كتاب عربي 21

"الشعراوي" بين الدولة المصرية ودولة السيسي!

تحاول "دولة السيسي" اغتيال قامة كبرى متمثلة في شخص الشعراوي
اللافت في الحملة القومية على الشيخ محمد متولي الشعراوي، أنها تنطلق من الإعلام المملوك للسلطة، كما أنها تحدد معالم الدولة الحالية، وهي أنها ليست ما درج على تسميتها بـ"الدولة المصرية"، ولكنها دولة أخرى، على نحو كاشف أن السيسي في حديثه حد الملل عن "الدولة" لم يكن وفيّاً لها، فقد أقام دولته الموازية؛ وهي في حدود المعسكر، وليست هي الدولة التي تسلمها السادات من عبد الناصر، وتسلمها منه مبارك، بل وتسلمها عبد الناصر من العهد الذي كان يصفه بـ"العهد البائد"، فلم يكن نظامه (عبد الناصر) في قطيعة مع هذا العهد على مستوى الأفراد، وبعيداً عن معركته مع الإقطاع، فلم يعادِ العوائل القائمة، واستعانت دولته بعناصر من تجربة حزبية انتهت، مثل فتحي رضوان، وسيد مرعي، والقائمة طويلة!

الحملة انطلقت من جريدة "المصري اليوم"، المملوكة للسلطة، وانطلقت بعد ذلك من قنوات تلفزيونية مملوكة لها، وإذا كانت برامجها تفتقد للمشاهدين، فإن مواقع مملوكة للأجهزة الأمنية مثل "القاهرة 24"، هي التي نقلت هذا الهجوم عبر منصات التواصل الاجتماعي. ولا يعمل إبراهيم عيسى في قناة خاصة، مملوكة أو ممولة من راعيه التقليدي نجيب ساويرس، ولكنه يعمل في قناة مملوكة للدولة الجديدة، وإن دخلت على الخط قناة "صدى البلد" من خلال "عزة مصطفى"، وهي قناة مملوكة لرجل الأعمال محمد أبو العينين، وكذلك جريدة "الشروق" المملوكة لمحمد المعلم، فنحن نعلم كيف يدار الإعلام في مصر!
نحن أمام دولة السيسي لا الدولة المصرية، وهي تتجاهل الأزهر، ولا تتعامل معه بما نص عليه الدستور، بأنه صاحب الولاية في أمور الدين، ويُستبعد من إبداء الرأي في مشروع قانون الأحوال الشخصية وهو من صميم اختصاصه، بل يتم تجاهل موقفه من قضية الطلاق الشفهي، ثم يتم تجاهل دفاعه عن رمز من رموزه

ولا يُرد علينا بأنه تحرك شخصي من إعلاميين بعينهم، ربما يندفعون بحثاً عن الشهرة بالتطاول على صاحب مقام كبير كالشيخ الشعراوي، وليس من المنطق أن نطالب بإسكاتهم لأن النظام يحترم حرية الرأي، فقد كان يمكنه باعتباره المالك والموجه، أن يمد الحبل على استقامته، فيسمح بالرأي الآخر، وليس من المنطق أن يفسح المجال لأصوات تهاجم الشيخ الشعراوي، ويمنع الأصوات المدافعة عنه، ولا يصل دفاع الأزهر وهو مؤسسة رسمية من مؤسسات الدولة إلى هذا الإعلام الموتور، الذي تديره الدولة الجديدة!

وهنا نكون قد وصلت إلى "بيت القصيد"، فنحن أمام دولة السيسي لا الدولة المصرية، وهي تتجاهل الأزهر، ولا تتعامل معه بما نص عليه الدستور، بأنه صاحب الولاية في أمور الدين، ويُستبعد من إبداء الرأي في مشروع قانون الأحوال الشخصية وهو من صميم اختصاصه، بل يتم تجاهل موقفه من قضية الطلاق الشفهي، ثم يتم تجاهل دفاعه عن رمز من رموزه، بل من الرموز المصرية، شعباً ودولة، وهو ما سنوضحه بعد قليل!

