لم أنسَ ما قاله رغم مرور كل هذه السنوات!
ففي منتصف الثمانينيات، قرأت في جريدة
"الأهالي"، التي يصدرها حزب التجمع الوطني الوحدوي، حواراً مع زعيم
الحزب خالد محيي الدين، أجرته معه الصحفية الراحلة نجاح عمر، وكان عنوانه بالبنط
العريض: "عبد الناصر اضطهدني وأحببته.. والسادات سمح لي بتأسيس حزب
وكرهته". وهو أمر شغلني كثيراً، فإذا تجاوزنا كراهيته للرئيس السادات، فإن ما
لم أستوعبه هو أن يحب المرء من نكل به، مهما كانت المبررات، وقد شغلني كذلك
التقدير الذي حمله اليسار للرئيس جمال عبد الناصر، رغم أنه اكتوى باستبداده، ولم
تصمد لدينا حكايات التعذيب في السجون التي رواها
الإخوان، إلا عندما قرأناها في
كتابات أهل اليسار الذين تعرضوا أيضاً لهذه التجربة القاسية!
مع الأيام اكتشفت أن خالد محيي الدين (أحد الضباط الأحرار)،
كان مبالغاً في حديثه عن الاضطهاد؛ ذلك أنه وإن أُبعد عن دائرة الحكم، فإن
التعامل معه لم يصل للاضطهاد، وظل قريباً من السلطة في دائرة أبعد ربما، بما لا
يتسق مع ما فعل، لأنه كان من الذين تزعموا الدعوة للديمقراطية، وتزعم ضباط سلاح
الفرسان، الذين كانوا أكثر استقامة من كثيرين من النخبة السياسية في هذه المرحلة،
فطالبوا بعودة الجيش لثكناته، وعودة الأحزاب والحياة النيابية، وإلا فسوف ينقلبون
على الانقلاب. ورغم ما تعرضوا له من تنكيل ومحاولة إبادة، إلا أن خالد محيي الدين
كانت له حظوة لدى عبد الناصر مع كل هذا، وظل هو يحمل تقديراً خاصاً للزعيم الأوحد.
وقد ذكر خالد محمد خالد في كتابه "دفاع عن الديمقراطية"، أنه طلب منه أن
يحدثه عن الزعيم الراحل قبل الثورة، وقد عرفه عن قرب، فقال محيي الدين: "لقد
كان شاباً يعيش مثالياته"!
أما موقف اليسار بشكل عام، الذي عمل مدافعاً عن عبد
الناصر وتجربته، فلأن أهل اليسار كانوا شركاء في الحكم، وكان السجن لا يمنعهم من العودة
إلى مربع الحاكم، وقد اعتبروا سجنهم من أخطاء التجربة، التي لا يمكن أن يسايروا بسببها
اليمين الرجعي في النيل منها والانقلاب عليها، ثم إن عبد الناصر بالنسبة لهم كان
صاحب مشروع وطني، يسعى للاستقلال التام، فما ضرهم لو تعرضوا لإهانة الاعتقال، وقد
خرجوا من التجربة إلى مؤسسات النظام!
موقف قوى الفشل السياسي:
ظاهرة خالد داود، الذي نال حقه من الاستبداد، ورأى رأي العين كيف تسيئ جهات التحقيق استخدام السلطة، فتوجه الاتهامات جزافاً، وتمد في الحبس الاحتياطي مدا، وقد مات والده وهو في المعتقل، ولم يمكّن من أن يكون بجواره في آخر أيامه، ثم لا يجد في هذا غضاضة، وإنما تكون مشكلته مع الإخوان، الذين لم يعتقلوه ولم يسجنوه وينكلوا به، لنكون أمام حالة مرضية، لا سيما وأنه لم يتعلم من التجربة أن يكون انساناً، وأن ينحاز للحرية ويكره الاستبداد
وخلاصة القول، فإن خالد محيي الدين (واليسار بشكل عام)، كان
شريكاً في الحكم بدرجة أو بأخرى، وإذا أمكن لي استيعاب موقف القوم، فإني أجد صعوبة
بالغة في فهم حالة قوى الفشل السياسي في
مصر، أو تلك التي يطلقون عليها الحركة
المدنية، بعد أن تبين الرشد من الغيّ، وبعد أن أوردوا بغباء منقطع النظير البلاد في
التهلكة، وأنظر إلى حالة خالد داود، فتدهشني هذه القدرة على التعامل كما لو كان
ممن يحكمون مصر الآن!
