لقد
حظي مشروع القرار الأخير الذي صاغته دولة الإمارات العربية المتحدة، ممثلة جامعة
الدول العربية في مجلس الأمن الدولي، بالتعاون مع السلطة
الفلسطينية، لإدانة خطط
إسرائيل الاستيطانية المستمرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بترحيب وحماس كبيرين
قبل أن تُجبَر الإمارات والسلطة الفلسطينية، في اللحظة الأخيرة، على سحب مشروع
القرار بموجب أوامر أمريكية أصدرتها إدارة بايدن. وقد كان مشروع القرار يهدف
لإدانة قرار مجلس الوزراء الإسرائيلي الأسبوع الماضي بمنح الشرعية لتسع مستوطنات
يهودية في
الضفة الغربية، والموافقة على خطط لبناء 10000 منزل جديد للمستوطنين اليهود في القدس الشرقية.
وقد
قامت الولايات المتحدة بحثّ أعضاء مجلس الأمن على عدم طرح القرار للتصويت، واقترحت
بدلا من ذلك تبنيهم لبيان رمزي مشترك "يمكن لواشنطن أن تدعمه". وقبل
يومين من موعد التصويت المتوقع، اتصل وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن
شخصيا بمحمود عباس، وأمره بسحب القرار على الفور، وقد امتثلت السلطة الفلسطينية
للأوامر على النحو الواجب. وقد استبدلت دولة الإمارات، وبدعم من السلطة
الفلسطينية، القرار ببيان رئاسي غير ملزم، بناء على الأوامر الأمريكية.
وقد
كانت هذه أحدث مناورة تقوم بها السلطة الفلسطينية لتجنب تقويضها الذي توقعه الكثير
من المراقبين الإسرائيليين والعرب. في الواقع، وعلى الرغم من جميع الاحتجاجات التي
أطلقتها السلطة الفلسطينية ضد حكومة نتنياهو في حملة علاقات عامة، فقد ناشد مسؤولو
السلطة الفلسطينية، بناء على أوامر من البيت الأبيض، نتنياهو حتى قبل أن يتولى
منصبه، لفتح قناة خلفية سرية للمحادثات، كي يتمكنوا من تقديم المزيد من خدماتهم
للإسرائيليين، على أمل ضمان بقاء السلطة الفلسطينية قائمة. أما نتنياهو، الذي رفض
بازدراء شديد التعامل مع السلطة الفلسطينية لمدة عقد من الزمن تقريبا، وقام بتعليق
ما كان يسمى بـ"عملية السلام"، فقبِل العرض على الفور تحت ضغط الولايات
المتحدة.
على الرغم من جميع الاحتجاجات التي أطلقتها السلطة الفلسطينية ضد حكومة نتنياهو في حملة علاقات عامة، فقد ناشد مسؤولو السلطة الفلسطينية، بناء على أوامر من البيت الأبيض، نتنياهو حتى قبل أن يتولى منصبه، لفتح قناة خلفية سرية للمحادثات، كي يتمكنوا من تقديم المزيد من خدماتهم للإسرائيليين، على أمل ضمان بقاء السلطة الفلسطينية قائمة.
وكان
وزير الشؤون المدنية الفلسطيني حسين الشيخ، هو من نقل الرسالة إلى مكتب نتنياهو من
خلال إدارة بايدن، وهي الرسالة التي تم إرسالها للمرة الثانية بعد أداء حكومة
نتنياهو اليمين. ويعتبر حسين الشيخ، الذي يشغل منصب السكرتير العام لللجنة
التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، حلقة الوصل الرئيسة ما بين السلطة
الفلسطينية والولايات المتحدة وإسرائيل.
وقد
عيّن نتنياهو مستشارَ الأمن القومي تساحي هنغبي لإجراء المحادثات السرية. وتوصل
هنغبي والشيخ خلال هذه المحادثات، التي أجريت شخصيا عبر الهاتف، إلى اتفاق أدى
إلى سحب السلطة الفلسطينية والإمارات لمشروع قرار مجلس الأمن. وقد طالب
الإسرائيليون السلطةَ الفلسطينية بوقف الإجراءات القانونية في المحكمة الجنائية
الدولية ومحكمة العدل الدولية. ومن جانبهم، وبحسب ما أدلى به هنغبى أمام مؤتمر
رؤساء المنظمات اليهودية في أمريكا الشمالية، فقد "طالب الفلسطينيون إسرائيل
بوقف الخطوات الأحادية الجانب، مثل التوغل في المدن الفلسطينية". وأضاف أنه
أبلغ الفلسطينيين أن إسرائيل "لا تريد إرسال الجيش الإسرائيلي إلى مدينتي
جنين ونابلس بالضفة الغربية"، ولكنها تفعل ذلك لأن قوات الأمن التابعة للسلطة
الفلسطينية "لا تقوم بذلك بنفسها". وقد عرضت إسرائيل بسخائها المعهود
تقديم "المساعدة" لقوات السلطة الفلسطينية للقضاء على
المقاومة في مدن
الضفة الغربية.