الشعراوي وجيهان السادات:

لقد تحدث إبراهيم عيسى باسم "الدولة الموازية"، فاستنكر أن يقدم المسرح القومي (المملوك للدولة) أمسية عن الشيخ الشعراوي، فلو فعلها أحد بعيداً عن الدولة فهو حر، الأمر نفسه قالته "عزة مصطفى"، و"شريف الشوباشي"، وبما قالوا تتحدد لنا معالم الدولة الحالية، وحدودها، وقيمها، وهي تسقط قيمة كبرى كالشيخ الشعراوي ليتحدث باسمها هؤلاء الأنطاع!

هو رجل دولة، وشغل موقع الوزير، وكان يقدم خواطره حول القرآن الكريم في تلفزيونها، وكان يمكن أن يكون شيخاً للأزهر، والشائع أنه اعتذر عن الموقف، لكن الحقيقة غير هذا
فالشيخ الشعراوي ليس هو الشيخ عبد الحميد كشك، أو الشيخ أحمد المحلاوي، أو الشيخ عمر عبد الرحمن، وغيرهم ممن يصنفون بأنهم معارضون للنظام، فهو رجل دولة، وشغل موقع الوزير، وكان يقدم خواطره حول القرآن الكريم في تلفزيونها، وكان يمكن أن يكون شيخاً للأزهر، والشائع أنه اعتذر عن الموقف، لكن الحقيقة غير هذا، والأمر يحتاج إلى توضيح من باب أن الشيء بالشيء يذكر، وإن مثل خروجاً على السياق العام لهذا المقال.

فعندما عُرضت عليه وزارة الأوقاف كان يعمل في جامعة الملك عبد العزيز بالمملكة العربية السعودية، وقد اعتذر للسادات الذي تمسك بعرضه، لسابق علاقة ربطتهما معاً، وقبِل المنصب على مضض، وكانت له مواقف شجاعة في التصدي لفساد الوزارة، ومواجهة من كانت سلطته في الوزارة أنه فوق الوزارة وأعلى قدراً من الوزير، وهو الضابط محمد توفيق عويضة، الذي كان من مراكز القوى وعنواناً للفساد في هذه الفترة، لكن الاقتراب منه كان يحتاج لرجال، وكان الشيخ الشعراوي أرجل الرجال!

لقد تقدم النائب الشيخ صلاح أبو إسماعيل باستجواب ضد الوزير الشيخ الشعراوي حول فساد الأوقاف، والذي جاء للبرلمان بحكم موقعه الوزاري ليرد على الاستجواب، وبدأ مرافعته بقوله: "كبير على عمامة أن تستجوب أختها"؛ والاستجواب اتهام، ثم فاجأ الجميع بما قال، ولم يسبقه إليه وزير، ولم يقلده فيه وزير إلى الآن: "ما جئت لأرد على الاستجواب، ولكن جئت لأردد الاستجواب"، وسط تصفيق النواب ارتجت له القاعة. وعند أول فرصة وجدها مواتية عزل مندوب الضباط في الوزارة منذ زمن عبد الناصر، على الرغم من قربه من السادات وأهل بيته! غير مكترث بانحياز السيدة جيهان السادات لـ"عويضة"، والتي اعترضت على قرار الشعراوي، وما كان لاعتراضها أن ينتج أثراً في مواجهة هذه القامة الكبيرة، فأسرّتها في نفسها، وكانت تردد في جلساتها الخاصة أنها ستقيله، وعندما وصله ذلك، قال لقد رفضتُ الوزارة وطلبتُ أكثر من مرة إعفائي فلست متمسكاً بها!

