لم يكن عفويا أن يسدي بنتسيون نتنياهو، أحد مؤرخي الحركة الصهيونية لابنه رئيس الحكومة ما اعتبرها نصيحة بقوله: "ما دام الفلسطينيون يعتبرون يوما لـ"استقلالنا"، ويوما لنكبتهم، فلن يحلّ هذا الصراع بيننا وبينهم"، وهي نصيحة تحمل دلالات تاريخية كبيرة، يمكن استعراضها في السطور التالية.
وأحيت دولة
الاحتلال قبل أيام، ذكرى تأسيسها الخامسة والسبعين، مقابل ما يحييه الفلسطينيون هذه الأيام النكبة الفلسطينية، مما حمل تزامنا تاريخيا لا تخطئه العين على الصعيدين الفلسطيني والإسرائيلي.
دوتان هاليفي ومعيان هاليل، ذكرا أن "إحياء
الفلسطينيين ليوم النكبة مقابل إحياء دولة الاحتلال لذكرى تأسيسها يجسّد حجم الكارثة التي حلّت بالشعب الفلسطيني نتيجة سياسة الحركة الصهيونية التي لا ترى الفلسطينيين مجموعة وطنية لها الحق في تقرير المصير، وبالتالي يمثل يوم النكبة كارثة تاريخية مستمرة وموثقة، على أساسها بُنيت دولة الاحتلال، ومع ذلك، فما زال الفلسطينيون يتعلمون أبعاد هذه الكارثة بعد خمسة وسبعين عاما من حصولها، والطرق التي حدثت بها، والعنف الذي حدث، وعواقبه طويلة المدى على الفلسطينيين".
اعتراف بالترحيل
وأضافا في ورقة بحثية نشرتها صحيفة
هآرتس، ترجمتها "عربي21" أن "غالبية الفلسطينيين ما بين 700-750 ألفا، تمّ ترحيلهم قسرا خارج مناطق الانتداب نحو سوريا ولبنان ومصر والأردن أو الأماكن التي وصلتها الجيوش العربية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ومع نهاية الحرب بقي قرابة 156 ألف فلسطيني داخل حدود دولة الاحتلال، ومن هذا العدد قرابة 46 ألفا من اللاجئين الداخليين الذين طردوا من منازلهم وأراضيهم، وأجبروا على الاستمرار في العيش كلاجئين في أماكن أخرى داخل فلسطين المحتلة".
ويعترف الكاتبان أنه "لم يجد البحث التاريخي أي دليل على أن القيادة العربية أمرت الفلسطينيين بإخلاء منازلهم، خاصة وأن أصل هذا الادعاء يعود للدعاية الإسرائيلية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، التي حاولت تصوير التهجير الفلسطيني على أنه نتيجة اختيار حرّ، ولهذه الغاية دمّر الاحتلال خلال الحرب والسنوات التي تلتها القرى الفلسطينية المهجورة، وعددها أربعمائة، والأحياء الفلسطينية في المدن التي احتلها، أو يسكنها مستوطنون يهود".
مصادرة الأرض
انتقل الكاتبان إلى الدلالة الثانية المتعلقة بالأرض، وأكدا أنه "لم يُسمح أبدًا للاجئين الفلسطينيين بالعودة لديارهم وأراضيهم خارج السياسة الإسرائيلية المعلنة التي تمت صياغتها خلال الحرب، وعلى مرّ السنين، حُذفت أسماء القرى من الخريطة، ووضعت "أطلال"، أو استبدلت بأسماء عبرية بالكامل، وتمّ مصادرة معظم أراضي تلك القرى، وأصبحت أراضي دولة في عملية بدأت فور انتهاء الحرب من خلال سنّ قانون أملاك الغائبين، وبموجبه استمر الاحتلال في سلسلة من المصادرة، كما مُنع اللاجئون الداخليون من العودة لقراهم بسبب القيود المفروضة من إدارة الحكم العسكري، التي سيطرت على الفلسطينيين في دولة الاحتلال حتى نهاية 1966".
وأضافا أنه "في المجموع، فإن 85٪ من الأراضي التي كانت تحت سيطرة الفلسطينيين قبل حرب 1948، تم احتلالها من قبل دولة الاحتلال، ومصادرتها، وأصبحت "أراضي دولة"، وبهذه الطريقة تم أخذ مصادر الدخل الزراعي بشكل أساسي للفلسطينيين المتبقين داخل حدود
الدولة".
