بعد سنوات من
التهديدات وسباق التسلح وبناء منظومة معقدة وشبكية من
التحالفات، أصبح من الصعب
جداً تصور أن
كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية كانتا في يوم من الأيام دولة واحدة.
هاتان الدولتان هما من أكثر الدول تشابهاً حول العالم من حيث العرق والدين واللغة
والتاريخ المشترك.
تبدأ قصة الكوريتين
المشوقة في العام 1910، حيث احتلت اليابان شبه الجزيرة الكورية ولم تخرج منها إلا
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إثر إعلان الاتحاد السوفييتي (سابقا) الحرب
على اليابان.
بعد بداية الحرب
الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة تم تقسيم كوريا إلى مناطق نفوذ
بين القوى العظمى آنذاك. ففي كوريا الشمالية دعم الاتحاد السوفييتي كيم إل سونغ ذا الميول الشيوعية ودعمت الولايات المتحدة سنغمان ري ذا الميول الرأسمالية المعادية
للمد الشيوعي، سرعان ما ترسخت هذه التحالفات على شكل عملية انفصال إلى دولتين في
العام 1948.
الحرب الأولى بين
الكورتين كانت تحديداً في 25 حزيران/ يونيو 1950، حيث اجتاحت كوريا الشمالية
جارتها الجنوبية وبعد ذلك تدخلت الولايات المتحدة لقيادة قوة من الأمم المتحدة،
ووصلت هذه القوات إلى حدود
الصين التي تدخلت في القتال وأعادت التوازن مرة أخرى
لتنتهي هذه الحرب في 1953.
منذ ذلك الوقت عملت
الدولتان المستقلتان على تعزيز الترسانة العسكرية والدخول في تحالفات مضادة تحضيرا
لأي عمل عسكري قادم.
ما هو جديد في عملية
الصراع هذه هو سعى الرئيس الأمريكي جو بايدن والرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول
إلى تعزيز مظلة الحماية النووية الأمريكية ضد التهديدات الصادرة من كوريا الشمالية،
بحيث استضاف بايدن الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول في البيت الأبيض في زيارة
رسمية، والتزم بايدن بمنح "سيول" دوراً مركزياً لأول مرة في التخطيط
الاستراتيجي لاستخدام الأسلحة النووية في أي صراع مع كوريا الشمالية، كما أعلن الرئيس
الأمريكي أن الولايات المتحدة سترسل غواصات الصواريخ الباليستية النووية الأمريكية
للرسو في كوريا الجنوبية لأول مرة منذ عقود. وتعد هذه التصريحات تطوراً مهما في
المواجهة بين كوريا الشمالية والجنوبية لم تشهده علاقات البلدين منذ عقود.
أثارت التصريحات
الفريدة من نوعها من قبل الرئيس بايدن العديد من التساؤلات، إذ إن هذه التهديدات
تعتبر غير مسبوقة، ناهيك عن أن إرسال غواصات الصواريخ النووية يعتبر تغيراً
استراتيجيا مهما في التوتر مع كوريا الشمالية.
يجب البحث عن الإجابة
في العقيدة النووية لكوريا الجنوبية، ففكرة تطوير أسلحة نووية لتحقيق الردع النووي
من قبل كوريا الجنوبية كانت هامشية على مدار عقود إلا أنها انتشرت بشكل واسع في
الأوساط الشعبية خلال الأشهر الماضية، حتى أن رئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول
أثار هذه الاحتمالية خلال اجتماع دفاعي، مما جعله الرئيس الوحيد الذي طرح هذا
الخيار على الطاولة في الآونة الأخيرة.