ثم حدث ما أوغر صدر حرم الرئيس الراحل، عندما دعته وهو يشغل موقع الوزير لإلقاء كلمة لقاء مع صديقاتها سيدات مصر الجديدة، لكنه عندما دخل القاعة ووجدهن سافرات، خرج مسرعاً وترك جيهان السادات في حرج بالغ، فهل وقفت وراء عدم تعيينه شيخاً للأزهر؟!

لقد أرسل السادات إليه نائب رئيس الوزراء فؤاد محيي الدين ليعرض عليه المنصب خلفاً للشيخ عبد الحليم محمود، وعاد ليقول للسادات إن الشعراوي اعتذر، ولم يكن هذا صحيحاً والصحيح أنه لم يعرض عليه المنصب!

ومهما يكن فنحن أمام شخصية شجاعة في الحق، وفيّة لمبادئها، فيقيل واحداً من مراكز القوى، ولا يهتم بإحراج سيدة مصر الأولى، لأنه رأى في عدم إحراجها ما يخالف مبادئه. ولا غرو فنحن لسنا أمام مجرد درويش في الموالد، فقد كان من شباب الوفد، وكان النحاس باشا يعتز به منذ أن كان طالباً أزهرياً، وكثيراً ما خرج في مظاهرات ضد الإنجليز، لنستعير عبارة القذافي الشهيرة لمواجهة المتحدثين باسم الدولة الجديدة أو الموازية: من أنتم؟!

ما قالته الراقصة المتقاعدة:
في أجواء الهجوم على الشيخ الشعراوي، المنطلق من إعلام السلطة، خرجت وزيرة الثقافة بأول تصريح لها، ليست مدافعة عن رمز من رموز الدولة المصرية، فقد قالت إن لها تحفظات عليه ولن تقدم عرضاً مسرحياً عنه، فهل كانت تعبر عن ذاتها، وهي من جهلاء العصر، ولم يُسمع رأي لها في أي قضية أو أي موضوع من قبل أو من بعد، أم كانت تتحدث عن قيم الدولة الجديدة، التي ليست هي الدولة المصرية؟

وفي أجواء الهجوم على الشيخ الشعراوي، المنطلق من إعلام السلطة، خرجت وزيرة الثقافة بأول تصريح لها، ليست مدافعة عن رمز من رموز الدولة المصرية، فقد قالت إن لها تحفظات عليه ولن تقدم عرضاً مسرحياً عنه، فهل كانت تعبر عن ذاتها، وهي من جهلاء العصر، ولم يُسمع رأي لها في أي قضية أو أي موضوع من قبل أو من بعد، أم كانت تتحدث عن قيم الدولة الجديدة، التي ليست هي الدولة المصرية؟ ولم يكن لأي وزير في عهد مبارك أن يجرؤ على إعلان مثل هذا الموقف، رغم أن جهازه الأمني ضيّق الأفق لم يكن سعيداً بشعبيته الجارفة، وبعد وفاته انبعث أشقاها حبيب العادلي ليطلب أن تكون الجنازة من قريته، حتى لا تكون حاشدة، مع نظام يرى نفسه في حجم عقلة الإصبع، ويرى أن كل حضور جماهيري حول شخص ما إنما هو تقزيم له!

لقد كانت وزارة الثقافة ومنذ نشأتها من نصيب قمم صرية، تُحسب على الثقافة والفكر، عدا التشكيلي فاروق حسني، فهل يُعتقد أنه كان يمكن في أي موقف أن يقول مثل الرأي الذي قالته البائسة "نيفين الكيلاني"، راقصة البالية المتقاعدة، في قناة "القاهرة والناس" التي آلت ملكيتها للجمهورية الجديدة؟!

