تصوَّر نفسك، إن استطعت، في الأشهر السابقة على جائحة «كوفيد-19». تخيَّل أن يُقال لك آنذاك؛ إن فيروسا جديدا سوف يظهر في
الصين، وينتشر بعد ذلك في مختلف أنحاء العالم، فيصيب قسما كبيرا من سكان العالم، ويقتل وفقا لبعض التقديرات أكثر من 20 مليون شخص، ويقلب الكثير من حياة البشرية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على طول الطريق.
تصور إبلاغك بأن بعض الخبراء اعتقدوا أن هذا الفيروس الجديد يثير تساؤلات حول سلامة أنواع معينة من الأبحاث العلمية؛ إذ عكف علماء الفيروسات على تجميع الفيروسات النادرة في الطبيعة، وجلبوها إلى مرافق في المدن أو بالقرب منها، وفي بعض الحالات يعبثون بها هناك للمساعدة في منع أو تحسين الاستجابة للأوبئة في المستقبل.
تصور أن أيا من ذلك لم يُطرح عليك بعبارات حزبية أو قومية. وتصور أن دونالد ترمب لم يكن رئيسا، وأنه لا أحد قد استخدم مصطلح «أسلحة بيولوجية»، ثم تصور أن السؤال قد طُرح عليك: ما هي فرص أن يكون الحادث المختبري هو أصل الوباء لتبرير نقاش عام وواسع بشأن سلامة هذا البحث؟
ماذا ستقول؟ إن نظرية تسريب
المختبرات يجب إثباتها بشكل حاسم، بعيدا عن أي قدر من الشكوك، لتحفيز مثل هذه المحادثة القاسية، أو إن الأمر قد يكون أكثر احتمالا من عدمه - «رجحان الأدلة»، كما يصفه المحامون في بعض الأحيان - لإنشاء تقدير عالمي بشأن إجراءات السلامة في المختبرات والحكمة من إجراء البحوث، التي يطلق عليها «اكتساب الوظيفة»، والتي قد تجعل مسببات الأمراض أكثر خطورة؟
هذا هو المعيار الذي توصلت إليه أخيرا مجموعة من وزارة الطاقة، التي وفقا لتقارير نشرتها صحيفة «وال ستريت جورنال» يوم الأحد، عدّلت تقييمها الخاص، وانتهت الآن، ولو «بثقة منخفضة»، إلى أن الجائحة بدأت على الأرجح بتسرب في المختبرات. وفي وقت سابق، توصل مكتب التحقيقات الفيدرالية إلى نتيجة مماثلة، فكانت الثقة التي أبداها «معتدلة».
قد توصلت أربع وكالات حكومية أخرى ولجنة استخبارات وطنية إلى وجهة نظر معاكسة، وهي أن الوباء كان له ما يسمى بالأصل الطبيعي أو «حيواني المنشأ». وكالتان أخريان أجرتا استعراضات وصلت إلى نتيجة غير مؤكدة.
لم تقدم أي من قصص المتابعة حول الاستنتاج الجديد لوزارة الطاقة أي دليل جديد يدعم هذا الاستنتاج، مما يجعل الأنباء أقل شبها بانقلاب أو تجلٍّ، لتبرير ادعاءات التبرئة واندفاعات الاتهامات، أكثر من نقطة بيانات إضافية تطفو بجانب نقاط بيانات أخرى كثيرة. رغم أن التسريب قد يكون قد ظهر على وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بك، فإنه لا يشير إلى توافق جديد في الآراء، بل على العكس: تذكير صارخ بتعقيد الحقائق المعروفة، مع روايات مختلفة تفرضها فصائل مختلفة، تحاول فهم نفس الصورة غير المؤكدة. عندما سُئل مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، عن التقرير الذي نشرته «سي إن إن» مؤخرا، لم يكن بوسعه سوى عدم الاكتراث، واعدا بأن الإدارة الأمريكية تبذل كل ما في وسعها للتحقيق في أسباب الوباء، غير أنه اعترف في الوقت نفسه بأن الرأي داخل الاستخبارات الأميركية سمته عدم اليقين والخلاف.