منذ أشهر تروج أعمدة
الصحف في كوريا الجنوبية لهذه الفكرة ويؤيدها ثلاثة أرباع الشعب في كوريا الجنوبية
بحسب استطلاعات الرأي الداخلية. كانت كوريا الجنوبية تروّج في السابق لفكرة تطوير
أسلحة نووية في السبعينيات، عندما أدارت برنامجاً نووياً سرياً، ولكن عندما اكتشفت
الولايات المتحدة ذلك، أصدرت إنذاراً إلى كوريا الجنوبية لوقف هذا البرنامج.
في الحقيقية ينبغي
النظر إلى الصورة كاملة لفهم التطور في ردة الفعل الأمريكية؛ إذ أن فقدان النفط
لأهميته الاستراتيجية واكتشاف مخزون هائل من النفط في الولايات المتحدة جعل
الاستراتيجيات الأمريكية الدفاعية والاحتوائية تتحول من الشرق الأوسط إلى بحر
الصين الجنوبي والشرقي لمواجهة الصين وبالتبع توجهت الولايات المتحدة إلى أوكرانيا
لاستنزاف روسيا هناك. تقوم استراتيجية استنزاف روسيا، على دعم أوكرانيا بالأسلحة
لتحقيق توازن مستمر بين الدولتين ولإطالة أمد النزاع هناك. واستقدام منظومات
الباتريوت من السعودية واستقدام الأسلحة الأمريكية من قاعدة بغرام وإيصالها إلى
أوكرانيا هو جزء من هذه الاستراتيجية.
وتختلف هذه
الاستراتيجية بالنسبة لاحتواء الصين، إذ أن منع كوريا الجنوبية من صناعة سلاح نووي
يعني فقدان الردع المتقابل، ويعني بالضرورة قواعد عسكرية أمريكية مستقرة بالقرب من
الحدود الصينية تحسباً لأي عملية مواجهة قادمة، ويعني كذلك استيراد أسلحة أمريكية
من قبل كوريا الجنوبية لمواجهة جارتها الشمالية. بالإضافة إلى ذلك فإن إبقاء كوريا
الجنوبية تحت مظلة الحماية الأمريكية يعني كذلك لعب الأولى دوراً مهما في احتواء
الصين اقتصادياً، ولإثبات هذا الدور علينا الإشارة إلى ما نقلته صحيفة "فاينانشال
تايمز" بقولها بأن البيت الأبيض طلب من كوريا الجنوبية حث صانعي الرقائق الإلكترونية
على عدم سد أي فجوة في السوق الصينية إذا حظرت بكين شركة ميكرون التي تتخذ من مدينة
أيداهو الأمريكية مقراً لها، في الوقت الذي تحاول فيه واشنطن حشد الحلفاء لمواجهة
الإكراه الاقتصادي الصيني.
إن استمرار النزاع بين
الكوريتين بهذا الشكل يصب في صالح الولايات المتحدة التي هدد رئيسها بأن أي عمل
عسكري نووي من قبل كوريا الشمالية سيعني نهاية النظام الحاكم في كوريا الشمالية.
تتركز المصلحة الأمريكية بالنسبة لاحتواء الصين بنقل المنافسة من الجانب الاقتصادي،
الذي تتفوق فيه الصين، إلى الجانب العسكري، الذي تتفوق فيه الولايات المتحدة
بامتلاكها ترسانة من الأسلحة النووية ومجموعة هائلة من القوى البحرية التي لا
تمتلكها الصين.
كخلاصة لما تقدم، يعتمد
أفول القوى العظمى وبشكل محدد الصين والولايات المتحدة على مجال الصراع الثنائي؛
فالصراع في المساحة الاقتصادية وتعزيز التجارة بين الشرق والغرب وبناء شبكات الطرق
ومبادرة الطريق والحزام يعني أفولاً للولايات المتحدة؛ وأما نقل مشهد الصراع إلى
الساحة العسكرية فيعني أفولاً صينياً مرتقباً. وعليه فإن كل التحالفات والدعم
العسكري الأمريكي لكوريا الجنوبية وغيرها تتحرك في فلك هذه الاستراتيجيات طويلة الأمد
لاحتواء الصين.