نعلم أن المهندس يحيى حسين عبد الهادي هو استثناء في
الحركة المدنية (لي تحفّظ على المسمى)، وقد أبدى الرجل عتابه لهذه الحركة لأنها لم
تقم بالدفاع عن المعتقلين من الإخوان، وكل من أدينوا بعد حزيران/ يونيو 2013، وكان
من الصدق بمكان، إلى درجة أنه لم يلف أو يدور، وذكر أسماء بعينها يعنيها بمطلبه
هذا؛ يكفي أن تُذكر أمام أحد من القوى المدنية حتى "يقطع الخلف" من
الفزع، فذكر محمد بديع وخيرت الشاطر والبلتاجي، فانبعث أشقاها وكتب مقالاً ليرد
عليه!
قبل أن نتعرض للعناصر الرئيسية في المقال، فإنني ألفت
الانتباه الى ظاهرة خالد داود، الذي نال حقه من الاستبداد، ورأى رأي العين كيف
تسيئ جهات التحقيق استخدام السلطة، فتوجه الاتهامات جزافاً، وتمد في الحبس
الاحتياطي مدا، وقد مات والده وهو في المعتقل، ولم يمكّن من أن يكون بجواره في آخر
أيامه، ثم لا يجد في هذا غضاضة، وإنما تكون مشكلته مع الإخوان، الذين لم يعتقلوه
ولم يسجنوه وينكلوا به، لنكون أمام حالة مرضية، لا سيما وأنه لم يتعلم من التجربة
أن يكون انساناً، وأن ينحاز للحرية ويكره الاستبداد، كما كثيرون لم يكونوا من دعاتها،
لكن التجربة ارتفعت بهم ليكونوا من رموزها.. مصطفى أمين نموذجاً!
لقد حاول أنيس منصور في كتابه عن عبد الناصر، شرح ظاهرة
اليساري الذي خرج من السجن مؤيداً لعبد الناصر، فاعتبرها صورة قريبة من هذه
القروية البلهاء والبسيطة، التي يقصفها زوجها بحذائه فتعيده اليه ممتنة. لكن أنيس
كان قاسياً في تشبيهه هذا، فاليساري (المعتقل السابق) كان يرى في عبد الناصر
حاكماً وطنياً، ثم إنه لم يخرج باعتقاله من دائرة الحكم، ومن الحضور في مؤسساته،
فهل يجرؤ خالد داود أن يقول إن
السيسي صاحب مشروع استقلال وطني كما عبد الناصر، أو
أنه خرج من محبسه ليكون شريكاً في الحكم؟ فما هو محله من الإعراب الآن؟!
الأسطوانة المشروخة:
لقد رفض السجين السابق خالد داود دعوة يحيى حسين عبد
الهادي، وعاد وزاد في ذات الأسطوانة المشروخة، وكيف أن الإخوان رفضوا المشاركة في
الحكم. ومثلي لا يجادل في أن أزمة كثيرين من معارضي الإخوان في هذا العام، كانت
تتمثل في أنهم يريدون ان يكونوا شركاء فيه، وبدا الإخوان في شوق للحكم، فلما آتاهم
الله من فضله بخلوا به، لكني الآن عرفت أن مفهوم الشراكة ليس كما فهمته وفهمه
الإخوان، فتصوري وتصورهم أنهم كانوا يريدون مواقع نافذة، مثل رئاسة الحكومة،
والحقائب الوزارية المهمة والسيادية، ولم أعرف ويعرفوا أن القوم كانوا أكثر
تواضعاً من هذه التصورات، فغاية المُنى أن يكون أحدهم "مخبراً"، يشعر
بالشراكة في الحكم إذا استدعاه مسؤول أمني ليجلس في حضرته!
عرفت أن مفهوم الشراكة ليس كما فهمته وفهمه الإخوان، فتصوري وتصورهم أنهم كانوا يريدون مواقع نافذة، مثل رئاسة الحكومة، والحقائب الوزارية المهمة والسيادية، ولم أعرف ويعرفوا أن القوم كانوا أكثر تواضعاً من هذه التصورات، فغاية المُنى أن يكون أحدهم "مخبراً"، يشعر بالشراكة في الحكم إذا استدعاه مسؤول أمني ليجلس في حضرته!
فماذا أخذت ريح الحركة المدنية (مع تحفظي على المسمى)،
من بلاط السلطة القائمة، يدفعها للاعتقاد أنها شريكة في الملك؟ والقوم يصابون
بتورم الذات، لمجرد أن تم توجيه الدعوة لهم لمكلمة اسمها الحوار الوطني، تحرص
السلطة أن تكون بعيداً عن مقارها الرسمية، وعن مؤسساتها، ومن غير رموزها!
