راعَني في كارثةِ الزلزالِ أمْرَان

شدّوا بعضكم يا أهل فلسطين.. شدّوا بعضكم.. هكذا خلدَ صوتُها في مُخيّلتنا، وإذ بنا اليوم نسمع في منصة يوتيوب وقعاً آخر ربّما يخلد في مخيّلتنا أيضاً، وذلك حينما أنشدَ أحد المكلومين: شدّوا بعضكم يا أهل سوريا شدّوا بعضكم، في إشارةٍ واضحةٍ إلى نكبةٍ جديدةٍ ألمّت بالشقيقة سوريا وجارتها تركيا اللتين تعرّضتا لزلزالٍ مروّع، أوقعَ الآلاف من الشهداء والمنكوبين، وجعلَ العالم كلّه أمام كارثةٍ من العيار الثقيل، طالت الأرواح والمباني السكنية وولاياتٍ بأكملها..

لن أتحدّث عن هولِ المُصاب الجلل، فوسائل التواصل الاجتماعي غصّت بالمواد المؤلمة التي لامست قلوبنا وأبكتنا حتى ابتلّت خدودنا، وجعلت منّا مادةً دسمة للحزن والكآبة التي خيّمت على تفاصيل حياتنا اليومية، لأننا جزءٌ لا يتجزأ من الحدث رغم فوارق الجغرافيا، ولكنني أحاولُ يائساً استنهاض اليسير من الأمل في خضمّ السوداويّة التي طغت على المشهد، ولعلّي وُفّقتُ في إبرازِ مشهدٍ واحدٍ أو مشهدين اثنين، أصبحا بمثابة العزاءِ لقلوبنا..

المشهد الأول: هو مشهد الشعب التركي الذي توحّد تحت راية الإنسانية بشقّيه المعارض والمؤيّد للحكومة، فزالت أمام ضربات الزلزال كل فوارق السياسة، رغم أنّ الانتخابات الرئاسية التركية كانت على الأبواب، ومن المفترض أن تشهد الساحة خصوماتٍ سياسية، وهذا هو المتعارف عليه قُبيل أي انتخاباتٍ في العالم، ولكنّ الأتراك تمكنوا بوعيهم الكبير من الدوس على كل هذه القشور والهوامش والسطحيات، والتحموا جميعاً تحت راية واحدة لإغاثةِ المنكوبين، وهبّوا ووقفوا على قلبِ رجلٍ واحد، وكأنّ البلاد خلت من أيّ اعتباراتٍ حزبية أو انتخابية.

وهذا ليس بالجديد حقيقةً على الشعب التركي الذي كان قد التحم سابقاً بعد المحاولة الانقلابية التي عصفت بالبلاد عام 2016، والتي كادت أن تأخذ البلاد إلى الهاوية لولا أن رأى العالمُ أجمع آنذاك، شعباً واحداً يتصدّى لدبابات الانقلابيين، وأحزاباً معارضة أثبتت ولاءها للوطن رغم خلافها السياسي مع الحزب الحاكم، ورغم البعد في عوامل وقضايا الإقليم.

واليوم يكرّر الشعب التركي هذه الوقفة الجادة أمام انقلابٍ من نوعٍ آخر، ألا وهو انقلاب الأرض والأبنية السكنية على رؤوس ساكنيها في عشرِ ولايات، فبعد أن كنا أمام شريفة وسَما سابقاً، أصبحنا اليوم أمام شريفة وسما من نوعٍ آخر. ولمن لا يعرف شريفة وسما، فهما امرأتان تركيّتان تنتميان لِفكرين مختلفين، إحداهما ترتدي الحجاب والأخرى غير محجبة، كانتا قد هبّتا لنجدة جرحى محاولة الانقلاب، وتناوبتا على قيادةِ شاحنةٍ كبيرة من أجل نقل الجرحى. وقد وثّقت قناة الجزيرة آنذاك المشهد في تقريرٍ مصوّر ما يزال موجوداً على يوتيوب حتى هذه اللحظة.

واليوم كذلك تهب نساء تركيا ورجالها لنجدةِ المنكوبين، وكلنا سمع ذلك الطيار التركي الذي كان يقود الطائرة بعد الزلزال المدمّر، متوجّهاً إلى الولايات التركية المنكوبة، حيث قال في بداية الرحلة إنه لا داعي لذكر أسماء وألقاب لي ولمساعدي في هذه الرحلة لأننا كلنا جنودٌ مجهولون سخّرنا أنفسنا لإغاثة الملهوفين، فهذه المرة سوف يختلف التعريف ولن تكون لنا مهمة سوى أن نكون عند إخوتنا كي نغيثهم..

أضف إلى ذلك أنّ شركات الطيران التركية قد منحت التذاكر لزبائنها بالمجان، أو بأسعار رمزية، وذلك من أجل تسهيل عمليات الإنقاذ والوقوف على شؤون المنكوبين، وتقديم العون لهم في الوقت المناسب، بالإضافة إلى الفنادق المجانية التي تمّ فتحُها أمام المشردين في مرسين وأنطاليا وإسطنبول، وكذلك الجولات التفقدية التي قام بها وزراء الحكومة التركية والرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي زار مناطق الزلزال، وعانقَ النساء والأطفالَ وسائر المتضرّرين، وحاولَ تخفيف المصاب عنهم، وقطعَ لهم وعوداً بأن الدولة التركية سوف تكون في خدمتهم على مدار الساعة، ولن يتوانى أحد أيّاً علا منصبه عن تقديم العون والقيام بواجبه، وبأنّ الحكومة التركية سوف تبني بيوتاً جديدة أفضل من السابقة، وسوف تمنح العائلات المتضررة مبالغ مالية بشكل مبدئي، بالإضافة إلى حالة الاستنفار القصوى التي تعيشها البلاد..

