تعيش
تركيا حالة تاريخية في انتخاباتها الجارية الرئاسية والتشريعية،
فرغم النهضة التاريخية التي أحدثها أردوغان وحزبه في بلده، في العلم والتكنولوجيا
والصناعة والأمن الغذائي والتعليم والخدمات الصحية وارتفاع دخل الفرد والمكانة
الإقليمية والدولية وعودة تركيا لحضارتها الإسلامية وتاريخها المجيد يجد نفسه
يواجه وضعا صعبا في مواجهة ممثل حزب الشعب الذي أوصل تركيا إلى انهيارات اقتصادية
كبيرة وتفكك اجتماعي معقد وتفسخ ثقافي شديد باسم العلمانية الأتاتركية في نهاية
تسعينات القرن الماضي.
كانت الأزمة المالية الظرفية التي عرفتها تركيا في السنوات الأخيرة
وتراجع العملة وارتفاع تكاليف المعيشة كافية ليقول نصف الشعب التركي لأردوغان لقد
طال مكوثك في الحكم ولا بد أن نجرب غيرك. ولو لم يكن البديل مخيفا في توجهاته
العلمانية المتشددة وضعيفا بلا إنجاز ولا رؤية، قد تحالف مع قوى عرقية وأخرى
أيديولوجية أو ذات عداوات شخصية حاقدة وغير مقنعة، لكان أردوغان، هذا الزعيم
التاريخي الرمز، قد خسر
الانتخابات في الجولة الأولى. ولكنه ها هو يقبل التحدي
ومواجهة الصناديق مجددا في الجولة الثانية دون أن يمن على الشعب التركي ويستنكر
عليهم عدم نصرته نصرا مؤزرا كاسحا جراء الخدمات التاريخية الجليلة التي قدمها
للبلاد والعباد.
لقد رأينا جميعا كيف كان الفرز يتم بشفافية تامة وتُنشر النتائج في
برامج الكترونية للعالم بأسره، تُعدل كل دقيقتين حسب ما تقوله الصناديق تواليا.
ورأينا حرية الأحزاب والشخصيات المتنافسة كيف هي متساوية في الحديث في وسائل
الإعلام وفي التحشيد والرقابة ولا أحد منهم يشكو تدخل الجيش أو الإدارة أو أي قوة
رسمية أخرى في المنافسة.
لا شك أن التجربة التركية هي التجربة
الديمقراطية الفريدة في العالم
الإسلامي من حيث تمثلها بنفس المعايير المعمول بها في الدول الديمقراطية، ومن حيث
أهمية تركيا وتاريخها ومكانتها في بلاد الإسلام، ومن حيث أنها تجربة يصنعها قادة
جاؤوا من التيار الإسلامي السني.
وتمثل هذه الانتخابات أهمية كبيرة للعالم بأسره لأسباب كثيرة ليس
موضوعها هذا المقال، ولكنها تمثل للتيارات الإسلامية السنية أهمية أكبر، خصوصا
الحركات المحرومة من الديمقراطية، وبشكل أخص الحركات المضطهدة التي تستضيفها الأرض
التركية. كثير من هذه الحركات تعتز بالتجربة التركية أكثر من اعتزازها بتجاربها وتحرص عليها أكثر من
حرصها على الديمقراطية في بلدانها، بسبب اليأس في انقشاع قريب لهموهما السياسية،
أو ربما للاستقواء بنجاح النموذج ولو بالحجة في مواجهة المستبدين في أوطانهم،
وبدون ريب بسبب عشق القومة الحضارية الإسلامية الذي يعد بها إخوانهم الأتراك
المظفرين سياسيا واقتصاديا!
لا شك أن التجربة التركية هي التجربة الديمقراطية الفريدة في العالم الإسلامي من حيث تمثلها بنفس المعايير المعمول بها في الدول الديمقراطية، ومن حيث أهمية تركيا وتاريخها ومكانتها في بلاد الإسلام، ومن حيث أنها تجربة يصنعها قادة جاؤوا من التيار الإسلامي السني.
إن التجربة الديمقراطية التركية ليست هي الوحيدة في العالم الإسلامي.
