هل ما زال من الممكن حصرُ تبادل القصف بين القوات الإسرائيلية ومقاتلي حركة «الجهاد الإسلامي» في فكرة توجيه الرسائل وتحديد السقوف؟
الجانبان، كما تفيد التقارير، «ليسا معنيين بالتصعيد». وهذا التعبير مطاطي وغريب بعض الشيء، مع أن مسألة «التعايش» بين «الدولتين العميقتين» في كل من إيران وإسرائيل شبه مؤكدة ومحسومة منذ عهد غير قريب، على الرغم من التصريحات العدائية «اللفظية» والقصف «الفولكلوري» في الاتجاهين.
ومع أنَّ تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو الجديدة بيّن وكأن «الليكود» قرّر نهائياً تغيير أصول اللعبة مع طهران، يرى متابعون أنَّ ثمة إدراكاً ضمنياً بأنَّ الهدف الأساسي لنتنياهو، الخبير المجرّب في استثمار غلو اليمين الاستيطاني المتطرف، يظل خدمة مصالحه الشخصية، من دون الاضطرار إلى مجاراة الاستيطانيين المتطرفين في كل شططهم.
في المقابل، تلعب طهران راهناً على مستوى الشرق الأوسط كلياً بمزيج من الثقة بالنفس وبالظروف، وهذا على الرغم من ظروف إيران الاقتصادية غير المريحة. وهي في الأصل – حتى لو تصرّفت بعكس ذلك – تفهم تماماً أنَّ مصلحتها مرحلياً تقوم على «تقاسم» النفوذ في منطقة الشرق الأوسط كلاعب فاعل... في ظل تعذّر تحقيقها الغلبة المطلقة وتحدي إرادات كبرى، ربما ترحّب بشراكتها... لكنها لا تقبل احتكارها.
هذا ما يظهر الآن أنه حاصل على المستويين الإقليمي والدولي.
إقليمياً، استفادت طهران منذ فترة غير قصيرة من «ارتباك» السياسة التركية وأخطائها، وبالأخص في سوريا، بعد أول صدام للرئيس رجب طيب إردوغان مع روسيا. وكما نتذكر، انتهى الأمر بتحوّل أنقرة من «عُمق مُساند» و«رافعة» للثورة السورية إلى شريك لموسكو في «مسار آستانة» وغير آستانة.
وكذلك، استفادت طهران كثيراً من تطرّف «الليكود» وحلفائه - داخل إسرائيل وخارجها - فعزّزت حضورها وكسبت صدقية مع أتباعها ومناصريها في العالم العربي.
أما على المستوى الدولي، فقد استفادت القيادة الإيرانية كثيراً من سياستي الإدارتين الأميركيتين الديمقراطية والجمهورية «المتضادتين ظاهرياً» حيال الشرق الأوسط. إذ وقفت إدارة باراك أوباما، كما هو معروف، مع خيار التقارب والتعاون - إن لم يكن «التحالف» - مع طهران ضد ما اعتبرته «داعشية» سنّية انتحارية تهدد المصالح الأميركية. وفي هذا السياق، لا تزال كلمات أوباما تتردد في الذاكرة عندما تطرّق إلى سياسات إيران خلال مقابلة صحافية، قال فيها بصراحة إن «الإيرانيين ليسوا انتحاريين»! ومن ثم، استمر موقف الديمقراطيين الإيجابي تجاه طهران في عهد إدارة جو بايدن، الذي أثبت حتى اللحظة أنه تتمة لعهد أوباما، الذي كان فيه بايدن نائباً للرئيس وشريكاً في التصوّرات والأولويات.
بل، حتى عندما عطّلت رئاسة دونالد ترمب الجمهورية اليمينية لمدة أربع سنوات الصلات الإيجابية بين واشنطن وطهران، فإن القيادة الإيرانية لم تخسر شيئاً. بل لعل العكس صحيح، إذ استفادت القيادة الإيرانية (وفي صميمها حرسها الثوري) عربياً وفلسطينياً من «حماسة» ترمب المفرطة لخدمة كل خطط اليمين الليكودي الإسرائيلي المتطرف وتحقيق كل مطالبه.
واللافت هنا، أنه في حين نشطت إدارة ترمب في تدمير كل فرصة لتسوية
فلسطينية - إسرائيلية تقوم على «مبادئ أوسلو»، في مقدمها «حل الدولتين»، فإنها لم تفعل شيئاً في سوريا ولبنان - وحتى في اليمن - يضر بمصالح إيران الاستراتيجية.