نحن أمام مشهدٍ عظيم، فالبلد بأكمله وقف على قدميه مستنفراً، شعباً وحكومة، معارضة وموالاة، حزب حاكم وحزب معارض، لدرجة أنّ المواطن التركي شعر بشيء من الدفء الذي افتقده إثر الزلزال المروّع الذي وضعَ الجميع أمام امتحانٍ صعبٍ للغاية، امتحانِ الإنسانية وأصحاب الضمائر الحية الذين يضعون خلافاتهم واعتباراتهم السياسية أمام أول نداء استغاثة يأتيهم من تحت الركام..

ماذا يمكن أن نسمّي ذلك الموقف الذي تبنّته صحيفة شارلي إيبدو الفرنسية، حين أبدت شماتتها بضحايا الزلزال في تركيا؟ وتحت أي مُسمّى يمكن أن نُدرِج صنيعها؟ وكيف يمكن للفرنسيين بمختلف توجّهاتهم أن يتغاضوا عن ذلك الرسم الذي يفتقد إلى أدنى درجات الشرف الإنساني؟ ليس هذا فحسب، بل إنّ الصحيفة أدرجت عبارة ضمن الرسم تقول فيها إنه ليست هناك حاجة لإرسال دبابات إلى تركيا، فالبلد قد دُمّر باعتقادها

المشهد الثاني: هو حين يُعرّي الزلزال أصحاب الأخلاق المريضة على حقيقتهم، تلك الأخلاق التي تنزل بأصحابها إلى الحضيض، وتجعل منهم أشخاصاً أغبياء لا يمتّون إلى الإنسانية بصلة، لدرجة أنك تكاد تسأل نفسك السؤال التالي وأنت تراقب مواقفهم: هل من المعقول أنّ كوكباً واحداً يجمعنا مع هؤلاء الصنف من البشر؟! أمْ أنهم يستحقون العيش خارج نطاق البشرية جمعاء، لأنّ الضباع وسائر حيوانات الغابة تخجل من تبنّي مواقف كتلك التي تبنّوها بوقاحة منقطعة النظير، فماذا يمكن أن نسمّي ذلك الموقف الذي تبنّته صحيفة شارلي إيبدو الفرنسية، حين أبدت شماتتها بضحايا الزلزال في تركيا؟ وتحت أي مُسمّى يمكن أن نُدرِج صنيعها؟ وكيف يمكن للفرنسيين بمختلف توجّهاتهم أن يتغاضوا عن ذلك الرسم الذي يفتقد إلى أدنى درجات الشرف الإنساني؟ ليس هذا فحسب، بل إنّ الصحيفة أدرجت عبارة ضمن الرسم تقول فيها إنه ليست هناك حاجة لإرسال دبابات إلى تركيا، فالبلد قد دُمّر باعتقادها.

وهنا أسأل: عن أي دبابات يتحدث هؤلاء المغيّبون عن الواقع؟ إذا كانت أوكرانيا التي هي على مرمى حجر منهم لم يصلها منهم سوى الفتات وهي البلد الأوروبي النصير لهم، فكيف لدباباتهم أن تصل إلى تركيا وتحاربها، وهم يعلمون ما هي فاتورة هذا التصرف اللا مسؤول؟! هل نسوا التاريخ؟ أم أنهم بحاجة إلى من يذكّرهم بالسلطان سليمان القانوني الذي أجبرهم ذات مرة على الرقص سراً في عقر بلادهم لأعوامٍ مديدة، وذلك حينما هددهم بضرورة إلغاء مظاهر المجون والفجور في بلادهم خشية انتقال العدوى إلى الدولة العثمانية؟ هل يريدون نبش التاريخ الذي لا يصبّ في مصلحتهم أبداً؟

ليس هذا فحسب، بل تابعت تغريدة للمحلل الإسرائيلي إيدي كوهين في اليوم الأول للزلزال، أبدى فيها هو الآخر شماتته بما حدث في تركيا، حينما وصفه بأنه غضبٌ من الرب على تركيا التي يحكمها الإخونج، وتابعَ القول إنه لو كان الزلزال في دولة الاحتلال لشمتَ فيهم الكثيرون، وبالتالي من حقه أن يشمت. ولكنّ دولته سرعان ما تبنّت موقفاً مغايراً لِما وردَ في تغريدته المستفزّة، حيث سارعت إلى إرسال جملة من المساعدات الإغاثية وفرق الإنقاذ إلى تركيا للمساهمة في تخفيف أضرار الزلزال، لتظهر بمظهر الحمل الوديع الذي لم يؤذِ أحداً في حياته قط..

نعم سوف تنتهي كل تبعات الزلزال بإذن الله، وسوف تنهض تركيا من جديد وتستعيد عافيتها ودورها في المنطقة، ولن يبقى من كل هؤلاء الشامتين الأوغاد سوى أقلامهم وتغريداتهم التي سوف تظل وصمة عار على جبينهم حتى قيام الساعة..