شهدت مدينة
القدس في الأيام الأخيرة، إضراباً عاما
وشاملاً وحركة عصيان مدني عمّت المدينة ومرافقها وأحيائها العربية، رداً على
سياسات العدوان الإسرائيلي المستهدفة المقدسيين، وخطط التهجير والهدم والاستيطان
والسطو والتضييق والعزل التي تمارس على السكان
الفلسطينيين منذ احتلال المدينة عام
1967، وجعلت من الأحياء العربية وسكانها يعيشون أوضاعاً صعبة وخطيرة.
تستعد القدس لموجة تصعيد، كما الأراضي الفلسطينية
المحتلة التي تواجه خطط حكومة نتنياهو وائتلافه الفاشي الذي أخذ على عاتقه سن
القوانين العنصرية وتكثيف العدوان الذي يكرس
الاحتلال ويفرض الأمر الواقع على
الأرض. والعصيان المدني في القدس يعيد للأذهان مرحلة الانتفاضة الأولى عام 1987 بتصعيد
أشكال المواجهة مع الاحتلال وسياساته العدوانية.
عصيان المقدسيين، تعبير عن ارتقاء في الوعي لمستوى
المخاطر التي يتعرضون لها، وجرس إنذار كبير علّه يوقظ بعض الضمائر العربية
والإسلامية والدولية. إن الوجود الفلسطيني في المدينة المقدسة هو جزء أصيل من هذه
الأرض وتاريخها وتراثها، ومن يرغب في تجاهل هذا الأمر يقوم بتفريغه من محتواه
بعبارات عدم اللجوء "لخطوات أحادية الجانب"، والاكتفاء بتحميل الشعب
الفلسطيني مسؤولية كفاحه لسياسة صهيونية عنصرية وفاشية بكل تفاصيلها التي خبرها
المقدسيون وكل الشعب الفلسطيني مع هذا الاحتلال ومشاريعه العدوانية.
فالعصيان المدني في القدس له عدة دلالات ومعانٍ،
خاصة وأنه جرى في ظل ظروف ومعطيات صعبة تمر بها القضية الفلسطينية وتعقيداتها
الداخلية والخارجية. والمنطقة العربية منهمكة بترميم تصدع بنيان الاستبداد العربي،
والمجتمع الدولي يواجه الغزو الروسي لأوكرانيا، وأخيراً كارثة الزلزال التي ضربت
تركيا وسوريا. الدلالة الأهم فلسطينياً تتمثل في كونها أحد تجليات وحدة الأرض
والقضية والشعب في الرد على سياسات الحكومة الفاشية في إسرائيل، لتؤكد من جديد
حقيقة لا يمكن القفز عنها بعدم اكتفاء الشعب الفلسطيني الوقوف مكتوف الأيدي حيال
سياسات العدوان الإسرائيلي، وتلك إشارة يجب التقاطها لا الإشادة والتغني بها
فلسطينيا وعربياً.
في بلدات القدس من العيسوية والرام ومخيم شعفاط
وصور باهر، إلى جبل المكبر والعيزرية وعناتا وكفر عقب، لبّى المقدسيون نداء
العصيان المدني والتصدي لقوات الاحتلال وجرافاته، واعتبروا أن قضية بقائهم على
الأرض في القدس وداخل أحيائهم هي استمرار لوجودهم فوق أرض فلسطين، والدفاع عنها
مكسب تاريخي، لذلك بقي في وعي الفلسطينيين والمقدسيين أن سياسة التهويد والطرد
والحصار والعزل والهدم تحت مزاعم إسرائيلية مختلفة؛ هي وسيلة من وسائل تجريد أصحاب
الأرض من حقهم بهدف تحويل سكان القدس لرعايا عرب معزولين وبدون هوية وطنية. وفي
إشارة العصيان المدني في القدس دعوة لتجديد النشاط الكفاحي داخل المدن الفلسطينية
المحتلة عام 48، لما تتعرض له من سياسات لا تقل خطورة عما تتعرض له القدس وسكانها
ومقدساتها.
تصميم الشعب الفلسطيني على مواصلة معركته ضد
المشروع الصهيوني وسياساته العنصرية، واختياره لنهج العصيان المدني في القدس يؤكد
أيضاً إصرار الفلسطينيين على مقاومة كل أشكال الاستلاب والإرهاب المادي والحضاري
والنفسي الذي تمارسه المؤسسة الصهيونية ضد أصحاب الأرض الأصليين، تصميم يأخذنا
مجدداً لطرح الأسئلة المؤسفة عن العجز الفلسطيني الرسمي وخلفه العربي عن القيام
بالحد الأدنى من مقتضيات دعم النضال الفلسطيني وحقه بالوجود، بالرغم من صراخ
الجميع بالحرص على السلام ومحبتهم له، والتمسك بنداء موجه للعالم بدعم حرية وعدالة
القضية، فذلك لم يُعد الأرض لأصحابها ولم يفكك مستوطنة واحدة، وطالما أن إيمان
البعض بكفاح شعبي وعقلاني، فإن العصيان المدني لمواجهة الاحتلال هو شكل من أشكال
المقاومة لسياساته وعدوانه فهو مطالب على الأقل إظهار بعض العصيان السياسي والتقاط
إشارة المقدسيين والانضمام لها ودعمها، بالإعلان عن إغلاق كل الطرق والممرات التي
ينفذ منها المشروع الصهيوني، وأن يكون العصيان المدني شاملاً لكل الأراضي
الفلسطينية في الضفة والقدس ورام الله والمقاطعة، وغزة والداخل الفلسطيني.
رسالة العصيان المدني في القدس، كانت موازية لصفعة
قوية وجهت لإسرائيل من جنوب أفريقيا وطرد وفدها من جلسات القمة هناك، فما زال في
هذه الأرض رسائل تنبعث من الأعماق وبصرخات مقدسية قوية مدوية في أرجاء المعمورة
تخاطب العالم قائلة إن الحرية والعدالة تبدأ في فلسطين. فهل هناك عبرة في العصيان
المقدسي، أم أن فرض الطاعة للصهيوني على البعض العربي والفلسطيني يندرج في رزنامة
زمن رديء؟ بمقاييس الزمن ومقاسات القيم والحقوق واختلاف المواقع والأدوار، يتصور
بعض المنصاعين لطاعة إسرائيل وسطوتها وجبروت من يدعمها أنهم يرسمون مستقبل المنطقة
كما يريدها المحتل والمتجبر والطاغية، لا كما يراها ويريدها المنتفض والثائر للظفر
بحرية ومواطنة وعدالة تُخلصه من محتل ومستبد ومتجبر.
twitter.com/nizar_sahli