محو الذاكرة
إضافة لتهجير الفلسطينيين، والاستيلاء على مصادر دخلهم، فقد شكلت النكبة بمثابة إبادة لمجتمع وطني وثقافي وديناميكي وحيوي له جذور عميقة في الأرض التي أصبحت فلسطين الانتدابية بعد 1917، في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، كانت حيفا ويافا والقدس وعكا وغزة ومدن أخرى مراكز صاخبة للأعمال الفلسطينية من مكاتب المحامين والمحاسبين، إلى دور السينما والمسارح والمقاهي والمطاعم والفنادق والمكتبات والشواطئ، وما إلى ذلك، إلى النوادي الرياضية والجمعيات الثقافية.
وجرت العادة أن يقضي الرجال والنساء الفلسطينيون وقتهم بشكل يومي، ويعززون من خلالها روابطهم القديمة مع المثقفين والفنانين والسياسيين من جميع أنحاء الشرق الأوسط، كما رأى الفلسطينيون أنفسهم يسيرون منذ نهاية العهد العثماني نحو دولة مستقبلية، لكن حرب 1948 أوقفت هذه العملية، وفي نهاية الحرب، ظلت الناصرة المدينة الفلسطينية الوحيدة داخل حدود دولة الاحتلال، بينما أصبح الفلسطينيون في المدن الكبرى الأخرى في البلاد أقلية سكانية.
وبدأت الحرب الإسرائيلية على الثقافة الفلسطينية مع طرح السؤال القديم الجديد: هل جلب الفلسطينيون النكبة على أنفسهم بمعارضة اقتراح التقسيم؟ وهنا يحاول الكاتبان الإسرائيليان تقديم إجابة مبدئية وعملية، بحيث أنه "إذا جاء مجتمع مهاجر إلى دولة الاحتلال اليوم، وادّعى الملكية التاريخية للأرض، وعرض على اليهود الإسرائيليين تقسيمها، فهل يعتقدون أن ذلك مبرر، ومستعدون "لتقديم تنازلات" بشأن التقسيم، ولذلك كان موضوع التقسيم بالنسبة للفلسطينيين قائماً على قاعدة "أنتم غزوتم بيتنا، وتريدون منا المساومة على الغرف"".
وأضافا أن "أغلبية واضحة بين الفلسطينيين وقيادتهم السياسية استعدوا لقبول اليهود كأقلية تتمتع بحقوق داخل دولة ذات أغلبية فلسطينية، لكن مشروع التقسيم 1947 عكس توزيعًا غير عادل للأراضي والموارد".
النكبة حاضر وليس ماضياً
يطرح الإسرائيليان سؤالا: "لماذا لا يترك الفلسطينيون الماضي وراءهم، مع أن النكبة بالنسبة لهم، ليست ماضيا بعيداً، بل حاضرا قائما، لأن العدوان الذي بدأ في 1948 لم ينتهِ في الواقع، وبعد الحرب صادرت دولة الاحتلال الأراضي الفلسطينية، وفرضت نظاما عسكريًا على فلسطينيي48 حتى 1966، وبدءًا من 1967، فُرض الحكم العسكري على الضفة وغزة، جنبًا إلى جنب مع المشروع الاستيطاني، واستمر أكثر فأكثر في قضم الأراضي الفلسطينية، وكبت الحريات الفردية للفلسطينيين، ومصادرة حقوقهم الشخصية، وكرامتهم الإنسانية".
وأشارا إلى أن "الفلسطينيين لا ينظرون للنكبة على أنها حدث تاريخي فقط، بل تجربة حياة يستمر تحقّقها في كل مواجهة مع جندي محتل أمام كل نقطة تفتيش، ومصادرة الأراضي، وتقييد الحركة، وشن حروب غزة، وهكذا لا تزال صدمة 1948 تشكل دعامة للهوية الفلسطينية وذاكرتهم الجماعية، وما يلبثون أن يعودوا بين حين وآخر للنكبة كلحظة حاسمة، وطوال التاريخ المشترك، توفرت فرص لا حصر لها لتصحيح مظلوميتهم باعتراف الاحتلال بمأساتهم، والاعتراف الصادق بحقوقهم الوطنية، والتعويض عن خسارتهم، وعودة اللاجئين لوطنهم".
يؤكد التزامن القائم بين النكبة الفلسطينية والاستقلال الإسرائيلي أن اختفاء الفلسطينيين هو ما سمح للاحتلال بإقامة دولته ذات الأغلبية اليهودية الواضحة، وأن محو ثقافتهم، ونسيانها جعل من الممكن صبّ ذاكرة تاريخية في أراضي الدولة، بالزعم أن الفلسطينيين لم يكونوا موجودين فيها، وبدون النكبة لم يكن ممكناً إقامة دولة الاحتلال كما نعرفها، مما يفرض على اليهود الإسرائيليين مسؤولية كبيرة، واعترافًا بالمسؤولية عن هذه النكبة التي تعيش عليها الدولة.