سيكتبون عن إسرائيل يوما ما، مثلما يكتبون اليوم عن الحروب الصليبية
(1096 ـ 1291م) كما قال لنا فيلسوف الزمان والمكان د/ عبد الوهاب المسيري (ت/
2008م) رحمه الله.. من يعنيه التاريخ وكرامة اسمه في التاريخ، ليس عليه سوى أن
يكتب لنفسه فيما يحدث الآن ما يريد كتابته.. وقد فعلها الشهداء: جهاد الغنام وخليل
البهتيني وطارق عز الدين وعلي غالي وأحمد أبو دقة وإياد الحسني.
فعلوها، كتبوا كلمتهم ورحلوا عنا.. وفي الحرب نموت وبلا حرب نموت..
لكن موت غير موت، عامر الطفيلي الكافر الجاهلي (ت/630م)، حين شعر باقتراب موته
وعرف أنه سيموت موتة دنيئة كما وصفها بنفسه قائلا: (موت بغدة وفى بيت سلولية) فطلب
فرسه، وركبه ومات عليه.. استنكافا منه أن يموت وهو في فراشه..
***
سنسمع من
الفلسطيني في
غزة في كل وقت وحين عبارة (كيف سقينا الفولاذ)
قالها أمس ويقولها اليوم وسيقولها كل يوم..
العبارة قديمة وهي أثر قديم من كلاسيكيات الأدب الاشتراكي، أصدقاؤنا
اليساريون يعرفونها جيدا.. فهي عنوان الرواية الوحيدة التي كتبها الروائي الروسى
نيقولا ىاستروفسكي (ت/1936م).. ومن أجمل عباراته فيها، وهى عبارة مشهورة وتستحق
شهرتها: (أن الإنسان لا يرهب الموت إذا كانت له قضية يفنى من أجلها، فإنها تخلق في
نفسه القوة..).
***
وفوق كل ذلك وقبل كل ذلك.. (عهد الله) لعباده الموقنين الذين يتخذهم
شهداء أنهم (لا يموتون) بل أحياء عنده سبحانه وتعالى علوا كبيرا.. ليسوا فقط أحياء
بل ويستبشرون.. كما ورد في سورة أل عمران.
وهو عين ما يحدث الأن في غزة.. وهو ما أنفقت فيه إسرائيل (ماء عينها)
بل وكل ما يمكنها لمنع حدوثه.. ولم تمنعه.. لم تستطع ولن تستطع.. والقادم أوقع وأخطر..
ذهبت إسرائيل إلى مدريد وأوسلو وكامب ديفيد وكل (الذهوبات)على رأى
شاعرنا الكبير (المتنبي ت/965م).. كى تمنع تفتح هذه الورود في جناين غزة.. بدأ من
اغتيال خليل الوزير (أبو جهاد) بتونس في إبريل 1988م.. وحتى اغتيال أياد الحسني
(أبو أنس) بغزة في مايو 2023م..
وها هو السيد محمود عباس (88 سنة) يجلس على كرسيه (الفيترا ـ لوونج )
الوثير يستمتع بثمار نضاله الطويل في ساحات السياسة العربية.. يجلس الرجل شاهدا
حيا على مدى الوعي التاريخي الذي يسكن رؤوس القادة الإسرائيليين ..
***
الوعى التاريخي؟ بماذا؟ وهم في الأصل يسيرون في الاتجاه المضاد
للتاريخ..الناس تسير داخل التاريخ في اتجاه (المستقبل) وهم يسيرون في اتجاه (الماضي)
.. الماضي الذى مضى وانقضى، ويحملهم على أجنحة الفناء حيث النهاية هناك.. تنتظرهم كما بشرهم نتنياهو (74سنة) عن تاريخ
(الدولة الحشمونية) التي لم تستمر إلا أكثر من مائة سنة بقليل من 140 ق إلى 37 ق،
فيما كل دولة لهم انقضت قبل مائة سنة ..
التاريخ لدى نتنياهو (74سنة) يمثل الزمان الناقص، ولدى أياد الحسيني
وصحبه يمثل الوجود الكٌلي.. وعى يتجاوز الحياة ويتجاوز الموت نفسه..
(عهد الله) لعباده الموقنين الذين يتخذهم شهداء أنهم (لا يموتون) بل أحياء عنده سبحانه وتعالى علوا كبيرا.. ليسوا فقط أحياء بل ويستبشرون.. كما ورد في سورة أل عمران.
إنه وعى (الشهيد).. الشهيد.. (الكلمة) التي تسكن (فكرة)
كبيرة تحتضن بين ذراعيها الوجود كله.. هذه الفكرة تقول بكل نور وفهم (الموعد الله)..
وكفى.