وإذا كانوا يرون أن الإخوان خانوا اتفاق هيرميس، فهل
أوفى الجنرال بالعهود كلها، أم أنه استغل جريمتهم في 30 يونيو، وشغفهم بالحكم،
ليقوم بانقلابه، وينفرد بالحكم ويشملهم التنكيل، ويمنعهم بقوة السلاح من ممارسة
السياسة؟ فإذا اعتبروا أن انفراد الإخوان بالحكم سبباً في تكتلهم هم ضده، فهل هم
شركاء في الحكم الآن؟ أم أنهم متواضعون للاعتقاد أن وظيفة مخبر هي شراكة مكتملة ،
ليكون النموذج المعبر عنهم هو ما جاء في مسرحية "ريا وسكينة"، عندما
رقصت الأختان بعد زواج إحداهما من الشاويش عبد العال (أحمد بدير)، وقامتا بالغناء:
"ناسبنا الحكومة وبقينا حبايب.. حبايب قرايب"، وباعتبار أن الشاويش
المذكور هو الحكومة، وأن كل طلبات قوى الفشل السياسي أن تكون في "جوار
السلطة"، فتكون الصورة المعبرة عنهم هي التي رسمها أنيس منصور لهذه القروية
المغلوبة على أمرها؛ تُضرب بالحذاء فتعيده إلى قدم الزوج المفتري؟!
دولة الإخوان الدينية:
يحكي خالد داود انتفاخاً صولة الأسد، فلا تميز بينه وبين
الحاكم، وهو يرفض الإفراج عن المتهمين من الإخوان، ويرفض الحس الإنساني في يحيى
حسين عبد الهادي، وحجته في ذلك أن الإخوان يريدون إقامة الدولة الدينية، دون أن
يقول لنا هتلر زمانه كيف يكون التعامل مع دعاة الدولة الدينية، حتى يتم استئصالهم
تماماً!
إنه الإفلاس الذي دفع واحداً من رموز التيار المدني، للعزف
على نفس اللحن، رغم تغير الأجواء، وقد ذكّر بسيّئة الذكر جبهة الإنقاذ في مقاله
هذا، مع أنها عورة تبدت الآن للناظرين، وجب على الجميع عدم التذكير بها، فما هي
الأسباب التي دفعت لتشكيل جبهة الإنقاذ ودعوتها البلهاء لانتخابات رئاسية مبكرة،
لم تحدث بالفعل الآن؟!
الإخوان لم يقيموا الدولة الدينية، ولم يرددوا شعاراتها، لكن هذه الدولة قائمة الآن، فهل حديث قال الله لي، وقلت له، ومنحني البركة، وأنه من سيحاسبني، الى آخر ما يردده الجنرال حديث ينتمي للدولة المدنية الحديثة؟!
إن الإخوان لم يقيموا الدولة الدينية، ولم يرددوا
شعاراتها، لكن هذه الدولة قائمة الآن، فهل حديث قال الله لي، وقلت له، ومنحني البركة،
وأنه من سيحاسبني، الى آخر ما يردده الجنرال حديث ينتمي للدولة المدنية الحديثة؟!
لا أعرف من أين يأتي خالد داود وقومه بهذه الشعور
بالانتصار، إلا إذا كنا في مرحلة شعور سفرجي الباشا أنه الباشا إذا غاب، ولعل
فيلماً من زمن الأبيض والأسود رسم هذه الصورة القريبة من حالة قوى الفشل، التي
أدخلت البلاد في النفق المظلم، ثم وجدنا منهم من لديه فائض من الشجاعة فذهب يتصور أنه
الحاكم أو أنه شريك في الحكم، وباعتبار أن الدولة القائمة في مصر الآن هي دولتهم،
ليتم تذكيري بحكاية تختزنها الذاكرة عن "خفير نظامي" ببلدتنا، وقد توقف
مشروع رصف الطرق بعد وعد به، فقال وقد تمدد بالحرارة: "احنا يا حكومة يومنا
بسنة"، إي وربي!
نحن نقدر ظروف قوى الفشل السياسي في مصر، فلن يخرج
الإخوان من السجون إلا في إطار مصالحة، وهذه المصالحة ستكون نتيجتها أن يستبدل
الحاكم ظهيراً مكان ظهير، وعندئذ سيخسر خالد داود وفرقته الموسيقية مكانتهم
الوظيفية، التي كانت سبباً في التذلل لمن سجنه، وأذله، ونكّل به، وحرمه من أن يكون
بجانب والده في أيامه الأخيرة، وكأنه أصيب بمتلازمة استكهولم!
فكم عمر الانسحاق؟!
twitter.com/selimazouz1