في الثمانينات أصدر يوسف إدريس كتابه "فقر الفكر وفكر الفقر"، وهو تجميع لمقالات نشرها، مع إضافات لم يكن أبداً يُسمح أن تمرر عبر صحيفة مملوكة للدولة مثل "الأهرام" حيث يكتب، وكان من هذه الإضافات أن الشعراوي هو نصف ممثل وأنه ممثل غير موهوب، والتقط العبارة محمد عبد القدوس وكان مشرفاً على الصفحة الدينية في الصحيفة الأوسع انتشاراً في هذا الوقت "أخبار اليوم"، حيث كان توزيعها يتجاوز المليون نسخة!

وعرض هذا التطاول على عدد من القيادات السياسية والفكرية فاستنكروه جميعاً، وخرج يوسف إدريس مضطرباً وهو يقول إنه لم يكتب هذا؛ مرة أنها عبارة دُسّت على الكتاب، ومرة أنها خطأ مطبعي!

فهذه هي الدولة المصرية مع أحد رموزها، لكن الوضع اختلف الآن، لتبدو المعركة مفتعلة تماماً، فليس هناك عرض مسرحي عن شخصية الشيخ كما قال الناقد الفني طارق الشناوي عبر "المصري اليوم"، والذي لم نقرأ له هجوما إلا ضد "نبيلة عبيد"، وتوقف هجومه عليها في عهد حبيب العادلي، فمن أقحمه في هذه القضايا الفكرية؟!

لقد تبين أنه ليس عرضاً مسرحياً، ولكنها أمسيات يقدمها المسرح القومي في شهر رمضان، وهناك لجنة لاختيار شخصيات دينية تتناسب مع الشهر الفضيل، ومن ضمن اللجنة الفنانة سميحة أيوب، ولم نعرف أسماء من وقع الاختيار عليهم سوى الشيخ الشعراوي، ولم تهتم صحافة آخر الزمان بالتوصل لهذه الأسماء، كما لم يهتم إعلام السلطة الموازية باستضافة أعضاء اللجنة للدفاع عن اختيارهم وحيثياته!

إذا كانت الأمسيات عن شخصيات رمضانية، فمن هي القامة التي يمكن تكون أكثر حضوراً من الشيخ الشعراوي إلا إذا كان من مقومات الجمهورية الجديدة، اختراع دين جديد، يكون رموزه محمد رمضان ونجوم مسلسل الاختيار؟!
وإذا كانت الأمسيات عن شخصيات رمضانية، فمن هي القامة التي يمكن تكون أكثر حضوراً من الشيخ الشعراوي إلا إذا كان من مقومات الجمهورية الجديدة، اختراع دين جديد، يكون رموزه محمد رمضان ونجوم مسلسل الاختيار؟!

وماذا لو كان عرضاً مسرحياً؟ فمدينة الإنتاج الإعلامي هي من أنتجت مسلسل "إمام الدعاة" عن قصة حياة الشيخ الشعراوي، وعرضه التلفزيون المصري في الشهر الفضيل، والتف حوله المصريون، ولم يجدوا في هذا غضاضة، على النحو الذي تراه أبواق الدولة الجديدة؛ الموازية، وهي دولة في عداء مع كل رموز مصر، لا سيما في مجال الدين، لأن "الحاكم الضرورة" يريد أن ينسف الجميع، ليكون هو الممثل الرسمي والوحيد للإسلام، معتبراً آراءه المسكونة بالتشويش هي من عند الله، وهو الحاكم بالحق الإلهي. وقد رأينا كيف نحّى دعاء الشعراوي عقب الأذان في الإذاعة والتلفزيون، مستبدلاً دعاءه هو به، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد ضربت كورونا العالم، وتوقف الأذان والصلاة في المساجد، وبعد العودة عاد صوت الشعراوي، فهل كان هذا انتظاراً لمرحلة جديدة يغرون به غلمانهم لتشويه الشيخ؟!

لو تحول الناس إلى كناسين ليثيروا التراب على السماء، لما كان مرجع الغبار إلا عليهم، وبقيت السماء ضاحكة صافية تتلألأ (أو كما قال الرافعي).

twitter.com/selimazouz1