وهذا يضعنا في موقف معرفي غريب فيما يتصل بمثل هذا الغموض؛ إذ يبدو أن الصين لم تتوصل إلى دليل حقيقي، بأي حال من الأحوال، منذ ثلاثة أعوام، ويرجع هذا جزئياً إلى حقيقة مفادها أن التحقيقات تعرضت لعرقلة صينية واضحة إلى حد كبير، مما يعني أن أي شخص يتأمل في أصول الجائحة وأهميتها بالنسبة لسلامة المختبرات، يعمل إلى حد ما من مواقف الغموض والاحتمال، لكن إذا قيل لك في عام 2019؛ إن هذه سوف تكون حالة المعرفة في عام 2023، ألن يبدو غريبا جدا بالنسبة لك، أنه لم يكن هناك نقاش عام واسع النطاق حول الحكمة من البحوث الفيروسية، التي من المحتمل أن تكون خطيرة في هذه الأثناء؟ ذلك أن الزخم الذي استهلكه المسرح المتحزب كان أكثر من ذلك الذي استهلكه الحوار العام بشأن العواقب السياسية المترتبة على مثل هذا الاحتمال، وأن أهم مجموعة من الإصلاحات التي اقترحت حتى الآن، والتي صدرت قبل شهر من قبل لجنة خبراء من المجلس الاستشاري العلمي الوطني للأمن البيولوجي، والتي تُستعرض الآن من قبل البيت الأبيض، قد وضعت معا بهدوء، مع أقل قدر من الاهتمام العام بها، بعيدا عن تلك التي انخرطت بالفعل في مناظرات السلامة المختبرية.
اقترحت حدود الخطاب السائد أن نحل مسألة منشأ الوباء قبل الانتقال إلى الآثار المترتبة على فرضية التسريب المختبري، لكنه أُثبت أنه معيار يشل الحركة، وليس فقط لأن تقدما ضئيلا للغاية قد أُحرز في عمل التحقيقات المركزية. لا شك أنَّ السؤال حول الكيفية التي بدأ بها أشد الأوبئة فتكا في قرن من الزمان، هو سؤال ذو تأثير مهم، لكن الأمر كذلك بالنسبة للخطوات التي ينبغي اتخاذها، نظرا إلى أنَّ الأمرَ يبقى بالنسبة للكثيرين - بمن فيهم أنتوني فوسي - مسألة مفتوحة.
من الناحية الشخصية، أعتقد أنَّه إذا سُئلتُ: ما هي فرص حدوث تفشٍّ عرضي لتبرير التقدير العلني والمشهود على سلامة المختبر؟ سوف أضع الرقمَ أقل بكثير من الدليل الكامل. في الواقع، أقل بكثير حتى من «رجحان الأدلة» - بنسبة 5 في المائة، أو ربما 1 في المائة أو أقل. في الحقيقة، لستُ متأكدا من أنَّه يجب أن يكون أعلى من الصفر، بالنظر إلى أنه في أوائل عام 2020، أقر العديد من هؤلاء العلماء - الذين سيصبحون أشدَ منتقدي نظرية تسريب المختبرات سرا -، بأنَّ أسباب الوباء كانت موضع نقاش كبير، وأنَّ التسريب المختبري كان معقولا تماما - وربما الأكثر احتمالا - لتفسير ظهور «سارس-كوف-2» في ووهان قبل بضعة أشهر.
منذ أن حصل عليها موقع «باز فيد» عبر دعوى قضائية بموجب قانون حرية المعلومات ونُشرت في مقال في يونيو (حزيران) 2021، شكّلت سلسلة من رسائل البريد الإلكتروني بين العديد من كبار أطباء الفيروسات في العالم - التي أُرسلت في اليوم الأخير من يناير (كانون الثاني) والأيام الأولى من فبراير (شباط) 2020 - مجالا واحدا للاهتمام بتسريب المختبرات. وفي إحدى هذه الرسائل، وصف عالم الأحياء التطوري واختصاصي الفيروسات كريستيان أندرسن، من مؤسسة «سكريبس» للأبحاث، الفيروس الجديد، بأنه «لا يتفق مع توقعات نظرية التطور». وفي رسالة أخرى، لخَّص جيريمي فارار، مدير صندوق «ويلكوم» الاستئماني آنذاك وكبير العلماء القادمين بمنظمة الصحة العالمية، وجهات نظر العديد من العلماء الآخرين، بمن فيهم مايكل فرزان من «سكريبس»، الذي وضع احتمالاته على أنَّها «70:30» أو «60:40» لصالح «الإطلاق العارض»، حتى إن فارار نفسه كان يقول إن الاحتمالات هي «50:50».
وفي سلسلة البريد الإلكتروني، قدم علماء آخرون وجهات نظر بديلة، وفضلوا تقديم تفسير طبيعي، وجرى الترتيب لعقد مؤتمر في 1شباط/ فبراير. وبعد أقل من أسبوع، شرع العلماء في إعداد ورقة - نُشرت في الشهر التالي كرسالة في دورية «نيتشر ميديسن»، وتحمل تواقيع العديد من الأشخاص المعنيين، ولكن ليس الدكتور فوسي، الذي ساعد في ترتيب الدعوة - بلغت توافقا في الآراء من المؤسسة البحثية: كان الاحتمال الأكبر أنَّ المرض قد تطور بصورة طبيعية، ولم يكن هناك دليل على وجود مصدر تسرب في المختبر. («تظهر تحليلاتنا بوضوح أن فيروس {سارس-كوف-2} ليس من صنع المختبرات، وليس فيروسا جرى التلاعب به عمدا»، كما كتب المؤلفون بصورة قاطعة).
