سياسة «فرّق تسد» هي أقدم وصفات السيادة على جماعات من البشر، وعلى الأخص في مجال التوسّع الإمبراطوري الذي يتعلّق بالهيمنة على أمم وشعوب بأسرها. وهي بكل وضوح السياسة التي تتّبعها
الولايات المتحدة في بسط هيمنتها على العالم وتمتينها، إذ تسعى دائماً وراء إيجاد أسباب لجعل أكبر عدد من الدول، لاسيما الثريّة منها، تخضع لوصايتها من باب الارتهان بحمايتها. فإن مغالاة الولايات المتحدة المفاجئة في العداء للشيوعية والاتحاد السوفييتي إثر الحرب العالمية الثانية، بعد أن شكّل تحالفها مع موسكو ركناً أساسياً في القضاء على ألمانيا النازية والإمبراطورية اليابانية المتحالفة معها، إن تلك المغالاة، التي أدّت إلى تدخّل أمريكا المدمّر في كوريا بدءاً من عام 1950 سعياً وراء الحؤول دون انتشار العدوى من انتصار الشيوعيين في
الصين في خريف العام السابق، تلك المغالاة إذاً، التي دشّنت ما سمّي «الحرب الباردة» بين واشنطن وموسكو (وقد تخلّلتها حروب ساخنة عديدة بالوكالة) إنما كانت أساسية في دفع أوروبا الغربية واليابان وغيرهما إلى الارتماء في أحضان أمريكا. وقد كان الحلف الأطلسي في عام 1949 وبعده المعاهدة الأمنية بين أمريكا واليابان في عام 1951 ثمرتي السياسة المذكورة.
وعندما وجدت أمريكا نفسها في ورطة بنتيجة غرقها في حرب مدمّرة ثانية في جوار كوريا، في فيتنام، وقد واجهت أزمتين متزامنتين إحداهما اقتصادية بسبب مفاقمة الحرب لأثر صعود المنافسة الاقتصادية بين الدول الغربية على ميزان المدفوعات الأمريكي، وثانيتهما أخلاقية سياسية تمثّلت برفض واسع للحرب في صفوف الشبيبة الأمريكية وإدانة واسعة لها في الرأي العام العالمي، فطُنت واشنطن لوجه آخر من الوصفة الإمبراطورية القديمة التي تدعو أيضاً إلى التفرقة بين الأخصام أنفسهم. فقد أشرف هنري كيسنجر على قلب سياسة العداء الأمريكية إزاء الصين الشيوعية إلى صداقة، بل وإلى دعم لهذه الأخيرة في صراعها مع الاتحاد السوفييتي الذي كان قد بدأ في مستهل الستينيات من القرن المنصرم.
هذا وقد استخلص نظير كيسنجر الجمهوري لدى الحزب الديمقراطي، زبغنيو (زبغنييف) بريجينسكي، استخلص العبرة من التجربة التاريخية في كتابه رقعة الشطرنج الكبرى بما أسماه «الضرورات الثلاث الكبرى للجيوستراتيجية الإمبراطورية» وقد لخّصها على الوجه التالي: «منع التواطؤ بين الأولياء والإبقاء على ارتهانهم الأمني، والإبقاء على الأتباع في حالٍ من الوداعة والحماية، ومنع الأعداء من توحيد صفّهم». بيد أن إدارة بيل كلنتون الديمقراطي، وقد أشرفت على الحقبة الانتقالية التي عقبت نهاية الاتحاد السوفييتي ونهاية «الحرب الباردة» معه، غلّبت المبدأ الأول على الثالث إذ رأت في توتير العلاقات مع روسيا ما بعد السوفييتية والصين كلتيهما طريقاً سهلاً إلى الإبقاء على ولاء دول أوروبا الغربية واليابان لأمريكا بسبب الارتهان الأمني. والحال أن تلك السياسة في ظرف زالت فيه أسباب الصراع الصيني-السوفييتي مع زوال الاتحاد السوفييتي نفسه، كان من شأنها الطبيعي أن تدفع روسيا والصين إلى التعاون بينهما في مواجهة الخصم المشترك.
