ليس لمؤتمر العقبة الخماسي الذي عقد يوم الأحد بعد مجزرة نابلس إلا هدف واحد أساسي: حماية أمن إسرائيل. الغطاء عربي والرعاية أمريكية، والآمر الناهي إسرائيل، والمتلقي
السلطة الفلسطينية التي هانت وضعفت ووضعت في هذا الوضع المشين تحت حجة أنها أجبرت على ذلك، وكأن المواقف الشجاعة، التي لم تعودنا السلطة على اتخاذها، تحتاج تبريرا أو إذنا من أحد. كل ما كتب وكل ما نشر وكل ما تفوهت به وسائل إعلام السلطة وكل التصريحات التي أدلى بها رموز أو ممثلو السلطة، ذر للرماد في العيون، السؤال الوحيد الذي جيء بالمجموعة الخماسية للاستماع له مطروح من الجانب الإسرائيلي وموجه للجانب الفلسطيني: هل بإمكانكم منع
المقاومة والتحريض الوطني وانضمام مزيد من المقاتلين إلى الحراكات المسلحة الأخيرة في نابلس وجنين والآن أريحا وطولكرم؟ «نحن نضطر للدخول إلى مناطق نفوذ السلطة لأنكم عاجزون عن قتل أو اعتقال الناشطين. فإما أن تقوموا بهذا الدور وعلنا وبلا مواربة وتحايل وإلا سنقوم به نحن»، هذا لسان حال الكيان.
كل النقاط الأخرى التي أقحمت في البيان الختامي لا قيمة لها، لا من قريب ولا من بعيد لأنها غير صحيحة وغير قابلة للتطبيق وإسرائيل لن تلتزم بأي منها كما يعرف المشاركون في لقاء العقبة. لقد شكّل المجتمعون لجنة خماسية لمتابعة التهدئة (أي وقف أي عمل مقاوم) ووقف التحريض (أي قول أو عمل يمجد المقاومة والصمود). وقد وضع الخمسة أمام أجهزة أمن السلطة جدولا زمنيا دقيقا للتنفيذ وسيعودون لمراجعة السلطة بعد أسبوعين فقط أي 10 آذار/مارس وقبل حلول رمضان بأسبوعين للمزيد من الضغط وتوزيع المهام. ويبدو أن السلطة بدأت تنفذ بند منع التحريض ووقف أي نشاط وطني يمجد المقاومة، أو يحرض ضد الاحتلال، فقد منعت الأجهزة الأمنية الفلسطينية الأربعاء الماضي، عقد مؤتمر صحافي لـ»المؤتمر الشعبي الفلسطيني 14 مليون»، حيث أغلقت أولا مكتب التحالف الشعبي، الذي كان قد أعد بيانا عليه توقيع 150 شخصية وازنة تطالب بانتخابات فلسطينية «بعد أن أصبح الوضع الفلسطيني كارثياً»، حسب البيان. وبعد إغلاق المقر ذهب المحتجون إلى مقر تلفزيون «وطن» فمنعوا كذلك من دخوله من قبل قوات أمنية.
دلائل اجتماع العقبة
إن اللحظة الفارقة التي عقد فيها اجتماع العقبة الأمني، تشير بوضوح إلى وصول حالة النهوض الوطني الفلسطيني وشراسة الفاشية الصهيونية لحظة الانفجار. فبعد وصول الثلاثي نتنياهو – بن غفير- سموتريتش، أصبح الحديث المتداول والمتفق عليه «حسم الصراع» مرة وإلى الأبد. وقد أعلن نتنياهو ذلك بكل وضوح قائلا، إن التطبيع مع السعودية سيعني «انتهاء القضية الفلسطينية»، لكن التغول الصهيوني في عهد هذ الفاشية قابله الشعب الفلسطيني بمزيد من الصمود والرد على كل مذبحة يرتكبها الكيان بعملية نوعية قد لا تكون بالقوة والحجم والخسائر نفسها، لكن الشعار «إذا كنتُ سأتألم سأجعلهم يتألمون أيضا» وهذا ما حدث. كانوا يدركون بحكم تجربتهم التاريخية مع الفلسطينيين، أنه كلما صعّدت إسرائيل أعمالها الإجرامية، رصّ الشعب الفلسطيني صفوفه وأصبح أكثر عزيمة وقوة وتصميما، وأن المفردات التي تتعلق بالهوان والاستسلام غير موجودة في القاموس الفلسطيني. في الوقت نفسه وبالتزامن مع معادلة القمع الصهيوني والرد الفلسطيني الموجع، تنكشف هشاشة القيادة ورخاوتها وانكفاء الناس عنها تماما، فلا تسمع إلا ما هو سلبي ونقدي وتجريحي. وأصبحت هذه السلطة واقعة بين نارين، فلا إسرائيل راضية عنها، لأنها عاجزة عن احتواء المد الوطني الشامل، ولا الشعب الفلسطيني راضٍ عنها، لأنها مستمرة في التنسيق الأمني والتراجع عن كل ما تعد به، وكان آخر خدماتها التي قدمتها مجانا للولايات المتحدة والكيان الصهيوني هو التراجع عن مشروع