لقد رأينا كذلك في ماليزيا كيف أخرجت الصناديق صانع نهضتها د. مهاتير محمد من
الحكم، حين محاولته العودة لينقذ بلده من الفساد الذي خرب التجربة والإنجاز ، ولم
يعترض على شعبه حين رفضوا عودته في الانتخابات الأخيرة سنة 2022. وبجوار ماليزيا
دولة مسلمة عظيمة من حيث عدد السكان والمرشحة لتكون سادس قوة اقتصادية في العالم
قريبا بعد أن تخلصت من الديكتاتورية بتنحي الرئيس سوهارتو سنة 1998.
كما رأينا كذلك نموذجا آخر للتنافس المفتوح في باكستان، الدولة
النووية الوحيدة في العالم الإسلامي، التي خسر فيها رئيس الدولة بالصندوق واستطاع
أن يحشد أنصاره في الشارع لاعتقاده أن مؤامرة خارجية ما أزاحته، دون أن تسيل
الدماء بين المتنافسين، مع ما في التجربة الباكستانية مما يمكن أن يقال. وهناك
التجربة الشيعية في إيران التي صمدت أمام الحصار الغربي الأمريكي، فبنت اقتصادا مقاوما وتحكمت في التكنولوجيا وهي
توشك أن تكون دولة نووية تعيش تداولا حقيقيا على الرئاسة والبرلمان بين المحافظين
والإصلاحيين، مع ما في هذه التجربة من خصوصية تعجب البعض ويسخط عنها البعض.
إن المسيرة الديمقراطية لا زالت تتطلب التحسين في هذه البلدان ولكنها
مترسخة ويصعب تصور تراجعها فقد أنتجت استقرارا اجتماعيا إلى حد كبير، بتفاوت بين
دولة ودولة، ونهضة اقتصادية وتطورا علميا ومكانة بين الدول، ولا شك أن هذا الأمر
يشرف الإسلام والمسلمين.
إن الغريب في الأمر أن هذه
التجارب كلها في العالم الإسلامي لا يوجد فيها بلد عربي، إذ لا تزال الدول العربية
مستعصية على الديمقراطية تمثل آخر الدول في العالم التي لم تتوصل فيها شعوبها
لتحقيق سياداتها في اختيار حكامها وأنظمة حكمها، وكانت آخر محاولة للانتقال
الديمقراطي الانتفاضات الشعبية السلمية التي سميت الربيع العربي التي أجهضتها
الثورات المضادة وحولتها إلى شتاء عاصف بالفتن.
إن جزء كبيرا من العالم العربي لا يزال يئن تحت وطأة الصراعات
الطائفية والعرقية والسياسية العنيفة
الناتجة عن تلك الثورات المضادة و التدخل الأجنبي بعد تجربة سابقة طويلة من
الاستبداد، بما لم يبق شيئا يسمّى دولةً، كما هو حال سوريا واليمن والسودان
وقبلهما العراق ولبنان، وجزء آخر مهم يخضع
لاستبداد قائم دائم تحت أنظمة جمهورية وملكية استئصالية أو غير تعددية كما هو حال
مصر وكل دول الخليج سوى الكويت، ومؤخرا التحقت تونس بالركب الاستئصالي من جديد، أو
أنظمة ملكية أو أميرية تتوفر فيها التعددية الحزبية ولكن بسقوف ديمقراطية متدنية
متأصلة لا تسعى فيها تلك الأحزاب ذاتها إلى التداول الفعلي على السلطة بالانتقال إلى المَلَكية الدستورية المعروفة في
العالم الديمقراطي، على نحو ما هو موجود في المغرب والأردن والكويت، أو أنظمة
رئاسية تسيرها "ديمقراطية الواجهة" التي تشارك فيها الأحزاب دوريا في
الانتخابات وفي المجالس المنتخبة تحت موازين متحكم فيها دوما بالتزوير الانتخابي
الممنهج والمستدام وتدخل مؤسسات الدولة
وانحيازها في المنافسة بما يمنع أي فرصة
للتداول على نحو ما هو موجود في موريتانيا والجزائر.