وقد بلغت سياسة واشنطن في استعداء روسيا والصين على حد سواء ذروة أولى في ظل رئاسة جورج دبليو بوش، لاسيما من خلال إشرافه على احتلال العراق قبل عشرين عاماً، غير مكترث لمعارضة موسكو وبكين (وغيرهما الكثير حتى بين أولياء أمريكا وأتباعها) وذروة ثانية حالياً تحت رئاسة جو بايدن. وقد واصل هذا الأخير السياسة العدائية الاستفزازية إزاء الصين التي دشّنها سلفه الرئاسي دونالد ترامب، في وقت بلغ التوتّر في العلاقات الأمريكية مع موسكو أوجّه مع تهديد فلاديمير بوتين باحتلال أوكرانيا ومن ثم أمره بغزو أراضي الجمهورية السوفييتية السابقة. هذا ولم تبذل واشنطن أي مسعى للحؤول دون وقوع الكارثة من خلال التفاوض مع موسكو سعياً وراء تسوية النزاع، بل نفخت في النار من خلال تحدّي بوتين، وكأنها تتمنى أن ينفّذ وعيده. والحقيقة أنها تمنّت ذلك بالفعل، وقد وقع بوتين في الفخ لقلّة حكمته، فأسدى لأمريكا معروفاً عظيماً بإحيائه ارتهان ولاتها وأتباعها بحمايتها، بل وإرجاع هذا الارتهان إلى ما كان عليه في أسوأ مراحل «الحرب الباردة».
بكل ذلك، بدت أمريكا وتبدو بصورة متزايدة مع مرور السنين بمظهر المفرِّق بامتياز في العلاقات الدولية، تضاهيها روسيا في لعبة التفرقة ذاتها وإن بوزن أقل بكثير يجعلها تركّز جهودها في محيطها المباشر وفي أفقر مناطق العالم جنوبي الصحراء الأفريقية. أما الصين فقد اختارت نهجاً يختلف نوعياً عن نهج القوتين العظميين الآخرتين، وهو نهج يبدو أن نظام الرئيس شي جين بينغ قرّر تصعيده في وجه تصعيد سياسة الاستفزاز الأمريكية إزاء الصين من خلال التحالفات العسكرية المعادية لها والتحرّش في قضية تايوان. فبعد عقود طويلة من دعوة كافة دول العالم إلى الالتزام بميثاق الأمم المتحدة وبإطارها لتسوية النزاعات الدولية، قرّرت بكين المبادرة إلى لعب دور الوسيط على الصعيد الدولي، بدءاً بما أحرزته مؤخراً من نجاح في تسوية العلاقات الدبلوماسية بين المملكة السعودية وإيران.
وقد ترافق ذلك المسعى بإصدار بكين لمقترحات لتسوية النزاع بين روسيا وأوكرانيا، تضمّنت جملة مبادئ مستندة إلى احترام القانون الدولي، منها مبدأ «سلامة الأراضي» الذي يحلو لأوكرانيا التي تعاني من انتهاك روسيا لحرمة أراضيها منذ عام 2014، ومنها الدعوة إلى مراعاة الاحتياجات الأمنية المشروعة لكافة الأطراف والتوقف عن فرض العقوبات بقرار انفرادي، وهي دعوة تحلو لروسيا في مواجهتها لأمريكا. وعليه، قام الرئيس الصيني بزيارته لموسكو في دور الصديق الوسيط، وقد مهّدت لزيارته مكالمة بين وزير خارجيته ونظيره الوزاري الأوكراني وصفها بيان الخارجية الصينية بالودّية. جرى ذلك في جوّ من التكهّن باتصال يعقده الرئيس الصيني ذاته بنظيره الرئاسي الأوكراني، وهو ما طلبه هذا الأخير إثر نشر الصين لمقترحاتها.
ومهما نتج عن المسعى الصيني، وتسوية النزاع بين روسيا وأوكرانيا مهمة صعبة للغاية، إن لم تكن شبه مستحيلة في الظرف الراهن إذ إن الهوة شاسعة بين ما يراه الجانبان حداً أدنى لا تنازل عنه، فإن الصين نجحت في الظهور بمظهر قوة عظمى ساعية وراء السلام بخلاف القوتين العظميين الآخرتين. وهذا من شأنه بلا شكّ أن يعزّز «القوة الناعمة» الصينية على الصعيد الدولي، لاسيما لدى دول وشعوب الجنوب العالمي. وإنها لسياسة طريفة من قِبَل قوة عظمى قلبت السياسة الإمبراطورية القديمة بحيث أمكن تلخيص السياسة التي تنتهجها بشعار «وفّق تسد» وربّما كمن سرّ الأمر في أن الصين لا تسعى (حتى الآن على الأقل) وراء بناء إمبراطورية عالمية قسرية خارج حدودها على غرار روسيا والولايات المتحدة.
(
القدس العربي)