قرار يدين الاستيطان ويطالب بوقفه فورا واستبداله بـ»بيان رئاسي» يدين الفلسطينيين أكثر مما يدين إسرائيل. لقد باتت السلطة بعد تلك التغولات والمجازر والتراجعات، على وشك الانهيار. فكان اجتماع العقبة ليمد السلطة بجهاز تنفس اصطناعي لتكمل مشوارها في قمع الفلسطينيين وضبط توجهاتهم الوطنية. ولكنها بحاجة إلى إمكانيات من جهة، وغطاء عربي من جهة أخرى، وهو ما تم ضمانه في العقبة. وتقول الأخبار إن نحو 5000 عنصر أمن فلسطيني يجري تدريبهم الآن في الأردن (على الأقل لم ينف أحد من المسؤولين هذا الخبر، على حد علمنا). وهذا ما تعهد به مسؤول الأمن الأمريكي الذي شارك في اجتماع العقبة، وذلك متابعة لمآثر سلفه دايتون الذي حوّل أجهزة الأمن الفلسطيني إلى أدوات قمع لشعبها بدل أن تكون مخارز تسمل عيون الأعداء. والمهمة التي ستوكل للقوة الجديد هي اقتحام نابلس وجنين، واعتقال كل الكتائب المقاتلة هناك وضبط الساحة تماما، كي يوفروا على إسرائيل الاقتحامات، وتتحول المواجهات بين الشعب الفلسطيني وأجهزة الأمن المرتبطة مع برنامج الكيان.
النقطة الأخرى التي أفرزتها العقبة، أن أنصاف المواقف لم تعد مقبولة من الدول التي وقّعت اتفاقيات سلام مع الكيان الصهيوني. إسرائيل في ظل حكومة فاشية قادمة لإنهاء القضية الفلسطينية (هكذا يتوهمون)، لا تقبل أن تبقى مصر والأردن في منطقة وسطى فعندما يجد الجد ويصبح الأمن الإسرائيلي كله على وشك التصدع، فلا بد لهذه الحكومات أن تقوم بدورها في عملية قمع النهوض الفلسطيني، رغم علم الحكومتين تماما بمواقف الشعبين الأردني والمصري، اللذين لو أتيحت لهما الظروف المناسبة لساهموا في تحرير فلسطين من دون أدنى تردد. لكن القرار في هذه الدول في المحصلة النهائية مرتبط بالولايات المتحدة وقرار الولايات المتحدة مربوط بالكيان الصهيوني. لا مجال للمناورة. أمن الكيان في خطر والنهوض الوطني الفلسطيني في تصاعد، إذن لا بد من قمعه جماعيا، تكون قوات الأمن الفلسطينية رأس الحربة مدعومة من الدول الأربع الأخرى.
بعد العقبة
جاءت عملية حوارة ردا على مجزرة نابلس، التي استهدفت مستوطنين اثنين، فكان الهجوم الشامل ليس على حوارة فحسب، بل على عشرات القرى. لكن حوارة تعرضت إلى تدمير وحرق عشرات البيوت وحرق مئات السيارات وتدمير البنى والطرق وقطع الأشجار، ما ذكّر الفلسطينيين بأيام النكبة الفلسطينية. المستوطنون المسلحون كانوا يحطمون كل ما يقع تحت أيديهم وبحماية الجيش. والغريب أن نتنياهو بعد أن تركهم يلغون في الدم الفلسطيني طالب الالتزام بالقانون. أي مهزلة أكثر من هذه؟ فكان الرد الشعبي الفلسطيني في أريحا. قد لا يكون بالحجم والقوة والتدمير نفسها، لكن الحقيقة التي بات كل مسؤول صهيوني يدركها أن الشعب الفلسطيني لن يستسلم ولن يرفع الراية البيضاء ولن يسمح للعابثين بأمنه وكرامته أن يتسيدوا الموقف. إنها مسألة وقت وكل الأجهزة الصناعية لن تفلح في ضخ الحياة في من يحتضر. لقد طالب سموتريتش بمحو بلدة حوارة عن الوجود «أعتقد أن على دولة إسرائيل أن تفعل ذلك وليس على أفراد عاديين». وكان في ذلك يؤيد تصريح نائب مجلس المستوطنات في شمال الضفة الغربية دافيدي بن صهيون، الذي دعا في تغريدة إلى «محو حوارة عن الوجود اليوم». العالم صم آذانه عن هذا التصريح. تخيلوا معي لو أن وزيرا فلسطينيا، أو رئيس حزب، أو فصيل أطلق الجمل نفسها، ولكن على «مستوطنة أرئيل أو مستوطنة معاليه أدوميم»، لقامت الدنيا ولم تقعد. إنه عالم النفاق والخداع. ولم يبق للشعب الفلسطيني إلا أن يعتمد على نفسه مستندا إلى جماهير أمته. فكل هذه الاجتماعات تهدف إلى شيء واحد، تدمير القضية الفلسطينية وإعلان انتصار الكيان الصهيوني وهذا لن يحدث أبدا.
(القدس العربي)