لا أود الدخول في تفاصيل وزواريب الدروشة السياسية
للنظام العربي في مواجهة المكر الطائفي الأسدي أو الإيراني، لكنني وددت وضع محطات
تاريخية تذكر بأن ما تقدم عليه بعض الدول العربية في التطبيع مع عصابات الكبتاغون
أو مع نظام ملالي في إيران هو إعادة المجرب وتدوير المدور لمرات عدة، وقد جربنا
هذا ورأيناه في مناسبات كثيرة خلال السنوات الماضية من وصول نظام الملالي إلى
الحكم في إيران.
ولعل أول ما يقفز إلى الذهن هو الموقف الذي اتخذه نظام
حافظ أسد بالانحياز إلى إيران في حربها على العراق عام 1980، والذي كلّف الخزينة
العربية مئات المليارات من الدولارات، وكلفها لاحقاً ما حصل من غزو عراقي للكويت،
ثم تصدع البيت العربي لا زلنا ندفع ثمنه باهظاً حتى الآن وربما لسنوات وعقود.
وظل حافظ الأسد الأنظمة العربية، وتحت ذريعة ضرورة
وجود قناة تواصل لها من خلاله مع الإيرانيين، يرهن نفسه لطهران. وحين وقعت مجزرة
تدمر ثم حماة ومجازره المعروفة التي ارتكبها في حلب وجسر الشغور وغيرها من مآسي
الثمانينيات، كان حافظ الأسد يبيع الوهم للأنظمة الرسمية على أن خصومه وأعداءه إخوان،
وأنه سيعيد النظر في سياسته بعد القضاء عليهم، وبعد أن تمكن من هزيمتهم عادت حليمة
لعادتها القديمة، وكان ذلك بعد أن حصل على دعم مالي سخي من الدول العربية مقابل
تغيير سلوكه وسياساته، ولكنه بلع الدعم المالي وظل على عهده وفياً لإيران ووفياً
لنهجه الطائفي الذي نحصد نتائجه اليوم.
وهنا يذكر ميشال سورا في كتابه القيم الدولة المتوحشة
كيف التفت حافظ الأسد إلى ذلك مبكراً بتوسيع تحالفاته
الطائفية، لخشيته على ما
يبدو من تعرض النظام لانتفاضة سنية، فقام بتوسيع تحالفاته مع المليشيات الطائفية
مع لبنان وإيران والعراق وباكستان وأفغانستان، وهذا الأمر يذكره سورا على أنه نهج
للأسد، وهو الذي كتب كتابه في الثمانينيات، مما يؤكد أن نهج الأسد الأب هذا كان مبكراً
ومتشوفاً لما ستؤول إليه الأمور.
رأينا عشرات الحالات من هذا الابتزاز السوري، ولذا نرى بأن ملف المعتقلين أمن قومي بالنسبة للنظام، فهو يبتز ويساوم فيه الداخل والخارج من أجل بقائه في السلطة، ولو كان ذلك على حساب معاناة الملايين من السوريين
طوال فترة بقاء قوات حافظ الأسد في لبنان تحت لافتة
قوات الردع العربية، والكل يعرف أنها قوات سورية خالصة، كان حافظ يحصن نفسه من
جبهة لبنان التي كانت صداعاً لكل حاكم سوري، حيث كانت معظم الانقلابات والتحركات
والتمردات تأتي من هناك، فعزز حلفه الطائفي واستبدل الشيعة الموالين لإيران
بالموارنة، وهو ما حصده في مواجهة الثورة السورية اليوم.
وطوال فترة بقائه في السلطة كان يبتز العالم الغربي
كله من خلال سلاح خطف الأجانب، ديبلوماسيين وصحافيين، بحيث تختطفهم جماعات شيعية
موالية له، ليقوم هو بالدور الإيجابي في التفاوض على دمائهم، وهو ما تكرر في حالة
خطف الطائرة الباكستانية من قبل منظمة ذو الفقار الشيعية عام 1980، وقام علي دوبا
يومها بالتفاوض مع الأمريكيين على أساس أن هناك رعايا أمريكيين على متنها.
وقد رأينا عشرات الحالات من هذا الابتزاز السوري، ولذا
نرى بأن ملف المعتقلين أمن قومي بالنسبة للنظام، فهو يبتز ويساوم فيه الداخل
والخارج من أجل بقائه في السلطة، ولو كان ذلك على حساب معاناة الملايين من
السوريين.
من الصعب التعامل مع نظام ليس له مصداقية داخلية، ولا دولية، ورأسماله الابتزاز والمكر، وبالتالي ستظل الدول وتحديداً دول الجوار تعيش مترقبة، وحذرة من كل خطوة يخطوها
اليوم دخلنا إلى سلاح جديد للابتزاز وهو سلاح
المخدرات
والكيماوي، ولذا نراه يرسل ملايين حبوب الكبتاغون إلى الخليج والأردن والغرب وحتى
أمريكا وشرق آسيا، وإغراق السوق بهذه المخدرات، وهو واقع دفع السلطات الأمريكية
إلى إطلاق صفة ملك الكبتاغون على بشار الأسد. وقدرت بريطانيا حجم عائدات المخدرات
لدولة بشار بـ57 مليار دولار سنوياً، بحيث غطت أكثر من 80 في المئة من مستهلكات
العالم من هذه الآفة الخطيرة. وعلى الرغم من حالة التطبيع المستمرة بين النظام
والسعودية، اكتشفت الأخيرة شحنة قدرت بعشرة ملايين حبة، أي ما يعادل ملياري دولار،
وبالتأكيد كما قيل إن ما يتم كشفه من مخدرات يعادل عُشر ما يصل إلى المحطات
المستهدفة.
طبعاً من خلال تجارة الكبتاغون وتصديرها يساوم النظام
هذه الدول على تطبيع العلاقات معه، وإلاّ فإن إغراق سوقها بآفة المخدرات سيتواصل،
وهو ما ستدفع ثمنه باهظاً قريباً وبعيداً على مستوى الشباب ومجتمعها، وتفكيكه من
الداخل.
أخيراً من الصعب التعامل مع نظام ليس له مصداقية
داخلية، ولا دولية، ورأسماله الابتزاز والمكر، وبالتالي ستظل الدول وتحديداً دول
الجوار تعيش مترقبة، وحذرة من كل خطوة يخطوها، وبالتالي جهدها منصب على صدّ
عائداته ومكره، وليس على التعاون الإيجابي معه، وهو ما ظهر بتجنيد أكثر من ثمانية في
المئة من قوة الأمن الأردنية لحماية حدودها منذ بدء التطبيع معه عام 2017.