هذا ما حاولت إسرائيل منعه بأى ثمن.. أو بالأحرى حاولت تأخيره.. لكنه
هناك في الأفق القريب.. أت..أت. وكل ما هو آت قريب .. فكيف إذا كان قريبا..؟
***
تقول أحد فصول (القصة القصيرة) التي يكتب أحد سطورها الآن رئيس
الأركان الفيلسوف هرتسي هاليفي (56 سنة).. كما أطلقت عليه الـ (نيويورك تايمز) فهو
خريج فلسفة..
الجنرال القادم لمشرقنا من روسيا.. قال لوسائل الإعلام أمس السبت (13
أيار / مايو) إن الجيش سيواصل عمليات الاغتيال ما دامت غزة مستمرة في إطلاق
الصواريخ.. وقال: لقد حققنا إنجازات كبيرة في العملية العسكرية المتواصلة منذ 5
أيام.. وجاءت هذه التصريحات إثر اجتماع لتقييم الأوضاع.. وتحديد الخطط المستقبلية..
أظرف شيء في الخبر الذي نقلته محطة (سكاى نيوز) هو تعليق مراسلها على
الخبر.. الذى قال: (ولم يوضح هاليفي ما هي الإنجازات الكبيرة؟ ولا الخطط
المستقبلية بشأن العملية المستمرة منذ 5 أيام؟)..
***
وتعليق المراسل ليس طريفا فقط ولكنه ذكي أيضا.. لأنه يفترض في بداهة
البداهات أن أكثر شيء يحفظ كرامة أي إنسان ـ لا دولة عصرية تمثل روح الحضارة
الغربية في ديار الشرق (المتخلف) ـ هو أن يعرف كيف يخرج من أمر دخل فيه.. ليس هذا
فقط بل وأن يقدم سببا محترما لدخوله من الأساس..
لم يكن اليهود في المشرق الإسلامي عبر تاريخهم الطويل لهم في الحضارة الإسلامية حالة عدائية، والموقف الفكري منهم كـ (نموذج إنساني متمرد) على خالقه، يتسع فيه المعنى إلى ما هو أبعد كثيرا من وجودهم بيننا.. عاشوا مكرمين بكرامة كل أبناء أبينا أدم عليه السلام.. لهم كل ما لنا، وعليهم كل ما كان علينا.
فإذا كانت الصواريخ لازالت حتى هذه اللحظة تنطلق، بل وتصل إلى جنوب
تل أبيب..! وإذا كان اغتيال القادة الستة كان لمنع انطلاق هذه الصواريخ.. ففيما
كان إطلاق سهم (الواق واق) هذا.. أو السهم الواقي كما قالوا؟
(سرايا القدس) أعلنت أن المقاومة أعدت نفسها لأشهر من المواجهة،
وتمتلك نفسا طويلا وحاضنة شعبية وفية عظيمة.. وحماس أبلغت الوسيط المصرى أنها
ستدخل المواجهة إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق اليوم أو غدا كما ذكرت محطة (أر تي)
الروسية بتاريخ أمس السبت 13 مايو.
***
مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سالفان (47 سنة) اتصل بنظيره
الإسرائيلي تساحي هانجبي (66 سنة) للتأكيد على دعم الإدارة (الصارم) لأمن إسرائيل..
لا أدري لما يكون دائما (صارما)..؟ وأكد على حقها في
الدفاع عن شعبها من الهجمات الصاروخية..
عدا الوسيط المصري والداعم الأمريكي فليس هناك أي اهتمام دولي بعذاب
يومى لــ: 2 مليون و375 ألف و259 إنسان محاصرين من 17 سنة في 365 كم مربع.
***
ما يحدث في المشرق العربي الآن.. في فلسطين.. في غزة.. وحين ينتهي
عما قريب جدا إن شاء الله، سيكتبه (التاريخ) ليس كما رواها الرواة، وليس كما حكاها
الناس، بل كما حدث بالفعل.. بدأ من
اتخاذ الغرب قراره بغرز (كيان مصطنع) يخدم مصالحه ويفصل الشرق الإسلامي عن غربه في
أوائل القرن الماضي.. مرورا بــ(تفاهماته)حول وجود هذا الكيان مع (الدولة الوطنية)
في العالم العربي بعد خروج الاحتلال، وانتهاء بالسلام والتطبيع الإبراهامي أو غيره
في بدايات القرن الحالي.
***
لم يكن اليهود في المشرق الإسلامي عبر تاريخهم الطويل لهم في الحضارة
الإسلامية حالة عدائية، والموقف الفكري منهم كـ (نموذج إنساني متمرد) على خالقه،
يتسع فيه المعنى إلى ما هو أبعد كثيرا من وجودهم بيننا.. عاشوا مكرمين بكرامة كل
أبناء أبينا أدم عليه السلام.. لهم كل ما لنا، وعليهم كل ما كان علينا.
وهذا أيضا مما كتبه (التاريخ) بل حفظه.. بل شرف به.