أما
المذبحة الإسرائيلية الأخيرة التي راح ضحيتها 11 فلسطينيا في نابلس، وأسفرت عن
إصابة أكثر من 100 شخص، فتشير إلى أنه على الرغم من المساعدة الإسرائيلية، فقد أثبتت
قوات السلطة الفلسطينية أنها غير قادرة على إخماد المد المتصاعد للمقاومة
الفلسطينية بنفسها. وقد قام الوزير بلينكن، الذي زار عباس قبل بضعة أسابيع، بإصدار
الأوامر إلى عباس بتنفيذ "خطة أمنية أمريكية، تهدف إلى إعادة سيطرة السلطة
الفلسطينية على مدينتي جنين ونابلس، اللتين أصبحتا بؤرة للاضطراب". وتمت
صياغة الخطة الأمنية من قبل "منسق الأمن الأمريكي اللفتنانت- جنرال مايكل
فنزل". وتتضمن الخطة "تدريب قوة فلسطينية خاصة، سيتم نشرها في هذه المناطق"
للقضاء على المقاومة الفلسطينية. ويشغل "فنزل" منصب المنسق الأمني الأمريكي للسلطة
الفلسطينية وإسرائيل منذ شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2021.
وليس "فنزل" بشخصية ثانوية، بل لديه خبرة كبيرة في استراتيجيات قمع مقاومة العرب
والمسلمين للاحتلال العسكري الأمريكي. فقد خدم سابقا في حرب الخليج 1990-1991، وفي
الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001، وكذلك في الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003.
وقد شغل "فنزل" رتبة عميد في الجيش الأمريكي، وعمل كزميل عسكري أول في مجلس العلاقات
الخارجية، كما كان العضو المؤسس لـ"مجلس شؤون الأمن القومي الطارئة". و"فنزل"
عضو مدى الحياة في مجلس العلاقات الخارجية، ومدير سابق لموظفي مجلس الأمن القومي في
البيت الأبيض. وقد شغل منصب كبير المستشارين العسكريين للممثل الخاص للمصالحة
الأفغانية في وزارة الخارجية الأمريكية، وهو مؤلف كتاب عن الاستراتيجية العسكرية
السوفييتية في أفغانستان.
وبناء على أوامر أمريكية، قام مديرا المخابرات المصرية والأردنية بزيارة استباقية لعباس،
قبل وصول بلينكن، للضغط على السلطة الفلسطينية لمضاعفة قمعها للمقاومة الفلسطينية.
ووفقا لتسريبات نشرتها الصحف، تقوم الولايات المتحدة بالتعاقد من الباطن مع حلفائها
المصريين والأردنيين على تدريب 12 ألف عنصر من قوات الأمن التابعة للسلطة
الفلسطينية على كيفية القضاء على المقاومة الفلسطينية بشكل أكثر كفاءة. وليست هذه
المرة الأولى التي يتم فيها التعاقد من الباطن مع هذين البلدين لهذه المهمة، فقد
شارك البلدان في تدريب ضباط أمن السلطة الفلسطينية على مدى العقدين الماضيين، لا
سيما في أثناء التحضيرات لانقلاب السلطة الفلسطينية على حكومة "حماس"
المنتخبة في 2006-2007.
يتواصل خوف السلطة الفلسطينية من إمكانية تقويضها نتيجة التقييمات المستمرة لعدم جدواها، لا سيما أن قدرتها على القضاء على المقاومة الفلسطينية للاحتلال العسكري الإسرائيلي، وهو السبب الذي أنشئت من أجله أصلا، لم تكن فعالة كما أملت الولايات المتحدة وإسرائيل.