كما شارك فارار في كتابة بيان صدر في شباط/فبراير في مجلة «ذي لانسيت»، أشار فيه إلى أن من يدفعون بنظريات بديلة ينخرطون في نظريات المؤامرة التي لن تؤدي إلا إلى زيادة التحيز ضد العلماء الصينيين: «ولبرهة من الوقت، نحينا جانبا أن السرد (حيواني المنشأ) السائد كان يعتمد أيضا على بعض المجازات العنصرية، بالتركيز على الظروف غير الصحية لـ(السوق الرطبة) في ووهان، وأن أي عمل يُحقق مكاسب وظيفية يجري في ووهان، كان مرتبطا بالتمويل الأمريكي والشراكات البحثية».
يرى بعض مُنظري التسريب المختبري أن حقيقة التقاء العديد من الخبراء البارزين بهذه السرعة حول الإعلان عن الأصل الطبيعي بعد فترة وجيزة من الإعراب عن شكوكهم، تعد دليلاً على «مؤامرة حيوانية المنشأ»، وهي محاولة منسقة لقمع مناقشة الأصول المختبرية المحتملة لفيروس «سارس كوف-2». ومن جانبهم، وصف العديد من هؤلاء المشاركين دعوة المؤتمر بأنها تبادل صادق لوجهات النظر، و«الإجماع» الذي نشأ بعد ذلك كنتيجة حقيقية للتفكير العلمي والنقاش: كان المزيد من البحث والمحادثة سببا في تحويل الاتصالات الجماعية، بعيدا عن «الممكن» إلى «غير المرجح» أو حتى «غير المحتمل على الإطلاق»، مع فهم أفضل للجينوم الفيروسي، وهو ما من شأنه أن يحل العديد من أسئلتهم الأولية حول سماته، لكن لكي نعتقد أنه يجب أن نتحدث أكثر عن سلامة المختبرات وأبحاث اكتساب الوظائف، لا نحتاج أن نرى مؤامرة في تلك الرسائل الإلكترونية، أو أن نصدق أن أيا من المشاركين في دعوة المؤتمر كانوا يتصرفون بسوء نية، أو أن أولئك الذين يطيلون النقاش على مدى السنوات القليلة الماضية، كانوا يساعدون في أي شيء مثل التستر.
لا نحتاج إلى الاعتقاد بأن الوباء جاء من المختبر، عندما يكون هناك الكثير من الأسباب الوجيهة للتشكيك في عدم حدوثه. كل ما علينا هو أن نصدق هؤلاء العلماء فيما يقولونه: في الأيام الأولى من الوباء، وهم يعلمون ما يقارب معرفة أي شخص في العالم عن جينوم «سارس-كوف-2» وطبيعة الأبحاث في معهد «ووهان للفيروسات»، كانوا يعتقدون أن تسريب المختبر كان ممكنا. هذه الحقيقة بمفردها مخيفة للغاية؛ فقد مات أكثر من 20 مليون شخص على أية حال.
بالفعل، بدأ الجمهوريون في «الكونغرس» تحقيقا في أسباب الوباء؛ إذ أحيت جلسات الاستماع التحقيق الساخن الذي رأيناه في مجلس الشيوخ. يحدث هذا حتى مع بقاء توصيات السلامة المختبرية الصادرة عن المجلس الاستشاري الوطني للعلوم، بهدوء على مكتب الرئيس - وهو أحدث مثال على الطريقة التي يبدو أن النقاش حول أصول الجائحة، بدلا من إثارة المحادثات حول سلامة المختبرات، قد أسفر عن تهميشها.
استمرت المناقشات بشأن سلامة المختبرات طوال الوقت، لكن غالبا ما كان ذلك من النوع الذي لا يجري رصده، أو من وراء الكواليس، والذي وصفته لي فيليبا لينتزوس من «كينغز كوليدج لندن» - أحد القادة، مع غريغوري كوبلنتس، من مشروع جامعة جورج ماسون العالمي للمختبرات الحيوية - بأنه «عمل غير مرئي». وفي إطار مبادرة التهديد النووي، اقترحت أنجيلا كين وغيرها، «آلية تقييم مشتركة» من شأنها البدء تلقائيا في التحقيق في أصول أي تفشٍّ جديد، على سبيل المثال.
تمكن الملياردير البغيض السابق سام بانكمان-فرايد لفترة وجيزة من رفع مسألة السلامة في المختبرات إلى شغف كبير في «الكونغرس»، ولكن حتى في ذلك الوقت، فإنها لم تلقَ إلا بالكاد قدرا ضئيلا من الاهتمام العام. ولعل الأمر الأكثر لفتا للنظر، هو أن كل هذا حدث عندما يعتقد أكثر من نصف الأمريكيين، وفقا لاستطلاع الرأي الأكثر جدارة بالثقة، أن الفيروس نشأ بالفعل من المختبر.
(الشرق الأوسط اللندنية)