يمر الوطن في ظروف بالغة الصعوبة والخطورة، حيث يتعرض شعبنا لهجمة استيطانية همجية تدعمها حكومة توصف بالأكثر تشدداً وتطرفاً، في ظل انحياز أميركي سافر، وتواطؤ دولي مريب، وتهافت رخيص من قبل دول التطبيع العربي.. ووصول القضية
الفلسطينية إلى حضيض غير مسبوق، في ظل انسداد الأفق السياسي، وعجز
السلطة عن مواجهة المرحلة بتحدياتها وصعابها.
على الصعيد الداخلي لدينا الانقسام الذي يشل أي محاولة للتقدم، كما نشهد حالة ترهل وضعف لمؤسسات السلطة وهياكلها وتراجع مخيف لفصائل العمل الوطني، مع تهميش وتغييب لمنظمة التحرير. وفي السياق ذاته، تعاني البلاد من أزمات اقتصادية متلاحقة، وغلاء في الأسعار، وزيادة تكاليف المعيشة، وما فاقم الأوضاع سوءاً الحصار العربي والضغوطات الدولية، والعقوبات الإسرائيلية المفروضة على السلطة. وفي الأشهر الأخيرة تعقد الموقف أكثر مع إضرابات المعلمين والأطباء والمحامين وسائر النقابات.
إزاء هذا الوضع المعقد والبائس تبرز الأسئلة الملحّة: أين حركة «
فتح» من كل هذا؟ وما المطلوب منها؟ وماذا بوسعها أن تفعل؟
ونطرح هذه الأسئلة على «فتح»، بصفتها «الحزب الحاكم»، ولأنها العمود الفقري للثورة الفلسطينية، وصاحبة القوة الجماهيرية الأكبر، وبالتالي تقع عليها مسؤوليات تاريخية ووطنية كبيرة، بقدر حجمها ومكانتها في الذاكرة الوطنية والإرث الكفاحي الفلسطيني. وهذا لا يعفي من سؤال بقية الفصائل، وسائر المؤسسات والمنظمات الأهلية، والنخب، وجمهور المواطنين.
على الصعيد السياسي، يمكن تفهم حجم الضغوطات الدولية على السلطة للقبول بالتسويات الهزيلة المطروحة، والصمود في وجهها، ومع ذلك ما زال الأداء السياسي غير مقنع، ولا يتوافق مع المطلوب والمتوقع، بل إن القيادة ما زالت تفكر ضمن صندوق «أوسلو»، وتحشر نفسها في قائمة ضيقة من الخيارات، وتحديداً في إطار العمل الدبلوماسي والسياسي، وحتى هذا دون المستوى المطلوب.
على الصعيد النضالي، لا يخفى على أحد تعذر ممارسة الكفاح المسلح، بالشكل الذي عهدته «فتح» في سنوات ما قبل أوسلو، وربما كان هذا خياراً صحيحاً، ولكن «فتح» كانت قادرة في مراحل سابقة على المزاوجة بين العمليات المسلحة والنضال الشعبي المدني خاصة أيام الانتفاضة الأولى. اليوم، تتوارى «فتح» خلف كتائب شهداء الأقصى، وغيرها من الكتائب المسلحة، ضمن علاقة معقدة ومحيرة تتراوح بين الإنكار والتبني، وبين الدعم الخفي لها، ومواجهتها وإضعافها. وفوق هذا تدعو الحركة لتصعيد
المقاومة الشعبية، ولكن دون وضع آليات وبرامج ميدانية، الأمر الذي جعل من المقاومة الشعبية مجرد مبادرات جماعية تتركز في نقاط التماس. وحتى حينما تدعو الحركة في بياناتها للنفير العام، لا تُلحقها بآليات محددة وواضحة، بحيث تتمكن جماهير الحركة من تنفيذ النفير العام بشكل حقيقي.
الأمر المحير أنه حين تطّلع على أسماء الشهداء والجرحى والمعتقلين، ومنفذي العمليات الفردية ستجد أن نسبة كبيرة منهم من أبناء الحركة! وأحياناً من أبناء الأجهزة الأمنية! ولكنك لن تجد خطاباً إعلامياً فتحاوياً مقنعاً يوضح طبيعة العلاقة بين الحركة وما يحدث على الأرض، وموقف الحركة الرسمي منها.
وإذا أتينا للوضع الداخلي وعلاقة «فتح» بالسلطة والحكومة، سنصل إلى مشهد معقد يشبه اللغز. ستجد من يقنعك بأن «فتح» شيء مختلف عن السلطة، ومنفصل عنها، وأن السلطة تديرها شبكة مصالح لمتنفذين وأصحاب رأس المال وبعض البيروقراطيين.. مقابل من يؤكد أن «فتح» هي التي تقود وتدير السلطة.