لقد تركّزت سياسة ترمب والجمهوريين طيلة أربع سنوات، على:
- تعزيز العلاقة مع أقصى اليمين الإسرائيلي، وتنفيذ كل رغباته، ما خدم في المقابل التنظيمات المأمورة والمموّلة والمسلحة إيرانياً.
- الضغط من أجل توسيع نطاق التطبيع العربي الإسرائيلي بمعزل عن أي تسوية فلسطينية.
- رعاية الطموحات الكردية شبه الانفصالية في شمال شرق سوريا، من دون أي تحمّس لتطبيق قرارات الأمم المتحدة في الشأن السوري.
- السكوت الفعلي على ترسيخ حلفاء إيران أقدامهم في عموم المنطقة.
هذا «الإرث» ترك مفاعيل مهمة على الأرض، ورثتها في الشرق الأوسط إدارة بايدن (أو إدارة أوباما الثانية، وفق كثيرين). ومعها ورثت أيضاً بؤرة تهديد في شرق أوروبا بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وبؤرة أخرى في الشرق الأقصى في محيط تايوان قبالة البر الصيني.
بناءً عليه، سياسات واشنطن، في عهديها الديمقراطيين والجمهوري، وبكل بتناقضاتها وحساباتها الغريبة أرسلت «إشارات» خطرة ومكلفة ليس فقط للاعبين الإقليميين في الشرق الأوسط، بل لجيران أوكرانيا وتايوان أيضاً.
ثم إن ما يحصل في قطاع غزة قد يكون مجرد «رسائل» صاروخية ودموية غايتها تحديد السقوف وحدود المطامح، لكن المؤكد أنه بين غلاة إيران وغلاة إسرائيل ستتداعى فرص أي سلام واقعي وعادل على مستوى المنطقة.
نعم، ربما لا تختصر القضية الفلسطينية قضايا العرب، ولا يجوز لها ذلك. غير أن تجاهلها كلياً، وتجاوزها ثم دفنها حية في صفقة «تقاسم نفوذ» غير عربية في قلب المنطقة العربية، «سيناريو» سيئ جداً على مختلف الأصعدة.
بدايةً، تصفية «الهوية الفلسطينية» قد تفتح الباب أمام فوضى إعادة تعريف هويات ورسم حدود بديلة وهدم كيانات عدد منها هش أصلاً. وهذا «سيناريو» مقلق ليس حتماً في مصلحة شعوب المنطقة.
ثانياً، تشجيع التطرّف الإسرائيلي هو الوصفة السحرية لتغذية مختلف أشكال التطرف العنصري والتعصبين الديني والمذهبي في عموم المنطقة. وراهناً، ثمة أصوات غربية عاقلة تبدي قلقها علناً من أن تعامل الديمقراطيات الغربية مع إسرائيل على أنها «دولة ديمقراطية» سويّة ما عاد سوى وهمٍ كبير. وتستشهد هذه الأصوات بدلائل مهمة منها «قانون الهوية/يهودية الدولة» والتصريحات المتتالية لوزراء في حكومة نتنياهو الحالية التي تنفي وجود الشعب الفلسطيني بل تنفي وجوداً تاريخياً لشيء اسمه فلسطين.
ثالثاً، عندما طُرح «حل الدولتين» في أوسلو كانت كل الأطراف المعنية تدرك أنه ليس حلاً مثالياً، وقد يكون صعب التطبيق، لكنه يبقى في نهاية المطاف الخيار الأقل سوءاً. أما الآن فلا يبدو أن هناك حدوداً للخيارات السيئة في فلسطين، أو على مستوى المنطقة كلها.
رابعاً، إن انهيار مفهوم «الدولة» في العديد من الدول العربية المُسيطر عليها إيرانياً، وانهيار فكرة «الديمقراطية» القائمة على الاعتراف بالآخر في كل من إسرائيل وإيران، يحولان دون احتواء أي انفجار مستقبلي... وهذا الانفجار لا يحدث بالضرورة عمداً.
وخامساً، إن أي انفجار مستقبلي في الشرق الأوسط ربما سيكون مستعصياً على الاحتواء في مناخ دولي تتراجع فيه الثقة، وتكاد تنعدم المقاربات العاقلة والنيات الطيبة.
الشرق الأوسط