هيثم مناع
في 25 شباط/فبراير 2023 يمر عام على ما
تسميه موسكو "العملية العسكرية الخاصة"، وما يسميه الناتو والاتحاد الأوروبي
"العدوان الروسي على أوكرانيا". كانت بداية العملية القشة التي قصمت ظهر
البعير، كما يقول المثل؛ لأن جائحة الكورونا وحدها، هي التي أخرت هذه العملية، لأن
المخابرات العسكرية الروسية، كانت تعلم، أكثر من الموقعين على اتفاقية مينسك، بما
صرحت به المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، بأن هذه الاتفاقية لم توقّع من
أجل تنفيذها، بل لإعطاء أوكرانيا الوقت اللازم لبناء قدراتها العسكرية.
وقد حاولت مع عدد من الزميلات والزملاء
تقديم تصورنا لما يمكن أن تودي إليه هذه
الحرب بعد ثمانين يوما من تصعيدها،
وتوصلنا إلى نتيجة موجزها: "نحن نعتقد أن الحكمة البشرية، بفطرتها، ومنطقها
وتجارب الحياة على اختلافها، تتفق على أن الحرب، أية حرب، قذرة بالضرورة، لذا فليس
المهم قياس درجة القذارة والتوحش، للحديث عن جرائم حرب. ففي حرب كهذه، لا يوجد
رابح وخاسر، بل خاسر وخاسر... ومن وراء المشهد، ومنذ الأيام الأولى، احتفل تجار
الحروب بغنائمهم." (من مقدمة كتاب العصي الغليظة).
الأمر الذي لم يمنع عددا من الكتّاب من طرفي
جبهات القتال أن يكتب لنا أو ينتقدنا، البعض ليتحدث عن مفهوم "الحرب
الشرعية" والآخر عن "حق الشعوب في مقاومة العدوان".. ولكن كما كان
يقول الفقيد حسين العودات: "الوقائع، وليس السيف، أصدق أنباء من الكتب، في
حدها الفرق بين الجد واللعب". وهذه الوقائع كانت أكثر من مؤلمة وكارثية، في
نتائجها على الشعوب الفقيرة والمهمشة في النظام العالمي، في تحطيمها للبشر والزرع
والحجر في عموم أوكرانيا، في ارتفاع وتيرة "التطرف القومجي" في القارة
الأوروبية برمتها، في التراجع على صعيد الحقوق الإنسانية الأساسية ليس فقط في
روسيا وأوكرانيا، وإنما على الصعيد العالمي.
كل الإجراءات المتعلقة بحرية التعبير في روسيا والدول الغربية، اعتمدت على مبدأ منع الرأي الآخر وحجبه. أصبحت أية وجهة نظر نقدية تضع على صاحبها بصمة "العدو"، أو في أحسن الأحوال: المتواطئ مع العدو.
يحتاج الحديث في
نتائج 12 شهرا من الحرب
الهجينة إلى مجلد على الأقل، ولكن ثمة عناوين لفصول مجلد كهذا، سنحاول في هذه
الأسطر تسجيلها، للتذكير، بأن اختيار العنف في يومنا هذا وسيلة لأية غاية، مهما
كانت "سامية"، لن يحصد سوى الدمار.
ـ بلغ الدين العام الأمريكي 31 ألف مليار
دولار، مقابل 13500 مليار دولار للاتحاد الأوروبي و12600 مليار دولار للصين (عدد
سكان الصين هو ضعف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مجتمعين). بلغت خسائر البنك
المركزي السويسري لعام 2022 قرابة 134 مليار فرنك سويسري (تقريبا دولار أمريكي).
ـ طالب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في
الأمم المتحدة العالم بالاختيار بين الغرب والروس، كانت النتيجة كما يقول عالم
الأنثروبولوجيا الفرنسي إيمانويل تود: لم يقف 75% من سكان العالم مع الغرب.
ـ كل الإجراءات المتعلقة بحرية التعبير في
روسيا والدول الغربية، اعتمدت على مبدأ منع الرأي الآخر وحجبه. أصبحت أية وجهة نظر
نقدية تضع على صاحبها بصمة "العدو"، أو في أحسن الأحوال: المتواطئ مع
العدو.
ـ فُرض الاصطفاف على كل السياسيين
والإعلاميين والبحاثة، ولأول مرة منذ التجربة السيئة الذكر للمكارثية في الولايات
المتحدة الأمريكية، تخرج قوائم بمن له علاقة ما بالجبهة الأخرى، ولو كان بالزواج
المختلط أو الصداقة، لا تختلف كثيرا عن القوائم السوداء التي شهدناها في الحرب على
الإرهاب. عندما تطالب المرشحة الفرنسية السابقة للانتخابات الرئاسية الفرنسية
سوغيلين رويال بمفاوضات سلام، تصنف على الفور في معسكر "الدفاع عن الرئيس
الروسي بوتين"، قناة LCI الفرنسية
تحولت إلى قناة مختصة: "الحرب في أوكرانيا".