نعيش في الجزائر نموذج ديمقراطية الواجهة في أتم صورها بدون أي أفق
في التداول على السلطة إلى حد الآن، نفس الحزب يحكم البلد صوريا منذ أكثر من ستين
سنة وحين يترهل الحزب الحاكم يشد الحكام الفعليون عضده بأحزاب يخرجونها من صلبه
للمشهدية الديمقراطية.
نفس النظام الحاكم ـ بواجهته الحزبية الثابتة ـ هو من حكم الجزائر
باسم الاشتراكية وسيطرة القطاع العام على الاقتصاد، ثم باسم نوع هجين من الرأسمالية تحت مسمى
"اقتصاد السوق"، ثم تحت ما سمي ب"العصابة" التي ثار ضدها
الحراك الشعبي، ثم هو نفس النظام ونفس الوعاء الحزبي ونفس الأدوات والأساليب هي
التي تحكم بعد الحراك الشعبي. لا يقع التغيير في زمن البحبوحة المالية، ولا يقع
التغيير في زمن الأزمات الاقتصادية، لا يقع التغيير في زمن الاستقرار ولا يقع
التغيير في زمن الفوضى، وفي كل هذه المراحل لا توجد أي نهضة حقيقية للبلد في أي
مجال من المجالات، وما يقال عن الجزائر يقال عن كل البلاد العربية، بأشكال ودرجات
مختلفة ومتفاوتة.
نعيش في الجزائر نموذج ديمقراطية الواجهة في أتم صورها بدون أي أفق في التداول على السلطة إلى حد الآن، نفس الحزب يحكم البلد صوريا منذ أكثر من ستين سنة وحين يترهل الحزب الحاكم يشد الحكام الفعليون عضده بأحزاب يخرجونها من صلبه للمشهدية الديمقراطية.
حقا حقا حينما رأيت الصعوبات الجمة التي وجدها أردوغان في هذه
الانتخابات بسبب تراجع القدرة الشرائية رغم الارتفاع الكبير في دخل الفرد الذي لم
يشعر به الشباب التركي الذي لم يعش أزمات المعيشة التي كانت قبل أردوغان،
ورغم النهضة العظيمة التي صنعها في كل
المجالات استغربت كثيرا في وثوق حكامنا في أحقيتهم المطلقة في حكم الشعب دون أي
خوف أو حيرة من أن ينافسهم غيرهم من خارج السلطة الحاكمة رغم التراجع الكبير
والمزمن في القدرة الشرائية في زمن ارتفاع أسعار النفط، هذا التراجع الذي جعل
الأطباء والمهندسين والموظفين أصحاب الشهادات العليا والتجار الصغار يتحولون إلى
فقراء لا تكفيهم مرتباتهم للعيش الكريم.
والغريب في الأمر أنه حينما يتوجه الحديث للحكام العرب عن الأزمات
الاقتصادية يقولون "إن العالم كله يعيش أزمة اقتصادية"، دون التفريق بين
الأزمات التي هي زكام عابر ولو كان شديدا، وبين الأزمات التي هي سرطان مهيكل في
جسم الاقتصاد الوطني، ولو لا الريع
بالنسبة لبعض الدول العربية والدعم المالي الخارجي بالنسبة لدول أخرى لانهارت كلها لا قدر الله.
لا يرى حكامنا كيف أن هذه الأزمة العالمية التي يتسترون وراءها زلزلت
عروشا وصنعت تيارات جديدة في البلاد الديمقراطية، إن المطلوب في بلداننا عند الأزمات - بالنسبة لهم
- أن تتغير الشعوب فتنسى كرامتها وحقوقها، فإن لم تصبر فإن مصيرها
القمع أو التقتيل والتشريد، وما على الحكام في ظل هذه الأزمات إلا أن
يستمروا في الحكم فهم الثابت الوحيد في بلداننا ولو لم يبق وطن يحكمونه.
أيها الحكام العرب! لا نسألكم ديمقراطية الغرب العريقة، اسمحوا
لشعوبكم أن تتمتع بالديمقراطية التي تتنعم بها شعوب مسلمة مثلنا، دعونا نخدم
بالحرية بلداننا كما خدمتها هذه الدولة المسلمة الناهضة.