كما
أمر بلينكن عباس خلال زيارته باستئناف التنسيق الأمني مع الإسرائيليين، لكن عباس،
الذي ادعى أنه كان قد أوقف "التنسيق" الأمني للسلطة الفلسطينية مع
إسرائيل الشهر الماضي بعد ارتكاب الإسرائيليين مذبحة جنين، أكد لمدير وكالة
المخابرات المركزية الزائر ويليام بيرنز أن "أجزاء" من التنسيق، بما في
ذلك "تبادل المعلومات الاستخباراتية"، تتواصل دون عوائق، رغم المجازر
الإسرائيلية المستمرة. بل أكد عباس لبيرنز أن "قوات الأمن التابعة للسلطة
الفلسطينية ستواصل عملية اعتقال المشتبه بهم بالإرهاب"، وأن "التنسيق
الأمني سيعود بالكامل بمجرد عودة الهدوء".
يتواصل
خوف السلطة الفلسطينية من إمكانية تقويضها نتيجة التقييمات المستمرة لعدم جدواها، لا
سيما أن قدرتها على القضاء على المقاومة الفلسطينية للاحتلال العسكري الإسرائيلي،
وهو السبب الذي أنشئت من أجله أصلا، لم تكن فعالة كما أملت الولايات المتحدة
وإسرائيل. وقد حذر جنرال إسرائيلي سابق في المخابرات العسكرية مؤخرا من الانهيار
الوشيك للسلطة الفلسطينية، كما أن دعوة معظم أعضاء اليمين في حكومة نتنياهو
الائتلافية مرارا وتكرارا إلى حل السلطة الفلسطينية، لا تبشر مسؤولي السلطة بخير.
ومن المثير للاهتمام أنه يبدو أن نتنياهو لم يُعلم شركاءه في الائتلاف بالمحادثات
السرية الأخيرة مع السلطة، خشية معارضتهم لها.
الافتقار إلى الخيارات هو ما أعاد إحياء الاهتمام بدور السلطة الفلسطينية الفاشلة. لكن رغم ذلك، فإن هذه الثقة الأمريكية المستحدثة بقدرة السلطة الفلسطينية على القضاء على المقاومة الفلسطينية، ليست مضمونة؛ حيث إن المد المتصاعد للمقاومة الفلسطينية عبر الضفة الغربية، وثبات المقاومة في غزة، ناهيك عن مقاومة المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، تَعِدُ بإحباط توقعات الولايات المتحدة وتوقعات حلفائها العرب.
لا
تستند هذه الثقة المستحدثة للولايات المتحدة، ولا ثقة حلفاء إسرائيل العرب، في دور
السلطة الفلسطينية؛ باعتبارها القوة الرئيسية المكلَّفة بقمع الفلسطينيين تحت
الاحتلال الإسرائيلي والقضاء على المقاومة، إلى الأداء المتدني للسلطة الفلسطينية،
بل إلى الافتقار إلى خيارات أخرى لدى الولايات المتحدة للحفاظ على الوضع الراهن. فقد
استثمرت الولايات المتحدة، شأنها في ذلك شأن إسرائيل وحلفائها العرب، في الحفاظ
على الوضع الراهن على مدى العقد الماضي على الأقل، لكنها تشعر بالقلق من أن
الحكومة الإسرائيلية الجديدة قد تُحدث تغييرا، مما قد يشكل خطرا غير محسوب على
بقاء إسرائيل في المستقبل، واستمرار احتلالها العسكري.
بما
أنه قد تم إنشاء السلطة الفلسطينية في عام 1993 لضمان استمرار بقاء إسرائيل
كمستعمرة استيطانية يهودية، بالإضافة إلى الإبقاء على احتلال دائم لأرض الفلسطينيين
في صيغ مختلفة، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها في حيرة من أمرهم، وهذا الافتقار
إلى الخيارات، هو ما أعاد إحياء الاهتمام بدور السلطة الفلسطينية الفاشلة. لكن رغم
ذلك، فإن هذه الثقة الأمريكية المستحدثة بقدرة السلطة الفلسطينية على القضاء على المقاومة
الفلسطينية، ليست مضمونة؛ حيث إن
المد المتصاعد للمقاومة الفلسطينية عبر الضفة
الغربية، وثبات المقاومة في غزة، ناهيك عن مقاومة المواطنين الفلسطينيين في
إسرائيل، تَعِدُ بإحباط توقعات الولايات المتحدة وتوقعات حلفائها العرب. أما
الإسرائيليون، فرغم استعدادهم لتجنيد السلطة والتباحث معها، إلا أنهم، على ما
يبدو، الوحيدون الذين يحسنون تقدير خطر المقاومة ويواصلون العمل والتخطيط العسكري
الاستراتيجي لمواجهته وفقا لتقديراتهم.