ـ نفس آليات التمجيد بالإسلاموفوبيا
والتعبئة ضد المسلمين في الغرب، جرى إعادة إنتاجها تجاه كل ما هو روسي، ولد مصطلح
علماوي pseudo-scientific اسمه
"الشخصية الروسية بعد السوفييتية"، وأصبح الروسي الوحيد المقبول غربيا
هو الروسي ـ اللاروسي.
ـ خلال عام، اعتبر كل من يحاول التقريب بين
التعبيرات المدنية أو إقامة حوار أو خيوط تفاوض في الجبهتين، متواطئا مع السلطات
الروسية أو الناتو.
ـ الالتحاق بجبهة القتال في الطرفين، تذكرنا
بالحديث المأثور "الإسلام يجبّ ما قبله": كل مجرمي الحق العام في السجون
الروسية يمكن أن يتحولوا إلى أبطال عند التحاقهم بفاغنر، حتى مقاتلو القاعدة من
الألبان والشاشان إلخ، في محافظة إدلب، يمكنهم الالتحاق بالجبهة الأوكرانية لقتال
العدو الروسي.
ـ لم تتوقف القرارات الرسمية
"جدا" عند الاعتقال التعسفي أو الاختفاء القسري على الجبهة الروسية أو
حظر أحزاب المعارضة الأوكرانية في كييف، قائمة الضباط الروس المبعدين أصبحت من
عاديات الأمور، وفي الطرف الآخر، رئيس جهاز الأمن الأوكراني (SBU) ، إيفان باكانوف، صديق طفولة فلودومير
زيلينسكي ومنتج عروضه، وكذلك المدعية العامة إيرينا فينيديكتوفا، جرى تسريحهما
بسبب عدم الكفاءة في القيام بالواجب القومي. ولن يتمكن أحد من القيام بأكثر من
صلاة الغائب على روح وزير الداخلية الأوكراني، الذي سقطت مروحيته في حادث لم يتبنه
أحد.
كل مجرمي الحق العام في السجون الروسية، يمكن أن يتحولوا إلى أبطال عند التحاقهم بفاغنر، حتى مقاتلو القاعدة من الألبان والشاشان إلخ، في محافظة إدلب، يمكنهم الالتحاق بالجبهة الأوكرانية لقتال العدو الروسي.
ـ انتخب هذا العام اليمين المتطرف الهنغاري
في انتخابات "حرة ونزيهة"، ثم جاء أيلول الأسود الأوروبي، حيث في غضون
أيام عشرة، وصل اليمين المتطرف إلى السلطة في السويد في 15 أيلول/سبتمبر، وشكل فوز
ائتلاف يميني متطرف في الانتخابات التشريعية الإيطالية في 25 أيلول/سبتمبر 2022، أول
عملية تطبيع مؤسساتية مع المعجبين بموسوليني. أما انتخاب ماكرون في فرنسا، فاختصره
إيمانويل تود بالقول: "جرى تخيير الفرنسيين بين ماكرون وماكرون"، أي
انتخابات تحجيم الخسائر؟ ويمكن القول بعد البريكسيت البريطاني و"الفوضى
السياسية" الألمانية، بأن بالإمكان الحديث عن الموت الكلينيكي لاتفاقية ماسترش.
ـ لم ندخل فقط في عالم تسطيح المعارف وتزوير
الوقائع، بل صار ذلك شرطا واجب الوجوب للمشاركة في "الحرب المشهدية"،
التي تشكل كما يقول ضابط فرنسي متقاعد من المخابرات الفرنسية صار خبيرا عسكريا:
"انتصار أوكرانيا، سيكون أولا في الإيمان بهذا النصر، وهذا يحتاج إلى تنظيف
العقول من الأكاذيب الروسية".
ـ الأخضر الألماني دانيال كوهن-بينديت، الذي
حمل شعار "أحمر ولا ميت" في أثناء الحرب الباردة، ووقف ضد تدخل الناتو في
ليبيا، أصبح شعاره: "العداء البدائي للولايات المتحدة مرض على بعض الأوربيين
العلاج للتخلص منه"؟
لعل السلوفاكي سلافوي جيجيك، الفيلسوف
والمحلل النفسي أفضل من يختصر المشهد بالقول: نحن في عالم ما فوق الجنون.
*مفكر وناشط حقوقي