بعد انقلاب 1963 في سوريا، تشكلت قوة سميت «سرايا الدفاع» وأصبح رفعت الأسد قائدا لها بعد عام واحد، وقد شاركت هذه القوة بفاعلية في انقلابات الأعوام 1966 و 1970، لتبرز بعدها كقوة مستقلة، عمليا، عن القوات المسلحة السورية، ولتتحول إلى طرف سياسي، حيث أصدرت عام 1984 بيانا رسميا يميز بين «رئيس الجمهورية» حافظ الأسد وبين «قائدهم وفارسهم الأول» رفعت الأسد! ثم انتهى الأمر بمواجهة حقيقية في العام نفسه وصلت إلى إعلان سرايا الدفاع التمرد رسميا، والانتشار العسكري في دمشق، قبل أن ينجح حافظ الأسد بتفكيك التمرد، ونفي رفعت الأسد، لينهي بذلك
الدولة الموازية التي مثلتها سرايا الدفاع!
في منتصف الثمانينيات انتشر مصطلح «الجنجويد» الذي يشير إلى الميليشيات المسلحة العربية التي تقاتل في دارفور وكردفان في غرب السودان، وقد تحولت هذه الميليشيات سنة 2013 إلى جهة معترف بها رسميا، تحت عنوان «قوات الدعم السريع» ولم يكن لها في الواقع أي إطار قانوني، وقد سلحها النظام ومنحها نفوذا واسعا لتشكل ذراعا قويا للرئيس عمر أحمد البشير!
في كانون الثاني/ يناير 2017 أصدر البرلمان السوداني قانونا بالإجماع يشرعنُ فيه هذه الميليشيات، فضلا عن ميليشيات أخرى، عبر تحويلهم إلى مؤسسة نظامية تحت عنوان «قوات الدعم السريع» وبعد أن كانت تخضع لجهاز الأمن والمخابرات، منحها القانون استقلالية نسبية، فأصبحت تتبع مباشرة لرئيس الجمهورية، ولا تكون تحت إمرة القوات المسلحة إلا في حالات الطوارئ أو حالة الحرب، وقد اختير محمد حمدان دقلو، ليكون زعيما لها!
سمح الانقلاب العسكري الذي حصل في السودان لقوات الدعم السريع بأن تكون طرفا سياسيا فاعلا في ظل حكم المجلس العسكري الانتقالي، الذي يحكم السودان، والذي تشكل في نيسان/ أبريل 2019! ثم قويَ نفوذهم بعد قيامهم بالدور الأهم في عمليات القتل التي تعرض لها المتظاهرون السلميون في الخرطوم، من أجل إجهاض حركة الاحتجاج، ثم انتهى الأمر بإصدار رئيس المجلس العسكري مرسوما دستوريا في تموز/ يوليو 2019 بتعديل قانون قوات الدعم السريع تم بموجبه حذف المادة الخامسة المتعلقة بالعلاقة مع رئيس الجمهورية والقوات المسلحة، لتكون هذه القوات «مستقلة» عن القوات المسلحة وخاضعة للقائد العام للقوات المسلحة حصرا، وألغى امكانية دمج هذه القوات بالقوات المسلحة!
ليصل الأمر إلى المواجهة العسكرية القائمة اليوم بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع!
في
العراق، لم يكن «الحشد الشعبي» بعيدا عن سردية تشكيل سرايا الدفاع في سوريا وقوات الردع السريع في السودان!
فتسمية «الحشد الشعبي» كانت مجرد غطاء لشرعنة فصائل مسلحة ذات طبيعة طائفية/ عقائدية، كانت قد تشكلت من إعادة إنتاج فصائل قديمة (مثل منظمة بدر) أو فصائل حديثة التشكيل (مثل عصائب أهل الحق) بداية منتصف عام 2012، واستخدم بعضها في دعم نظام بشار الأسد في سوريا، كما كان لبعضها أدوار عسكرية في محيط بغداد، قبل سيطرة داعش على بعض مدن محافظة الأنبار في بداية كانون الثاني/ يناير 2014. ومراجعة الوثائق الرسمية تثبت أن تشكيله كان بقرار من مجلس الوزراء تحدث عن تنظيم «صفوف المتطوعين وصرف رواتبهم وتجهيزاتهم» (القرار رقم 301 بتاريخ 11 حزيران، يونيو 2014) قبل ما يسمى بفتوى «الجهاد الكفائي» التي صدرت يوم 13 حزيران/ يونيو 2014، و دعا فيها المرجع الأعلى السيد علي السيستاني «المواطنين» إلى «التطوع للانخراط في القوات الأمنية».
