوبيات المال التقليدية وعن الحكومة، وأن تكون
منبرا إلكترونيا، أو أن تكون وجها إعلاميا جديدا يتحدث عن مواضيع يقمعها الإعلام
المهيمن؛ لا يعني بالضرورة أنك إعلام بديل.
بناء
على ما تقدم، فإننا سنطرح جملة من الأسئلة التي ستساعدنا في إعادة طرح قضية
الإعلام البديل، بعيدا عن ادعاءات البعض ولطميات البعض الآخر: عندما يتحرك الإعلام
البديل في فلك الإعلام المستبدل منه (من جهة الشخوص و/أو المؤسسات والفلسفة
السياسية العامة)، هل يمكننا اعتباره "إعلاما بديلا"؟ عندما يكون
"الإعلام البديل" في خدمة حزب ما –وتحديدا في خدمة خيار التوافق النهضوي
مع المنظومة القديمة بشروط تلك المنظومة-، هل يمكننا اعتباره إعلاما بديلا؟ في ظل
غياب مشروع وطني هو محل توافق مبدئي -وليس توافقا انتهازيا ومؤقتا- من لدن أهم
الفاعلين الجماعيين، وفي ظل تواصل الصراعات الهوياتية والاصطفافات الأيديولوجية،
هل يمكن أن يوجد خيط ناظم للإعلام البديل يبعده عن "الثقوب السوداء"
للمنظومة القديمة؛ تلك الثقوب الأيديولوجية والمالية القائمة على مبدأ الرعاية
المتبادلة للمصالح المادية والرمزية؟
ما قيمة مدوّنات السلوك المهني الإعلامي، أو ما قيمة بعض الأصوات الصارخة في الصحراء؛ في ظل هيمنة المال المشبوه والأطر الفكرية البالية التي ما زالت تتحكم -في ضرب من التعامد الوظيفي- في هندسة "الخطوط التحريرية"؟
ما
قيمة مدوّنات السلوك المهني الإعلامي، أو ما قيمة بعض الأصوات الصارخة في الصحراء؛
في ظل هيمنة المال المشبوه والأطر الفكرية البالية التي ما زالت تتحكم -في ضرب من
التعامد الوظيفي- في هندسة "الخطوط التحريرية"؟ ما هو تأثير النواة
الصلبة للمنظومة القديمة -أي المركّب "المالي- الجهوي- الأمني" المتحكم
في صناعة القرار السيادي قبل الثورة وبعدها- في هندسة المشهد الإعلامي، ومن ورائه
المشهد العام منذ "تهريب" المخلوع؟
قبل
الإجابة بموضوعية على هذه الأسئلة، فإن الحديث عن "إعلام بديل" سيكون
أقرب إلى المجاز منه إلى الواقع، وكذلك الحديث عن فشل مشاريع "الإعلام
البديل". فالإعلام البديل لا معنى له ولا دور إلا في مشروع سياسي أو مجتمعي
جديد، ولذلك فإن "إعلام التوافق" لم يكن يوما إعلاما بديلا، بل كان
إعلاما حزبيا توجهه مصالح ضيقة لا علاقة لها بأي بديل سياسي يتجاوز
"مقدسات" المنظومة القديمة، أو يهدد مصالح نواتها الصلبة.
ومن
العبث توقع نجاح أي إعلام بديل في ظل خيارات "توافقية" أعادت رسكلة
المنظومة القديمة، بدءا من سرديتها الأساسية أو خطابها الكبير (البورقيبية)، مرورا
برموزها السياسية (المرحوم الباجي قائد السبسي وعبير موسي وغيرهما)، وشركائها الاجتماعيين
والسياسيين (الاتحاد ومنظمة الأعراف وأغلب الأحزاب اليسارية الوظيفية)، وانتهاء
بمجتمعها المدني الذي كان وما زال مجرد امتداد للسلطة الحاكمة، ولخياراتها الثقافية
أو الإيديولوجية الكبرى. فالمجتمع المدني في أغلبه (بحكم ضعف الدولة في علاقتها
بالخارج ووكلائه المحليين وإملاءاته الاقتصادية والثقافية، وقوتها الغاشمة تجاه
مواطنيها)، هو أداة لتجذير سياسات الاغتراب والإذلال والتهميش وشرعنتها، أكثر مما
هو أداة لمقاومة تلك السياسات بالانحياز لمن هم أسفل والإصغاء إليهم، -مهما كانت
قناعاتهم الفكرية وخياراتهم السلوكية-، لا قمعهم والوصاية عليهم.
الإعلام البديل هو مشروع فاشل إذا لم يرتبط بمشروع سياسي بديل، والمشروع السياسي البديل هو أيضا مشروع منذور للفشل إذا لم يتأسس على عقل سياسي جديد، يتجاوز جدليا الفكر السياسي الذي أسس الدولة- الأمة، وفرض خياراتها اللاوطنية الكبرى في علاقتها بالداخل والخارج
ختاما،
فإن الإعلام البديل هو مشروع فاشل إذا لم يرتبط بمشروع سياسي بديل، والمشروع
السياسي البديل هو أيضا مشروع منذور للفشل إذا لم يتأسس على عقل سياسي جديد، يتجاوز
جدليا الفكر السياسي الذي أسس الدولة- الأمة، وفرض خياراتها اللاوطنية الكبرى في
علاقتها بالداخل والخارج. ولا معنى لأي بديل إعلامي لا يتحرك على محوري النقد
المزدوج: محور النقد الجذري لسردية الدولة-الأمة وأساطيرها التأسيسية، التي أسست
للدولة الجهوية الزبونية التابعة، ومحور النقد الجذري لسردية الانتقال الديمقراطي
في جميع مراحله، بما في ذلك "إجراءات 25 تموز/ يونيو"، تلك السردية التي أعادت شرعنة المنظومة القديمة، وأعادتها إلى
الواجهة فكريا وبشريا.
ولا
شك عندنا في أن هذه المهمة التاريخية هي مهمة صعبة، وغير ممكنة في السياق الحالي
لأسباب موضوعية وفكرية، ولذلك فإننا نعتبرها مهمة مؤجلة قد يكون شرطها الضروري هو
بلوغ الأزمات الدورية "للنمط المجتمعي التونسي"، نقطة يستحيل معها البحث
عن مخرج إلا بالاعتراف بـ"أزمته البنيوية" أو التكوينية، ومواجهتها بعقل
سياسي مختلف (في إطار كتلة تاريخية)؛ عقل يتحرك في أفق مواطني متحرر من أوهام
أصحاب السرديات الكبرى من جهة، ومن مصالح أصحاب "القضايا الصغرى"
ورعاتهم في الخارج من جهة ثانية.
twitter.com/adel_arabi21