ثم نأتي للعلاقة الملتبسة والمربكة بين «فتح» والسلطة من جهة، وبين الاحتلال من جهة ثانية، فلا هي قادرة على التصريح بشكل واضح أن هذه العلاقة قائمة على الاشتباك الدائم ضد الاحتلال، وما يترتب على ذلك من تصعيد للمقاومة الشعبية، وخوض مواجهة سياسية عدائية على الساحة الدولية.. ولا هي قادرة على جلب المنافع والمكاسب المفترض تحصيلها من الجهة التي وقّعت معها اتفاقيات وتفاهمات، كتحسين الشروط المعيشية والازدهار الاقتصادي.
وهذا العلاقة المركبة بين «فتح» والسلطة لم تجنِ منها الحركة سوى حصاد الخيبات والسمعة السيئة جراء أخطاء الحكومة وتقصيرها، وممارسات بعض المسؤولين، وما يُنسب إليها من فساد (بصرف النظر عن حجم الحقيقة منها).. أما كل ما تحقق من بناء وإنجازات وتضحيات فهي شبه مغيبة من الذاكرة الشعبية، ويتم تجاهلها، والتعامل معها كتحصيل حاصل.
في الأزمة الحالية التي تشهدها البلاد، حيث أعلنت معظم النقابات المهنية الإضراب، أخذت «فتح»، كما فعلت في المرات السابقة مكانها في مقاعد المتفرجين، أو لعبت أدواراً فاعلة ولكن مواربة، ومن خلال هياكل غير واضحة، وأحياناً باتجاهات متضاربة.. فلم نعرف على وجه اليقين إن كانت مع الإضراب والمضربين، أم مع الحكومة؟ فبعض النقابات تقودها «فتح»، وتواجه حكومة تقودها «فتح»؟ والمشكلة هنا أن النقابات والاتحادات الرسمية، أو تلك التي تم إيجاها كبديل عما هو قائم.. تفتقر لآليات المحاسبة والرقابة والشفافية والانتخابات الدورية، وهناك شكوك في مدى تجسيدها لمصالح ومطالب الفئات التي تمثلها، وشكوك في قدرة القواعد التي انتخبتها على محاسبتها ومساءلتها ومشاركتها في اتخاذ القرارات الحاسمة.
هذا الوضع الذي وصلته «فتح»، وجعلها عاجزة عن اتخاذ مواقف جذرية وفعالة إزاء كل ما تقدم، هو حصاد مسلسل التراجع للحركة والذي بدأ فعلياً منذ زمن بعيد، لكنه أخذ مساراً تسارعياً في العقدين الأخيرين. صحيح أن حالة الضعف والترهل التي تعيشها الحركة لها أسباب كثيرة وعوامل موضوعية، أغلبها خارجية، ولكن السبب الأهم داخلي، يعود أساساً إلى طبيعة الحركة الهلامية، والمرنة، وإلى عدم تجديد أطرها وهياكلها، فالانتخابات والمؤتمرات الحركية تحولت إلى كرنفالات، وفقدت جوهرها ووظيفتها، بسبب سيطرة المركز ورغبته في تقريب «الموالين» واستبعاد المعارضين، بصرف النظر عن الكفاءة والإخلاص.
ومع ذلك كله، ما زالت الحركة تتمتع بحضور جماهيري كبير، وبمكانة مميزة في ضمير الفلسطينيين، وما زال الرهان عليها كبيراً. لاحظنا ذلك في حفل انطلاقة الثورة 2023، خاصة في غزة، حين توافدت مئات الألوف من أبناء الحركة وأنصارها وملؤوا الشوارع، والأمر ذاته تكرر في الضفة الغربية، ولكن بسبب توزع الاحتفالات على مدن عدة لم نلحظ نفس الزخم والحشود الجماهيرية كما شهدناها في القطاع.
ولو دخلت أي بيت فلسطيني، أو زرت أي بقعة في العالم فيها جالية فلسطينية، ستجد هناك فتحاويين، وستجد محاربين قدامى، وشباناً يحملون شعارات العاصفة، وفتيات موشحات بالكوفية، ستجد «فتح» في أهازيج النسوة، وفي عقول المفكرين والكتاب وقصائد الشعراء، وفي الحكايات الشعبية، وفي السجالات السياسية، وانتخابات الطلبة والنقابات.. وستجدها أيضاً في الشوارع والميادين والمخيمات، وفي الجوامع والكنائس والجامعات، وفي التظاهرات الغاضبة، والعمليات البطولية، وعلى نقاط الاشتباك، وفي السجون والمعتقلات، وفي الكتائب المسلحة.. لكن هؤلاء جميعاً يحملون في ذاكرتهم ووجدانهم صورة «فتح» الأصلية، أو كما يريدونها.. وكما يراهنون عليها.. أما «فتح» بهياكلها الراهنة فهي منفصلة عن الواقع.
(الأيام الفلسطينية)