الصدام بين الدولة والدولة الموازية، هو مسار حتمي، وهو ما سيحدث أيضا بين الدولة العراقية والدولة الموازية، بعيدا عن الأوهام والخطابات التي تسوّق للتعمية على حتمية هذا المسار
وقد تكرر مضمون هذه الفتوى أكثر من مرة في الخطب التالية التي أكدت على أن دعوى المرجعية «إنما كانت للانخراط في القوات الأمنية الرسمية، وليس لتشكيل ميليشيات مسلحة خارج إطار القانون» (خطبة الجمعة يوم 20 حزيران/ يونيو). لكن الفتوى اُستخدمت فيما بعد، لغرض «شرعنة» الوجود المسبق لهذه لفصائل، وتكريس نفوذها!
وظلت الفصائل العاملة تحت مسمى «الحشد الشعبي تحظى بتمويل من الموازنة العامة للدولة، على مدى أكثر من سنتين ونصف دون إطار قانوني حتى تشرين الثاني/ نوفمبر 2016 حين صدر قانون مهلهل، نصّ على أن «هيئة الحشد الشعبي» هي «جزء من القوات المسلحة العراقية» وأنها «تتبع القائد العام للقوات المسلحة» لكن قانون الموازنة لعام 2017 تضمن ميزانية خاصة بهيئة الحشد مستقلة عن ميزانية «القوات المسلحة» التي يُفترضُ أنها جزء منها!
فشل هذا القانون في إعادة هيكلة الفصائل التي تشكِّل «الحشد الشعبي» ولم يلتزم القائمون عليه مطلقا بالمهل الزمنية التي حددها هذا القانون» المفترض»؛ إذ بقيت الفصائل الحزبية نفسها قائمة مع تغيير شكلي بإعادة تسميتها وفق ألوية مرقمة، دون تغيير حقيقي في بنيتها، أو ارتباطاتها. كما فشلت الأوامر الديوانية المتتالية التي أصدرها رئيسا مجلس الوزراء حينها السيد حيدر العبادي، والسيد عادل عبد المهدي، في فك ارتباط هذه الفصائل بمرجعياتها العقائدية والحزبية والاجتماعية!
على مدار السنوات الفائتة، كان واضحا للجميع، وإن أنكروا ذلك، أن هذه الفصائل التي تجهرُ بتبعيتها لولاية الفقيه، في مواقعها الرسمية (نقرأ على الموقع الرسمي لكتائب حزب الله: «ونحن نرى أن ولاية الفقيه هي الطريق الأمثل لتحقيق حاكمية الإسلام في زمن الغيبة وما الانجاز العظيم في تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران إلا مرحلة أساسية في التمهيد لدولة العدل الإلهي وصورة من صور حاكمية الإسلام وولاية الفقيه»!) ولا تتبع القائد العام للقوات المسلحة، بل تتبع قياداتها العقائدية والحزبية، ليست سوى دولة موازية تأسست في سياق تواطؤ سياسي واجتماعي!
وقد دخلت هذه الدولة الموازية في مواجهات عديدة مع القوات العسكرية والأمنية، وفي مواجهة مع القائد العام للقوات المسلحة نفسه، في محاولة منها لفرض استقلاليتها عن الدولة، بل وفرض علويتها على هذه الدولة ومؤسساتها الرسمية! ولعل المواجهة الأشهر في هذا السياق محاولة رئيس مجلس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي تحجيم، وليس مواجهة بطبيعة الحال، هذه الفصائل بدأها باعتقال مجموعة مسلحة بعد إطلاقها صواريخ على السفارة الأمريكية في العراق فيما يعرف بحادثة البوعيثة، مرورا باعتقال (قاسم مصلح) قائد عمليات الحشد الشعبي في الأنبار، بتهمة اغتيال الناشطين في حركة الاحتجاج عام 2020 وتهمة اقتحام المنطقة الخضراء. في هذه المواجهات الثلاث أثبتت الدولة الموازية أنها قادرة على فرض شروطها على الدولة، وكشفت عن تواطؤ سلطات الدولة ومؤسساتها معها، بدليل محاولة اغتيال الكاظمي في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021!!
تشكلت الحكومة الحالية بإرادة الدولة الموازية وحلفائها، لكن هذا لم يمنع حدوث صدام قبل أيام بين فصيل كتائب حزب الله وقوات رسمية عراقية في منطقة البوعيثة نفسها التي شهدت المواجهة الأولى بين الدولة والدولة الموازية وانتهت بهزيمة رمزية للأولى وانتصار مظفر للأخيرة، في هذه المرة لم تجرؤ الدولة على مجرد الإشارة إلى الدولة الموازية التي واجهتها في بيانها!
بالرجوع إلى النموذجين السوري والسوداني، فإن
الصدام بين الدولة والدولة الموازية، هو مسار حتمي، وهو ما سيحدث أيضا بين الدولة العراقية والدولة الموازية، بعيدا عن الأوهام والخطابات التي تسوّق للتعمية على حتمية هذا المسار، ومن خلال الركون إلى نموذج الدولة الموازية الممثلة بالحرس الثوري في إيران، من دون أن ينتبه هؤلاء إلى فرادة النموذج الإيراني الذي يجعل الولي الفقيه قائدا للدولة والدولة الموازية معا!